تتمة شرح صحيح مسلم حديث رقم 3015
قال رحمه الله تعالى: “كتاب التفسير”، المراد به تفسير القرآن بالمأثور فسرها النبي ﷺ، والتي هي من روايته، وعلى شرطه رحمه الله تعالى؛ ولهذا لم يكن هذا الكتاب كبيرا.
قال الحافظ النووي عفا الله عنه: “(١) – (بَابٌ: فِي تَفْسِيرِ آيَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ)”.
وفي البخاري، ٦٨ – كتاب التفسير، ٧ – باب: {وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين}.
قال الإمام مسلم رحمه الله تعالى:
[٧٤٨٤] (٣٠١٥) – (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ، قَالَ: هَذَا مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «قِيلَ لِبَني إِسْرَائِيلَ: ﴿وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ﴾ [البقرة: ٥٨] فَبَدَّلُوا، فَدَخَلُوا الْبَابَ يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ، وَقَالُوا: حَبَّةٌ فِي شَعَرَةٍ»).
شرح الحديث:
(عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ)؛ أنه (قَالَ: هَذَا) مشيرًا إلى مجموع من الأحاديث، (مَا حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ) رضي الله عنه، (عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ، مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: (قِيلَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: ﴿وَادْخُلُوا الْبَابَ﴾) هذا الباب قيل: هو الباب الثامن من بيت المقدس، قاله مجاهد، وقيل: باب القرية التي أُمروا بدخولها، وهي قرية الجبارين، وهي أريحاء في المشهور، وقيل: كان لها سبعة أبواب، وقال أبو عليّ: باب قرية فيها موسى عليه السلام [«طرح التثريب في شرح التقريب» ٨/ ١٥٩].
وقوله: (﴿سُجَّدًا﴾) قال ابن عباس رضي الله عنهما: منحنين، ركوعًا، وقال غيره: خضوعًا وشكرًا؛ لتيسير الدخول، وقال وهب بن منبه: قيل لهم: ادخلوا الباب، فإذا دخلتموه، فاسجدوا، واشكروا الله عزوجل. (﴿وَقُولُوا حِطَّةٌ﴾) بمعنى: حُطّ عنا ذنوبنا، قاله الحسن، وقتادة، وقال ابن جبير: معناه الاستغفار، قال عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة في قوله وقولوا: «حطة»: قال الحسن: أي: احطط عنا خطايانا، وهذا يليق بقراءة من قرأ حطةً بالنصب، وهي قراءة إبراهيم بن أبي عبلة، وقرأ الجمهور بالرفع، على أنه خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: مسألتنا حطةٌ، وقيل: أُمروا أن يقولوا على هذه الكيفية، فالرفع على الحكاية، وهي في محل نصب بالقول، وإنما مَنع النصب حركة الحكاية، وقيل: رُفعت لتعطى معنى الثبات؛ كقوله: ﴿سَلَامٌ﴾ [الأنعام: ٥٤].
وقال وليّ الدين: «حطة» مرفوع على أنه خبر مبتدإ محذوف، تقديره: مسألتنا حطةٌ؛ أي: أن تحط عنا خطايانا، وقال بعضهم: تقديره: أمرُنا حطةٌ، وقال بعضهم: هو رفع على الحكاية [«طرح التثريب في شرح التقريب» ٨/ ١٥٩].
واختُلف في معنى هذه الكلمة، فقيل: هي اسم للهيئة من الحط؛ …وروى ابن أبي حاتم، عن ابن عباس وغيره قال: قيل لهم: قولوا: مغفرة [«الفتح» ١٠/ ١٤١ – ١٤٢، «كتاب التفسير» رقم (٤٦٤١)].
(يَغْفِرْ) بالبناء للمفعول، ﴿لَكُمْ خَطَايَاكُمْ﴾ وقال وليّ الدين رحمه الله: في قوله تعالى: ﴿نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ﴾ ثلاث قراءات في المشهور:
إحداها: قراءة نافع بالياء المثناة من تحتُ، مضمومة، وفتح الفاء؛ يعني: الرواية المذكورة عند مسلم.
الثانية: قراءة ابن عامر بالتاء المثناة من فوقُ مضمومة، وفتح الفاء.
الثالثة: قراءة الباقين بالنون مفتوحة، وكسر الفاء. انتهى [«طرح التثريب في شرح التقريب» ٨/ ١٥٩].
