تتمة شرح مسلم باب استحباب العفو والتواضع
(المسألة الثانية): من الأخلاق المحمودة: العفو والصفح
1) معنى العفو والصفح لغةً واصطلاحًا:
معنى العفو لغةً:
العفو مصدر عَفَا يَعْفُو عَفْوًا، فهو عافٍ وعَفُوٌّ، والعَفْوُ هو التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه، وأصله المحو والطمس، وعفوت عن الحق: أسقطته، كأنك محوته عن الذي عليه ..
وقال الخليل: (وكلُّ مَن استحقَّ عُقوبةً فتركْتَه فقد عفوتَ عنه. وقد يكون أن يعفُوَ الإنسان عن الشَّيء بمعنى الترك، ولا يكون ذلك عن استحقاق).
معنى العفو اصطلاحًا:
العفو اصطلاحًا: (هو التجاوز عن الذنب وترك العقاب).
وقال الراغب: (العفو هو التجافي عن الذنب).
وقيل: (هو القصد لتناول الشيء، والتجاوز عن الذنب).
معنى الصفح لغةً:
الصفح مصدر (صَفَحَ عنه يَصْفَح صَفْحًا: أَعرض عن ذنبه، وهو صَفُوح وصَفَّاحٌ عَفُوٌّ، والصَّفُوحُ الكريم؛ لأنه يَصْفَح عمن جَنى عليه).
وذكر بعض أهل العلم أن الصفح مشتق من صفحة العنق؛ لأنَّ الذي يصفح كأنه يولي بصفحة العنق، إعراضًا عن الإساءة.
معنى الصفح اصطلاحًا: الصفح: (هو ترك التأنيب).وقيل: إزالة أثر الذنب من النفس. [موسوعة الأخلاق]
2) الترغيب في العفو والصفح
أولًا: الترغيب في العفو والصفح في القرآن الكريم
وردت آيات كثيرة في ذكر العفو والصفح والترغيب فيهما، ومن هذه الآيات:
– قوله تعالى: وَلَا يَاتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور: 22].
قال ابن كثير: (هذه الآية نزلت في الصدِّيق، حين حلف ألا ينفع مِسْطَح ابن أثاثة بنافعة بعدما قال في عائشة ما قال، … فلما أنزل الله براءةَ أمِّ المؤمنين عائشة، وطابت النفوس المؤمنة واستقرت، وتاب الله على مَن كان تكلَّم من المؤمنين في ذلك، وأُقيم الحدُّ على مَن أُقيم عليه، شَرَع تبارك وتعالى، وله الفضل والمنة، يُعطِّفُ الصدِّيق على قريبه ونسيبه، وهو مِسْطَح بن أثاثة، فإنَّه كان ابن خالة الصديق، وكان مسكينًا لا مال له إلا ما ينفق عليه أبو بكر، رضي الله عنه، وكان من المهاجرين في سبيل الله، وقد وَلَق وَلْقَة تاب الله عليه منها، وضُرب الحدَّ عليها. وكان الصديق رضي الله عنه معروفًا بالمعروف، له الفضل والأيادي على الأقارب والأجانب. فلما نزلت هذه الآية إلى قوله: أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي: فإنَّ الجزاء من جنس العمل، فكما تغفر عن المذنب إليك نغفر لك، وكما تصفح نصفح عنك. فعند ذلك قال الصديق: بلى، والله إنَّا نحبُّ -يا ربنا -أن تغفر لنا. ثم رَجَع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا، في مقابلة ما كان قال: والله لا أنفعه بنافعة أبدًا، فلهذا كان الصديق هو الصديق رضي الله عنه وعن بنته) ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (6/ 31).
– وقال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 133].
(قوله تعالى … وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ يدخل في العفو عن الناس، العفو عن كلِّ من أساء إليك بقول أو فعل، والعفو أبلغ من الكظم؛ لأنَّ العفو ترك المؤاخذة مع السماحة عن المسيء، وهذا إنما يكون ممن تحلَّى بالأخلاق الجميلة، وتخلَّى عن الأخلاق الرذيلة، وممن تاجر مع الله، وعفا عن عباد الله رحمة بهم، وإحسانًا إليهم، وكراهة لحصول الشرِّ عليهم، وليعفو الله عنه، ويكون أجره على ربه الكريم، لا على العبد الفقير، كما قال تعالى: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40]) ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص 148).
– وقال سبحانه: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [الشورى:40].
(قال ابن عباس رضي الله عنه: من ترك القصاص وأصلح بينه وبين الظالم بالعفو (فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) أي إن الله يأجره على ذلك. قال مقاتل: فكان العفو من الأعمال الصالحة) ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (16/ 41).
قال السعدي: (ذكر الله في هذه الآية، مراتب العقوبات، وأنها على ثلاث مراتب: عدل، وفضل، وظلم.
فمرتبة العدل: جزاء السيئة بسيئة مثلها، لا زيادة ولا نقص، فالنفس بالنفس، وكل جارحة بالجارحة المماثلة لها، والمال يضمن بمثله.
ومرتبة الفضل: العفو والإصلاح عن المسيء، ولهذا قال: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40] يجزيه أجرًا عظيمًا، وثوابًا كثيرًا، وشرط الله في العفو الإصلاح فيه؛ ليدلَّ ذلك على أنَّه إذا كان الجاني لا يليق العفو عنه، وكانت المصلحة الشرعية تقتضي عقوبته، فإنه في هذه الحال لا يكون مأمورًا به.
وفي جعل أجر العافي على الله ما يُهيِّج على العفو، وأن يعامل العبد الخلق بما يحب أن يعامله الله به، فكما يحب أن يعفو الله عنه، فَلْيَعْفُ عنهم، وكما يحب أن يسامحه الله، فليسامحهم؛ فإنَّ الجزاء من جنس العمل.