(فَبَدَّلُوا)؛ أي: غيّروا، وقوله: ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ﴾ [البقرة: ٥٩] التقدير: فبدّل الذين ظلموا بالذي قيل لهم قولًا غير الذي قيل لهم، ويَحْتَمِل: أن يكون ضَمَّن بَدّل معنى قال.
(فَدَخَلُوا البَابَ يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ)؛ أي: ينجرون على ألياتهم، فعلَ المقعد الذي يمشي على أليته، يقال: زحف الصبي: إذا مشى كذلك، والأستاه جمع است، وهو الدُّبُر (وَقَالوا: حَبَّةٌ فِي شَعَرَةٍ)، أي: قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء، والاستخفاف بالأوامر الشرعية، وهو كلام خَلْفٌ، لا معنى له، وفي رواية للبخاريّ: قيل: حنطة، فزادوا في لفظة الحطة نونًا، وغيّروه بذلك عن مدلوله، ثم ضموا إليه هذا الكلام الخالي عن الفائدة؛ تتميمًا للاستهزاء، وزيادة في العتوّ، وفي كتب التفسير أنهم قالوا: حطانا سمقانا يعنون حنطة حمراء، فعاقبهم بالرجز، وهو العذاب المقترن بالهلاك، قال ابن زيد: كان طاعونًا أهلك الله به منهم في ساعة واحدة سبعين ألفًا [«طرح التثريب في شرح التقريب» ٨/ ١٥٩].
وقال في «الفتح»: قوله: «وقالوا: حبة في شَعَرَة» كذا للأكثر، وكذا في رواية الحسن بفتحتين، وللكشميهنيّ: «في شَعِيرة» بكسر المهملة، وزيادة تحتانية بعدها.
والحاصل: أنهم خالفوا ما أُمروا به من الفعل، والقول، فإنهم أُمروا بالسجود عند انتهائهم؛ شكرًا لله تعالى، وبقولهم: حطة، فبدلوا السجود بالزحف، وقالوا: حنطة بدل حطة، أو قالوا: حطة وزادوا فيها: حبة في شعيرة.
وروى الحاكم من طريق السّدّي عن مرة، عن ابن مسعود قال: قالوا هطى سمقا، وهي بالعربية: حنطة حمراء قوية فيها شعيرة سوداء.
ويستنبط منه: أن الأقوال المنصوصة إذا تُعُبد بلفظها لا يجوز تغييرها، ولو وافق المعنى، وليست هذه مسألة الرواية بالمعنى، بل هي متفرعة منها، وينبغي أن يكون ذلك قيدًا في الجواز، أعني: يزاد في الشرط أن لا يقع التعبد بلفظه، ولا بد منه، ومن أطلق فكلامه محمول عليه، قاله في «الفتح». [«الفتح» ١٠/ ١٤١ – ١٤٢].
وحديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا متّفقٌ عليه. [البحر المحيط الثجاج، بتصرف يسير].
فقه وفوائد الحديث:
1- (منها): التَّحذيرُ مِن اتِّباعِ سُنَّةِ بَني إسرائيلَ في مُخالَفةِ أمْرِ اللهِ عزَّ وجلَّ، والخروجِ عن طاعتِه”. [الدرر].
2- (ومنها): حاصل الأمر: أنهم أمِروا أن يخضعوا لله تعالى عند الفتح بالفعل والقول، وأن يعترفوا بذنوبهم، ويستغفروا منها، والشكر على النعمة عندها …، ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يظهر عليه الخضوع جداً عند النصر، كما روي أنه كان يوم الفتح – فتح مكة – داخلاً إليها من الثنية العليا، وإنه لخاضع لربه، حتى إن عثنونه ليمس مورك رحله شكراً لله على ذلك، ثم لما دخل البلد اغتسل وصلى ثماني ركعات. [ابن كثير: ١/٩٤].
3- (ومنها): “أن الله تعالى أمر بني إسرائيل أن يدخلوا الباب سُجَّدًا؛ أي: يركعون تعظيمًا لله تعالى، والركوع يسمى السجود، وذلك شكرًا لله.
4- (ومنها): عتو بني إسرائيل، وعنادهم، وتمردهم على أنبيائهم، ومعارضتهم لأمر الله وأمر رسوله ﷺ.
5- (ومنها): أنهم غيروا في القول، وفي الفعل؛ بسبب عتوهم وعنادهم.
أما في الفعل: فلما أمرهم الله تعالى أن يدخلوا الباب سجدًا دخلوه يزحفون.