وأما مرتبة الظلم: فقد ذكرها بقوله: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [الشورى:40] الذين يجنون على غيرهم ابتداءً، أو يقابلون الجاني بأكثر من جنايته، فالزيادة ظلم) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص 760).
– وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التغابن: 14].
(هذا تحذير من الله للمؤمنين، من الاغترار بالأزواج والأولاد، فإنَّ بعضهم عدو لكم، والعدو هو الذي يريد لك الشر، ووظيفتك الحذر ممن هذا وصفه والنفس مجبولة على محبة الأزواج والأولاد، فنصح تعالى عباده أن توجب لهم هذه المحبة الانقياد لمطالب الأزواج والأولاد، ولو كان فيها ما فيها من المحذور الشرعي ورغبهم في امتثال أوامره، وتقديم مرضاته بما عنده من الأجر العظيم المشتمل على المطالب العالية والمحاب الغالية، وأن يؤثروا الآخرة على الدنيا الفانية المنقضية، ولما كان النهي عن طاعة الأزواج والأولاد، فيما هو ضرر على العبد، والتحذير من ذلك، قد يوهم الغلظة عليهم وعقابهم، أمر تعالى بالحذر منهم، والصفح عنهم والعفو، فإنَّ في ذلك من المصالح ما لا يمكن حصره، فقال: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التغابن: 14] لأنَّ الجزاء من جنس العمل.
فمن عفا عفا الله عنه، ومن صفح صفح الله عنه، ومن غفر غفر الله له، ومن عامل الله فيما يحب، وعامل عباده كما يحبون وينفعهم، نال محبة الله ومحبة عباده، واستوثق له أمره) ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص 868).
وقال السعدي في موضع آخر:
قال الشيخ السعدي رحمه الله:
«أمر بإحسان خاص، له موقع كبير، وهو الإحسان إلى من أساء إليك، فقال: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ}، أي: فإذا أساء إليك مسيء من الخلق، خصوصًا من له حق كبير عليك، كالأقارب والأصحاب، ونحوهم، إساءة بالقول أو بالفعل، فقابله بالإحسان إليه، فإن قطعك فَصِلْهُ، وإن ظلمك، فاعف عنه، وإن تكلم فيك، غائبًا أو حاضرًا، فلا تقابله، بل اعف عنه، وعامله بالقول اللين. وإن هجرك وترك خطابك، فَطيِّبْ له الكلام، وابذل له السلام، فإذا قابلت الإساءة بالإحسان حصل فائدة عظيمة.
{فَإذا الَّذِي بَيْنَكَ وبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأنَّهُ ولِيٌّ حَمِيمٌ} أي: كأنه قريب شفيق.
{وما يُلَقّاها} أي: وما يوفق لهذه الخصلة الحميدة {إلا الَّذِينَ صَبَرُوا} نفوسهم على ما تكره، وأجبروها على ما يحبه الله، فإن النفوس مجبولة على مقابلة المسيء بإساءته، وعدم العفو عنه، فكيف بالإحسان؟!
فإذا صبر الإنسان نفسَه، وامتثل أمر ربه، وعرف جزيل الثواب، وعلم أن مقابلته للمسيء بجنس عمله لا يفيده شيئًا، ولا يزيد العداوة إلا شدة، وأن إحسانه إليه ليس بواضع قدره، بل من تواضع لله رفعه، هان عليه الأمر، وفعل ذلك متلذذًا مستحليًا له.
{وما يُلَقّاها إلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} لكونها من خصال خواص الخلق، التي ينال بها العبد الرفعة في الدنيا والآخرة، التي هي من أكبر خصال مكارم الأخلاق.» انتهى
«تفسير السعدي» ((749)).
– وقال تعالى: وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى: 37].
قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: (أي: سجيتهم وخلقهم وطبعهم تقتضي الصفح والعفو عن الناس، ليس سجيتهم الانتقام من الناس) ((تفسير القرآن العظيم)) (7/ 210).
ثانيًا: الترغيب في العفو والصفح في السنة النبوية:
– عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله)) رواه مسلم (2588).
قال القاضي عياض: (وقوله: ((ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا)). فيه وجهان:
أحدهما: ظاهره أنَّ من عُرف بالصفح والعفو ساد وعظم في القلوب وزاد عزه.
الثاني: أن يكون أجره على ذلك في الآخرة وعزته هناك) ((إكمال المعلم)) (8/ 28).
– وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث والذي نفسي بيده إن كنت لحالفًا عليهن: لا ينقص مال من صدقة فتصدقوا، ولا يعفو عبد عن مظلمة إلا زاده الله بها عزًّا يوم القيامة، ولا يفتح عبد باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر)) رواه أحمد (1/ 193) (1674)، والبزار (3/ 244)، وأبو يعلى (2/ 159). قال ابن كثير في ((جامع المسانيد والسنن)) (7080): له شاهد في الصحيحين، وصححه الشوكاني في ((نيل الأوطار)) (7/ 177)، وصححه لغيره الألباني في ((صحيح الترغيب)) (2462).
– وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: ((ارحموا ترحموا، واغفروا يغفر لكم)) رواه أحمد (2/ 219) (7041)، والبخاري في ((الأدب المفرد)) (380)، وصححه الألباني في ((صحيح الترغيب والترهيب)) (2465).
قال المناوي في قوله: (واغفروا يغفر لكم): (لأنَّه سبحانه وتعالى يحب أسمائه وصفاته التي منها: الرحمة، والعفو، ويحب من خلقه من تخلق بها) ((فيض القدير)) (1/ 474).
– وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: ((جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! كم نعفو عن الخادم؟ فصمت! ثم أعاد عليه الكلام، فصمت! فلما كان في الثالثة، قال: (اعفوا عنه في كل يوم سبعين مرة)) رواه أبو داود (5164)، والطبراني في ((المعجم الكبير)) (13/ 326)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (8/ 18) (15799). وسكت عنه أبو داود، وحسنه ابن حجر في ((تخريج المشكاة)) (3/ 341)، وصحح إسناده الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (488).
—
تفصيل للشنقيطي متى يحسن العفو والصفح:
قَوْلُهُ تَعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ ما اعْتَدى عَلَيْكُمْ الآيَةَ.
هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى طَلَبِ الِانْتِقامِ، وقَدْ أذِنَ اللَّهُ فِي الِانْتِقامِ فِي آياتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعالى: ولَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِن سَبِيلٍ إنَّما السَّبِيلُ عَلى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النّاسَ الآيَةَ [(42) (41)].
وكَقَوْلِهِ: لا يُحِبُّ اللَّهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إلّا مَن ظُلِمَ [(4) (148)].
وكَقَوْلِهِ ذَلِكَ ومَن عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ الآيَةَ [(22) \ (60)].
وقَوْلِهِ: والَّذِينَ إذا أصابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ [(42) (39)].
وقَوْلِهِ: وجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [(42) (40)].
وكَقَوْلِهِ: لا يُحِبُّ اللَّهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إلّا مَن ظُلِمَ [(4) (148)].
وكَقَوْلِهِ ذَلِكَ ومَن عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ الآيَةَ [(22) \ (60)].
وقَوْلِهِ: والَّذِينَ إذا أصابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ [(42) (39)].
وقَوْلِهِ: وجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [(42) (40)].
وقَدْ جاءَتْ آياتٌ أُخَرُ تَدُلُّ عَلى العَفْوِ وتَرْكِ الِانْتِقامِ، كَقَوْلِهِ: فاصْفَحِ الصَّفْحَ الجَمِيلَ [(15) (85)].
وقَوْلِهِ: والكاظِمِينَ الغَيْظَ والعافِينَ عَنِ النّاسِ [(3) (134)].
وكَقَوْلِهِ: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ [(41) (34)].
وقَوْلِهِ: ولَمَن صَبَرَ وغَفَرَ إنَّ ذَلِكَ لَمِن عَزْمِ الأُمُورِ [(42) (43)].
وقَوْلِهِ: خُذِ العَفْوَ وامُرْ بِالعُرْفِ وأعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ [(7) (199)].
وكَقَوْلِهِ: وإذا خاطَبَهُمُ الجاهِلُونَ قالُوا سَلامًا [(25) (63)].
والجَوابُ عَنْ هَذا بِأمْرَيْنِ:
أحَدُهُما: أنَّ اللَّهَ بَيَّنَ مَشْرُوعِيَّةَ الِانْتِقامِ، ثُمَّ أرْشَدَ إلى أفْضَلِيَّةِ العَفْوِ، ويَدُلُّ لِهَذا قَوْلُهُ تَعالى: وإنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ولَئِنْ صَبَرْتُمْ
لَهُوَ خَيْرٌ لِلصّابِرِينَ [(16) (126)]، وقَوْلُهُ: لا يُحِبُّ اللَّهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إلّا مَن ظُلِمَ [(4) \ (148)]، فَأذِنَ فِي الِانْتِقامِ بِقَوْلِهِ: «إلّا مَن ظُلِمَ».
ثُمَّ أرْشَدَ إلى العَفْوِ بِقَوْلِهِ: إنْ تُبْدُوا خَيْرًا أوْ تُخْفُوهُ أوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيرًا [(4) (149)].
الوَجْهُ الثّانِي: أنَّ الِانْتِقامَ لَهُ مَوْضِعٌ يَحْسُنُ فِيهِ، والعَفْوُ لَهُ مَوْضِعٌ كَذَلِكَ، وإيضاحُهُ أنَّ مِنَ المَظالِمِ ما يَكُونُ فِي الصَّبْرِ عَلَيْهِ انْتِهاكُ حُرْمَةِ اللَّهِ، ألا تَرى أنَّ مَن غُصِبَتْ مِنهُ جارِيَتُهُ مَثَلًا إذا كانَ الغاصِبُ يَزْنِي بِها فَسُكُوتُهُ وعَفْوُهُ عَنْ هَذِهِ المَظْلَمَةِ قَبِيحٌ وضَعْفٌ وخَوْرٌ تُنْتَهَكُ بِهِ حُرُماتُ اللَّهِ، فالِانْتِقامُ فِي مِثْلِ هَذا واجِبٌ، وعَلَيْهِ يُحْمَلُ الأمْرُ فِي قَوْلِهِ: فاعْتَدُوا الآيَةَ.