وأما في القول: فقد غيروا، وقالوا: حنطة في شعرة، أو: حبة في شعرة، فزادوا النون في (حطة) فصارت (حنطة)، أو غيروها من (حطة) إلى (حبة) سخرية واستهزاء – لعنهم الله -، فغيروا في القول وفي الفعل- عياذًا بالله.
والجهمية الذين أنكروا صفات الله تعالى أيضًا- غيروا؛ ففسروا- مثلًا-: ﴿استوى﴾ باستولى، فزادوا لامًا، كما أن اليهود زادوا نونًا في ﴿حِطَّة﴾؛ ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله:
أُمِرَ اليَهُودُ بِأَنْ يَقُولُوا حِطَّةً … فَأَبَوْا وقَالُوا حِنْطَةً لِهَوانِ
وَكَذَلِكَ الجَهْمِيُّ قِيلَ لَهُ اسْتَوَى … فَأَبَى وَزَادَ الحَرْفَ لِلنُّقْصَانِ
قَالَ اسْتَوَى اسْتَوْلَى وَذَا مِنْ جَهْلِهِ … لُغَةً وَعَقْلًا مَا هُمَا سِيَّانِ [القصيدة النونية، لابن القيم (ص ١٢١)]
6- (ومنها): الحث على امتثال أوامر الله عزوجل، واتباع نبيه ﷺ، فالواجب على المسلم أن يعمل بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ، وأن يتبع الأوامر، وأن يَحْذَر من التغيير والتبديل.
ولما فعل هؤلاء هذا مع نبيهم ورفضوا الانقياد لموسى عليه السلام، وقالوا له: ﴿اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون﴾، أي: لا يمكن أن ندخل البلدة التي فيها قوم جبارون ما داموا فيها، قال لهم: إن الله وعدني إن أنتم صدَّقتم لينصرنكم، قالوا: لن نستطيع، اذهب قاتل أنت وربك؛ إنا ههنا قاعدون، فعاقبهم الله تعالى بالتيه، وقال: ﴿فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض﴾، أي: لا يهتدون.
لكن البلدة فُتحت بعد ذلك لما هلك هؤلاء، وجاء أبناؤهم الذين نشؤوا تنشئة صالحة على الجهاد وعلى القتال، فدخلوا مع نبيهم عليه السلام وفتح موسى بيتَ المقدس. [توفيق الرب المنعم بشرح صحيح الإمام مسلم، (8/ 485 – 486)].
7- (ومنها): احذر أن يُفتح لك باب رحمة وعمل صالح فتضيعه بتفريط منك؛ ﴿فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوا۟ قَوْلًا غَيْرَ ٱلَّذِى قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُوا۟ رِجْزًا مِّنَ ٱلسَّمَآءِ بِمَا كَانُوا۟ يَفْسُقُونَ﴾. [تدبر وعمل].
8- (ومنها): قال الحافظ رحمه الله: أن الأقوال المنصوصة إذا تُعُبد بلفظها لا يجوز تغييرها، ولو وافق المعنى، وليست هذه مسألة الرواية بالمعنى، بل هي متفرعة منها، وينبغي أن يكون ذلك قيدًا في الجواز، أعني: يزاد في الشرط أن لا يقع التعبد بلفظه، ولا بد منه، ومن أطلق فكلامه محمول عليه، قاله في «الفتح». [«الفتح» ١٠/ ١٤١ – ١٤٢].
9- (ومنها): من فوائد الآيتين: إثبات القول لله عزوجل؛ لقوله تعالى: ﴿وإذ قلنا ادخلوا﴾؛ وهو قول حقيقي بصوت، وبحرف؛ لكن صوته عزوجل لا يشبهه صوت من أصوات المخلوقين؛ ولا يمكن للإنسان أن يدرك هذا الصوت؛ لقوله تعالى: ﴿ولا يحيطون به علمًا﴾ [طه: ١١٠]؛ وهكذا جميع صفات الله عزوحل.
10- (ومنها): وعد الله لهم بدخولها؛ ويؤخذ هذا الوعد من الأمر بالدخول؛ فكأنه يقول: فتحنا لكم الأبواب فادخلوا …
11- (ومنها): جواز أكل بني إسرائيل من هذه القرية التي فتحوها؛ فإن قال قائل: أليس حِلّ الغنائم من خصائص هذه الأمة. أي: أمة محمد ﷺ؟
فالجواب: بلى، والإذن لبني إسرائيل أن يأكلوا من القرية التي دخلوها ليس على سبيل التمليك؛ بل هو على سبيل الإباحة؛ وأما حِلّ الغنائم لهذه الأمة فهو على سبيل التمليك.