أيْ كَما إذا بَدَأ الكُفّارُ بِالقِتالِ فَقِتالُهُمْ واجِبٌ، بِخِلافِ مَن أساءَ إلَيْهِ بَعْضُ إخْوانِهِ المُسْلِمِينَ بِكَلامٍ قَبِيحٍ ونَحْوِ ذَلِكَ
فَعَفْوُهُ أحْسَنُ وأفْضَلُ، وقَدْ قالَ أبُو الطَّيِّبِ المُتَنَبِّي:
إذا قِيلَ حِلْمٌ فَلِلْحِلْمِ مَوْضِعٌ … وحِلْمُ الفَتى فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ جَهْلُ. انتهى من أضواء البيان
قال ابن تيمية:
والمَصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ تَتَنَوَّعُ؛ فَتارَةً تَكُونُ المَصْلَحَةُ الشَّرْعِيَّةُ القِتالَ وتارَةً تَكُونُ المَصْلَحَةُ المُهادَنَةَ وتارَةً تَكُونُ المَصْلَحَةُ الإمْساكَ والِاسْتِعْدادَ بِلا مُهادَنَةٍ وهَذا يُشْبِهُ ذَلِكَ؛ لَكِنَّ الإنْسانَ تُزَيِّنُ لَهُ نَفْسُهُ أنَّ عَفْوَهُ عَنْ ظالِمِهِ يُجْرِيهِ عَلَيْهِ ولَيْسَ كَذَلِكَ؛ بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي الصَّحِيحِ أنَّهُ قالَ: {ثَلاثٌ إنْ كُنْت لَحالِفًا عَلَيْهِنَّ ما زادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوِ إلّا عِزًّا وما نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِن مالٍ وما تَواضَعَ أحَدٌ لِلَّهِ إلّا رَفَعَهُ اللَّهُ}. فاَلَّذِي يَنْبَغِي فِي هَذا البابِ أنْ يَعْفُوَ الإنْسانُ عَنْ حَقِّهِ ويَسْتَوْفِيَ حُقُوقَ اللَّهِ بِحَسَبِ الإمْكانِ. قالَ تَعالى: {والَّذِينَ إذا أصابَهُمُ البَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} قالَ إبْراهِيمُ النَّخْعِيُّ: كانُوا يَكْرَهُونَ أنْ يَسْتَذِلُّوا فَإذا قَدَرُوا عَفَوْا. قالَ تَعالى: {هُمْ يَنْتَصِرُونَ} يَمْدَحُهُمْ بِأنَّ فِيهِمْ هِمَّةَ الِانْتِصارِ لِلْحَقِّ والحَمِيَّةَ لَهُ؛ لَيْسُوا بِمَنزِلَةِ الَّذِينَ يَعْفُونَ عَجْزًا وذُلًّا؛ بَلْ هَذا مِمّا يُذَمُّ بِهِ الرَّجُلُ والمَمْدُوحُ العَفْوُ مَعَ القُدْرَةِ والقِيامُ لِما يَجِبُ مِن نَصْرِ الحَقِّ لا مَعَ إهْمالِ حَقِّ اللَّهِ وحَقِّ العِبادِ. واَللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
مجموع الفتاوى (15) / (174)
3) أقوال السلف والعلماء في العفو والصفح:- عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه (أنه قام يوم مات المغيرة بن شعبة رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه وقال: عليكم باتقاء الله وحده لا شريك له، والوقار والسكينة، حتى يأتيكم أمير، فإنما يأتيكم الآن، ثم قال: استعفوا لأميركم، فإنه كان يحب العفو. ثم قال: أما بعد، فإني أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، قلت: أبايعك على الإسلام، فشرط علي (والنصح لكل مسلم). فبايعته على هذا، ورب هذا المسجد إني لناصح لكم، ثم استغفر ونزل).
– (وجلس ابن مسعود في السوق يبتاع طعامًا فابتاع، ثم طلب الدراهم وكانت في عمامته فوجدها قد حلت، فقال: لقد جلست وإنها لمعي، فجعلوا يدعون على من أخذها ويقولون: اللهم اقطع يد السارق الذي أخذها، اللهم افعل به كذا، فقال عبد الله: اللهم إن كان حمله على أخذها حاجة فبارك له فيها، وإن كان حملته جراءة على الذنب فاجعله آخر ذنوبه).
– وقيل لأبي الدرداء: مَن أعزُّ الناس؟ فقال: (الذين يعفون إذا قدروا؛ فاعفوا يعزكم الله تعالى).
– وقال الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما: (لو أنَّ رجلًا شتَمني في أذني هذه، واعتذر في أُذني الأخرَى، لقبِلتُ عذرَه).
– وقال معاوية رضي الله عنه: (عليكم بالحلم والاحتمال حتى تمكنكم الفرصة، فإذا أمكنتكم فعليكم بالصفح والإفضال).
– وعن وهب بن كيسان قال سمعت عبد الله بن الزبير يقول على المنبر: (خُذِ الْعَفْوَ وَامُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 199] قال: والله ما أمر بها أن تؤخذ إلا من أخلاق الناس، والله لآخذنها منهم ما صحبتهم).
– وأُتي عبد الملك بن مروان بأسارى ابن الأشعث، فقال لرجاء بن حيوة: (ماذا ترى؟). قال: (إن الله -تعالى- قد أعطاك ما تحب من الظفر فأعط الله ما يحب من العفو، فعفا عنهم).
– وقال مالك بن دينار: (أتينا منزل الحكم بن أيوب ليلًا وهو على البصرة أمير، وجاء الحسن، وهو خائف فدخلنا معه عليه، فما كنا مع الحسن إلا بمنزلة الفراريج، فذكر الحسن قصة يوسف -عليه السلام- وما صنع به إخوته، فقال: باعوا أخاهم وأحزنوا أباهم، وذكر ما لقي من كيد النساء ومن الحبس، ثم قال: أيها الأمير، ماذا صنع الله به؟ أداله منهم، ورفع ذكره، وأعلى كلمته، وجعله على خزائن الأرض، فماذا صنع يوسف حين أكمل الله له أمره وجمع له أهله؟ قال: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف: 92]، يعرض للحكم بالعفو عن أصحابه، قال الحكم: فأنا أقول لا تثريب عليكم اليوم، ولو لم أجد إلا ثوبي هذا لواريتكم تحته).
– وعن عمر بن عبد العزيز قال: (أحبُّ الأمور إلى الله ثلاثة: العفو في القدرة، والقصد في الجدة، والرفق في العبادة، وما رفق أحد بأحد في الدنيا إلا رفق الله به يوم القيامة).
– وعن سعيد بن المسيب قال: (ما من شيء إلا والله يحب أن يعفى عنه، ما لم يكن حدًّا).
– وعن الحسن، قال: (أفضل أخلاق المؤمن العفو).
– وقال الفضيل بن عياض: (إذا أتاك رجلٌ يشكو إليك رجلًا، فقل: يا أخي، اعفُ عنه؛ فإنَّ العفو أقرب للتقوى، فإن قال: لا يحتمِل قلبي العفوَ، ولكن أنتصر كما أمرَني الله عزَّ وجل فقل له: إن كنتَ تُحسِن أن تنتَصِر، وإلا فارجع إلى باب العفو؛ فإنه باب واسع، فإنَّه مَن عفَا وأصلحَ فأجره على الله، وصاحِبُ العفو ينام على فراشه بالليل، وصاحب الانتصار يقلِّب الأمور؛ لأن الفُتُوَّة هي العفوُ عن الإخوان).
– وقال إبراهيم النخعي: (كان المؤمنون يكرهون أن يستذلوا، وكانوا إذا قدروا عفوا).
– وعن أيوب قال: (لا ينبل الرجل حتى يكون فيه خصلتان: العفة عما في أيدي الناس، والتجاوز عنهم). [موسوعة الأخلاق].
قال ابن تيمية:
وأما الصَّبْر فَفِيهِ أجر عَظِيم فَمن أُصِيب بِجرح ونَحْوه فَعَفا عَن جارحه كانَ الجرْح مُصِيبَة يكفر بها عَنهُ ويؤجر على صبره وعَلى إحسانه إلى الظّالِم بِالعَفو عَنهُ فَمن توهم أن بِالعَفو قد يسْقط حَقه أو ينقص قدره أو يحصل لَهُ ذل فَهُوَ غالط كَما ثَبت فِي الصَّحِيح أنه -صلى الله عليه وسلم- قالَ ثَلاث إن كنت لحالفا عَلَيْهِنَّ ما زاد الله عبدا بِعَفْو إلّا عزا وما نقصت صَدَقَة من مال وما تواضع أحد لله إلّا رَفعه
وهَذا رد لما يَظُنّهُ من النَّقْص والذل أتباعا للظن وما تهوى الأنْفس من أن العَفو مذلة والصَّدَقَة تنقص ماله والتواضع يخفضه وما انتقم رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم- لنَفسِهِ قطّ إلّا أن تنتهك محارم الله فينتقم لله.
والنّاس أرْبَعَة مِنهُم من ينتصر لنَفسِهِ ولربه وهُوَ الَّذِي فِيهِ دين وغَضب الله ومِنهُم من لا ينتصر لنَفسِهِ ولا لرَبه وهُوَ الَّذِي فِيهِ جبن وضعف دين ومِنهُم من ينْتَقم لنَفسِهِ لا لرَبه وهُوَ شَرّ الأقْسام وأما الكامِل فَهُوَ الَّذِي ينتصر لحق الله ويَعْفُو عَن حق نَفسه عِنْد المقدرَة مجموع الفتاوى
وقال ابن تيمية في موضع آخر:
ومَن كانَ مِن الطّائِفَتَيْنِ يَظُنُّ أنَّهُ مَظْلُومٌ مَبْغِيٌّ عَلَيْهِ فَإذا صَبَرَ وعَفا أعَزَّهُ اللَّهُ ونَصَرَهُ؛ كَما ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّهُ قالَ: {ما زادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوِ إلّا عِزًّا، وما تَواضَعَ أحَدٌ لِلَّهِ إلّا رَفَعَهُ اللَّهُ؛ ولا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِن مالٍ} وقالَ تَعالى: {وجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَن عَفا وأصْلَحَ فَأجْرُهُ عَلى اللَّهِ} وقالَ تَعالى: {إنّما السَّبِيلُ عَلى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النّاسَ ويَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذابٌ ألِيمٌ} {ولَمَن صَبَرَ وغَفَرَ إنّ ذَلِكَ لَمِن عَزْمِ الأُمُورِ} فالباغِي الظّالِمُ يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنهُ فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ؛ فَإنَّ البَغْيَ مَصْرَعُهُ، قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: ولَوْ بَغى جَبَلٌ عَلى جَبَلٍ لَجَعَلَ اللَّهُ الباغِيَ مِنهُما دَكًّا. ومِن حِكْمَةِ الشِّعْرِ:
قَضى اللَّهُ أنَّ البَغْيَ يَصْرَعُ أهْلَهُ … وأنَّ عَلى الباغِي تَدُورُ الدوائر
مجموع الفتاوى (35) / (82)
وقال أيضا:
والمُؤْمِنُ مَامُورٌ بِأنْ يَصْبِرَ عَلى المَقْدُورِ ولِذَلِكَ قالَ: {وإنْ تَصْبِرُوا وتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} فالتَّقْوى فِعْلُ المَامُورِ وتَرْكُ المَحْظُورِ والصَّبْرُ عَلى أذاهُمْ ثُمَّ إنّهُ حَيْثُ أباحَ المُعاقَبَةَ قالَ: {وإنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ولَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصّابِرِينَ} {واصْبِرْ وما صَبْرُكَ إلّا بِاللَّهِ ولا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ولا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمّا يَمْكُرُونَ}. فَأخْبَرَ أنَّ صَبْرَهُ بِاَللَّهِ فاَللَّهُ هُوَ الَّذِي يُعِينُهُ عَلَيْهِ فَإنَّ الصَّبْرَ عَلى المَكارِهِ بِتَرْكِ الِانْتِقامِ مِن الظّالِمِ ثَقِيلٌ عَلى الأنْفُسِ لَكِنَّ صَبْرَهُ بِاَللَّهِ كَما أمَرَهُ أنْ يَكُونَ لِلَّهِ فِي قَوْلِهِ: {ولِرَبِّكَ فاصْبِرْ}. لَكِنْ هُناكَ ذَكَرَهُ فِي الجُمْلَةِ الطَّلَبِيَّةِ الأمْرِيَّةِ؛ لِأنَّهُ مَامُورٌ أنْ يَصْبِرَ لِلَّهِ لا لِغَيْرِهِ وهُنا ذَكَرَهُ فِي الخَبَرِيَّةِ فَقالَ: {وما صَبْرُكَ إلّا بِاللَّهِ} فَإنَّ الصَّبْرَ وسائِرَ الحَوادِثِ لا تَقَعُ إلّا بِاَللَّهِ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ وقَدْ لا يَكُونُ فَما لا يَكُونُ بِاَللَّهِ
لا يَكُونُ وما لا يَكُونُ لِلَّهِ لا يَنْفَعُ ولا يَدُومُ. ولا يُقالُ: واصْبِرْ بِاَللَّهِ فَإنَّ الصَّبْرَ لا يَكُونُ إلّا بِاَللَّهِ لَكِنْ يُقالُ: اسْتَعِينُوا بِاَللَّهِ واصْبِرُوا فَنَسْتَعِينُ بِاَللَّهِ عَلى الصَّبْرِ.
مجموع الفتاوى (8) / (329)
قال ابن القيم:
[فَصْلٌ المَشْهَدُ الثّانِي مَشْهَدُ الصَّبْرِ]
فَصْلٌ
المَشْهَدُ الثّانِي: مَشْهَدُ الصَّبْرِ فَيَشْهَدُهُ ويَشْهَدُ وُجُوبَهُ، وحُسْنَ عاقِبَتِهِ، وجَزاءَ أهْلِهِ، وما يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الغِبْطَةِ والسُّرُورِ. ويُخَلِّصُهُ مِن نَدامَةِ المُقابَلَةِ والِانْتِقامِ. فَما انْتَقَمَ أحَدٌ لِنَفْسِهِ قَطُّ إلّا أعْقَبَهُ ذَلِكَ نَدامَةٌ. وعَلِمَ أنَّهُ إنْ لَمْ يَصْبِرِ اخْتِيارًا عَلى هَذا – وهُوَ مَحْمُودٌ – صَبَرَ اضْطَرارًا عَلى أكْبَرَ مِنهُ. وهُوَ مَذْمُومٌ.
[فَصْلٌ المَشْهَدُ الثّالِثُ مَشْهَدُ العَفْوِ والصَّفْحِ والحِلْمِ]
فَصْلٌ
المَشْهَدُ الثّالِثُ: مَشْهَدُ العَفْوِ والصَّفْحِ والحِلْمِ فَإنَّهُ مَتى شَهِدَ ذَلِكَ وفَضْلَهُ وحَلاوَتَهُ وعِزَّتَهُ: لَمْ يَعْدِلْ عَنْهُ إلّا لِعَشًى فِي بَصِيرَتِهِ. فَإنَّهُ «ما زادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إلّا عِزًّا» كَما صَحَّ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-. وعُلِمَ بِالتَّجْرِبَةِ والوُجُودِ. وما انْتَقَمَ أحَدٌ لِنَفْسِهِ إلّا ذَلَّ.
هَذا، وفِي الصَّفْحِ والعَفْوِ والحِلْمِ: مِنَ الحَلاوَةِ والطُّمَانِينَةِ والسَّكِينَةِ، وشَرَفِ النَّفْسِ، وعِزِّها ورِفْعَتِها عَنْ تَشَفِّيها بِالِانْتِقامِ: ما لَيْسَ شَيْءٌ مِنهُ فِي المُقابَلَةِ والِانْتِقامِ
مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2) / (303)
4) فوائد العفو والصفح:
1 – في العفو رحمة بالمسيء، وتقدير لجانب ضعفه البشري، وامتثال لأمر الله، وطلب لعفوه وغفرانه.
2 – في العفو توثيق للروابط الاجتماعية التي تتعرض إلى الوهن والانفصام بسبب إساءة بعضهم إلى بعض، وجناية بعضهم على بعض.
3 – العفو والصفح عن الآخرين سبب لنيل مرضات الله سبحانه وتعالى.
4 – العفو والصفح سبب للتقوى قال تعالى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُم [البقرة: 237].
5 – العفو والصفح من صفات المتقين، قال تعالى وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران: 133، 134].
6 – من يعفو ويصفح عن الناس يشعر بالراحة النفسية.
7 – بالعفو تُنال العزة، قال صلى الله عليه وسلم: (( .. وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًّا .. )) رواه مسلم (2588).
8 – العفو والصفح سبيل إلى الألفة والمودة بين أفراد المجتمع.
9 – في العفو والصفح الطمأنينة، والسكينة، وشرف النفس.
10 – بالعفو تكتسب الرفعة والمحبة عند الله وعند الناس.
[موسوعة الأخلاق].
5) نماذج في العفو: أ. نماذج من عفو النبي صلى الله عليه وسلم وصفحه.
وفي تأديب الله لرسوله بهذا الأدب أنزل الله عليه في المرحلة المكية قوله: فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [الحجر:85 – 86] ثم أنزل عليه قوله: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الزخرف:89] فكان يقابل أذى أهل الشرك بالصفح الجميل، وهو الصفح الذي لا يكون مقرونًا بغضب أو كبر أو تذمر من المواقف المؤلمة، وكان كما أدَّبه الله تعالى. ثم كان يقابل أذاهم بالصفح الجميل، ويعرض قائلًا: سلام.
وفي العهد المدني لقي الرسول صلى الله عليه وسلم من يهود المدينة أنواعًا من الخيانة فأنزل الله عليه قوله: وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة: 13]، فصبر الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم وعفا وصفح، حتى جاء الإذن الرباني بإجلائهم، ومعاقبة ناقضي العهد منهم).
– فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب، كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى.
قال الله -تعالى-: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ [آل عمران: 186] وقال: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الآية [البقرة: 109]، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأول في العفو عنهم ما أمر الله به … )) رواه البخاري (4566).
– وعن عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ رضي اللهُ عنهما واصفًا النبي صلى الله عليه وسلم: (( … ولا يَدفَعُ السيئةَ بالسيئةِ، ولكن يعفو ويَصفَحُ)) رواه البخاري (4838).
– وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما ((أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم ركب حمارًا، عليه إكاف، تحته قطيفة فدكية. وأردف وراءه أسامة، وهو يعود سعد بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج. وذاك قبل وقعة بدر. حتى مرَّ بمجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان، واليهود، فيهم عبد الله بن أبي، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة، خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه، ثم قال: لا تغبروا علينا، فسلم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ثم وقف فنزل؛ فدعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد الله بن أبي: أيها المرء، لا أحسن من هذا، إن كان ما تقول حقًّا، فلا تؤذنا في مجالسنا، وارجع إلى رحلك، فمن جاءك منا فاقصص عليه. فقال عبد الله بن رواحة: اغشنا في مجالسنا؛ فإنا نحب ذلك، قال: فاستبَّ المسلمون والمشركون واليهود، حتى هموا أن يتواثبوا، فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفِّضهم، ثم ركب دابته حتى دخل على سعد بن عبادة. فقال: (أي سعد، ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب؟ يريد عبد الله بن أبي، قال كذا وكذا قال: اعف عنه يا رسول الله، واصفح، فو الله لقد أعطاك الله الذي أعطاك، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة أن يتوِّجوه، فيعصبوه بالعصابة فلما ردَّ الله ذلك بالحقِّ الذي أعطاكه، شرق بذلك، فذلك فعل به ما رأيت. فعفا عنه النبي صلى الله عليه وسلم)) رواه مسلم (1798).
– وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ((ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط بيده، ولا امرأةً ولا خادمًا إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه، إلا أن ينتهك شيء من محارم الله تعالى، فينتقم لله عزَّ وجلَّ)) (11).
– وعن جابر بن عبد الله- رضي الله عنهما- ((أنَّه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل نجد، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل معه، فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرق الناس يستظلون بالشجر فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة، وعلَّق بها سيفه ونمنا نومة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا، وإذا عنده أعرابي. فقال: إن هذا اخترط عليَّ سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صلتًا، فقال: من يمنعك مني؟. فقلت: الله. ثلاثًا، ولم يعاقبه وجلس)) رواه البخاري (2910).
موقفه صلى الله عليه وسلم مع أهل ثقيف: فعن عروة بن الزبير أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدثته أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد فقال: ((لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يَالِيلَ بن عبد كُلال …. قال ملك الجبال إن شئت أن أُطبق عليهم الأخشبين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا)) رواه مسلم (1795).
موقفه صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة: (( …. قال: فإني أقول لكم كما قال أخي يوسف صلى الله عليه وسلم: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين [يوسف:92])) رواه الأزرقي في ((أخبار مكة)) (2/ 121)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (73/ 53)، وابن زنجويه في ((الأموال)) (1/ 293) من حديث عطاء والحسن وطاوس رحمهم الله.
موقفه صلى الله عليه وسلم مع عكرمة بن أبي جهل: عن عروة بن الزبير قال: ((قال عكرمة بن أبي جهل: لما انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا محمد، إنَّ هذه أخبرتني أنَّك أمَّنتني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت آمن. فقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنت عبد الله ورسوله، وأنت أبرُّ الناس، وأصدق الناس، وأوفى الناس، قال عكرمة: أقول ذلك وإني لمطأطئ رأسي استحياء منه، ثم قلت: يا رسول الله، استغفر لي كلَّ عداوة عاديتكها، أو موكب أوضعت فيه أريد فيه إظهار الشرك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر لعكرمة كلَّ عداوة عادانيها، أو موكب أوضع فيه يريد أن يصدَّ عن سبيلك. قلت: يا رسول الله، مرني بخير ما تعلم فأُعلِّمُه، قال: قل: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، وتجاهد في سبيله، ثم قال عكرمة: أما والله يا رسول الله، لا أدع نفقة كنت أنفقتها في الصدِّ عن سبيل الله إلا أنفقت ضعفها في سبيل الله، ولا قاتلت قتالًا في الصدِّ عن سبيل الله إلا أبليت ضعفه في سبيل الله. ثم اجتهد في القتال حتى قتل يوم أجنادين شهيدًا في خلافة أبي بكر رضي الله عنه)) رواه الحاكم (3/ 270)، والطبري في ((تاريخه)) (11/ 502)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (41/ 64).
ب. نماذج من عفو الصحابة رضي الله عنهم وصفحهم
عفو أبي بكر رضي الله عنه:
– عفوه عن مسطح بن أثاثة: و ((كان مسطح بن أثاثة ممن تكلم في الإفك، فلما أنزل الله براءة عائشة، قال أبو بكر الصديق: -وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره- والله لا أنفق على مسطح شيئًا أبدًا بعد الذي قال لعائشة ما قال فأنزل الله: وَلَا يَاتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ [النور: 22] إلى قوله وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ قال أبو بكر الصديق: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال والله لا أنزعها منه أبدًا)) رواه البخاري (2661).
– وعن أبي هريرة رضي الله عنه: ((أن رجلًا شتم أبا بكر والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعجب، ويتبسم، فلما أكثر ردَّ عليه بعض قوله؛ فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، وقام فلحقه أبو بكر، فقال: يا رسول الله، كان يشتمني وأنت جالس، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت، قال: إنه كان معك مَلَك يردُّ عنك، فلما رددت عليه بعض قوله وقع الشيطان؛ فلم أكن لأقعد مع الشيطان. ثم قال: يا أبا بكر، ثلاث كلُّهنَّ حقٌّ: ما من عبد ظلم بمظلمة، فيغضي عنها لله عزَّ وجلَّ إلا أعزَّ الله بها نصره، وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده الله بها كثرة، وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله عزَّ وجلَّ بها قلة)) رواه أحمد (2/ 436) (9622)، والبيهقي في ((السنن الكبرى)) (10/ 400) (21096): قال الهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (8/ 192): رجاله رجال الصحيح. وقال البوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (5/ 478): رواته ثقات. وجوَّد إسناده الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (5/ 271).
عفو عمر رضي الله عنه:- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((قدم عيينة بن حصن بن حذيفة، فنزل على ابن أخيه الحرِّ بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته، كهولًا كانوا، أو شبانًا، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، هل لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه. قال: سأستأذن لك عليه. قال ابن عباس: فاستأذن الحرُّ لعيينة، فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب، فوالله، ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل. فغضب عمر، حتى همَّ أن يوقع به، فقال له الحرُّ: يا أمير المؤمنين، إنَّ الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: خُذِ الْعَفْوَ وَامُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف: 199]. وإنَّ هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافًا عند كتاب الله)) رواه البخاري (4642).
ج. نماذج من عفو السلف وصفحهم:
عفو مصعب بن الزبير:
– حكي عن مصعب بن الزبير أنه لما ولي العراق، جلس يوما لعطاء الجند، وأمر مناديه فنادى، أين عمرو بن جرموز؟ وهو الذي قتل أباه الزبير، فقيل له: (أيها الأمير، إنه قد تباعد في الأرض. فقال: أوَ يظن الجاهل أني أقيده [الحاشية: القود: قتل النفس بالنفس. انظر: ((لسان العرب)) لابن منظور (3/ 372)]
بأبي عبد الله؟ فليظهر آمنًا ليأخذ عطاءه موفرًا). ((أدب الدنيا والدين)) للماوردي (311).
6) قالوا عن العفو والصفح:
– قال الأحنف: (إيَّاك وحمية الأوغاد. قيل: وما هي؟ قال: يرون العفو مغرمًا، والتحمل مغنمًا.
– وقيل لبعضهم: هل لك في الإنصاف، أو ما هو خير من الإنصاف؟ فقال: وما هو خير من الإنصاف؟ فقال: العفو.
– وقيل: العفو زكاة النفس. وقيل: لذة العفو أطيب من لذة التشفي؛ لأنَّ لذة العفو يلحقها حمد العاقبة، ولذة التشفي يلحقها ذم الندم.
– وقيل للإسكندر: أي شيء أنت أسرُّ به مما ملكت؟ فقال: مكافأة من أحسن إلي بأكثر من إحسانه، وعفوي عمن أساء بعد قدرتي عليه.
– وقالوا: العفو يزين حالات من قدر، كما يزين الحلي قبيحات الصور).
– وقال أبو حاتم: (الواجب على العاقل لزوم الصفح عند ورود الإساءة عليه من العالم بأسرهم؛ رجاء عفو الله جلَّ وعلا عن جناياته التي ارتكبها في سالف أيامه؛ لأنَّ صاحب الصفح إنما يتكلف الصفح بإيثاره الجزاء، وصاحب العقاب، وإن انتقم، كان إلى الندم أقرب، فأمَّا من له أخ يوده، فإنَّه يحتمل عنه الدهر كله زلاته).
– وقال بعض البلغاء: (ما ذبَّ عن الأعراض كالصفح والإعراض).
– وقال بعضهم: (أحسن المكارم عفو المقتدر، وجود المفتقر).
– وقال أبو حاتم: (الواجب على العاقل توطين النفس على لزوم العفو عن الناس كافة، وترك الخروج لمجازاة الإساءة، إذ لا سبب لتسكين الإساءة أحسن من الإحسان، ولا سبب لنماء الإساءة وتهييجها أشد من الاستعمال بمثلها).
– وقال أيضًا: (من أراد الثواب الجزيل، واسترهان الود الأصيل، وتوقع الذكر الجميل، فليتحمل من ورود ثقل الردى، ويتجرع مرارة مخالفة الهوى، باستعمال السنة التي ذكرناها في الصلة عند القطع، والإعطاء عند المنع، والحلم عند الجهل، والعفو عند الظلم؛ لأنَّه من أفضل أخلاق أهل الدين والدنيا).
– (وقيل للمهلب بن أبي صُفرة: ما تقول في العفو والعقوبة؟ قال: هما بمنزلة الجود والبخل، فتمسك بأيهما شئت). [موسوعة الأخلاق]
7) العفو والصفح في الأمثال
– قولهم: ملكت فأسجح. أي: ظفرت فأحسن. ((الأمثال)) لابن سلام (ص 154).
– وقولهم: إن المقدرة تذهب الحفيظة. ((مجمع الأمثال)) للميداني (1/ 14).
– وقولهم: إذا ارجحنَّ شاصيًا فارفع يدًا. أي: إذا رأيته قد خضع واستكان فاكفف عنه. ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (3/ 104). [انظر: موسوعة الأخلاق، بتصرف يسير].