12- (ومنها): أنه يجب على من نصره الله، وفتح له البلاد أن يدخلها على وجه الخضوع، والشكر لله؛ لقوله تعالى: ﴿وادخلوا الباب سجدًا وقولوا حطة﴾؛ ولهذا لما فتح النبي ﷺ مكة دخلها مطأطئًا رأسه يقرأ قول الله تعالى: ﴿إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا﴾ [الفتح: ١].
13- (ومنها): لؤم بني إسرائيل، ومضادَتُهم لله ورسله؛ لأنهم لم يدخلوا الباب سجدًا؛ بل دخلوا يزحفون على أستاههم على الوراء استكبارًا واستهزاءً!!
14- (ومنها): بيان قبح التحريف سواء كان لفظيًا، أو معنويًا؛ لأنه يغير المعنى المراد بالنصوص.
15- (ومنها): أن الجهاد مع الخضوع لله تعالى، والاستغفار سبب للمغفرة؛ لقوله تعالى: ﴿نغفر لكم خطاياكم﴾، وسبب للاستزادة أيضًا من الفضل؛ لقوله تعالى: ﴿وسنزيد المحسنين﴾.
=====
ثانيًا: الأحكام والمسائل والملحقات:
(المسألة الأولى): النصوص الواردة في الباب:
٢٣ – باب قول: ﴿وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨)﴾
قوله: ﴿وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ﴾ القرية هي الأرض المقدسة، أي: بيت المقدس، كما جاء في سورة المائدة: ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (٢١) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (٢٢) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) قَالُوا يَامُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (٢٤)﴾ [المائدة: ٢١ – ٢٤].
وقوله: ﴿سُجَّدًا﴾: أي خاضعا وراكعا لتعذر حمله على حقيقته.
وقوله: ﴿وَقُولُوا حِطَّةٌ﴾: أي مغفرة، روي ذلك عن ابن عباس.
أخرجه الحاكم (٢/ ٢٦٢) وقال: «صحيح على شرط الشيخين».
– عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : «قيل لبني إسرائيل: ﴿وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ﴾ فبدلوا، فدخلوا يزحفون على أستاههم، وقالوا: حبة في شعرة».
متفق عليه: رواه البخاريّ في التفسير (٤٦٤١) ومسلم في التفسير (٣٠١٥) كلاهما من حديث عبد الرزاق، حدّثنا معمر، عن همام بن منبه، قال: هذا ما حدّثنا أبو هريرة فذكره.
– عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم : «قال اللَّه لبني إسرائيل: …. الحديث
ورواه البزّار -كشف الأستار (١٨١٢) – مفصلا عن إسحاق بن بهلول، ثنا محمد بن إسماعيل ابن أبي فديك، ثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد أنه قال: خرجنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بعسفان قال لنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : «إنّ عيون المشركين الآن على ضجنان، فأيكم يعرف طريق ذأت الحنظل؟» فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين أمسى: «هل من رجل ينزل فيسعى بين يدي الركاب؟» فقال رجل: أنا يا رسول اللَّه، فنزل، فجعلت الحجارة تنكبه والشجر يتعلق بثيابه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : «اركب» ثم نزل آخر، فجعلت الحجارة تنكبه، والشجر يتعلق بثيابه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : «اركب» ثم وقعنا على الطريق، حتى سرنا في ثنية يقال لها الحنظل، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : «ما مثل هذه الثنية إلا كمثل الباب الذي دخل فيه بنو إسرائيل، قيل لهم: ﴿وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ﴾، لا يجوز أحد الليلة هذه الثنية إلا غفر له»، فجعل الناس يسرعون ويجوزون، وكان آخر من جاز قتادة بن النعمان في آخر القوم، قال: فجعل الناس يركب بعضهم بعضًا حتى تلاحقنا، قال: فنزل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ونزلنا.
قال البزار: لا نعلم أحد رواه هكذا إلا محمد بن إسماعيل.
قال ابن حجر في مختصر زوائد مسندالبزار :
قلت: هو ثقة يحتمل له التفرد، وشيخه أخرج له مسلم، والإِسناد كله على شرطه، إلا أن هشامًا فيه لين.
وذكره ابن كثير في التفسير :
وَقَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْذِرِ القَزّاز، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي فُدَيْكٍ به
وقال الهيثمي في «المجمع» (٦/ ١٤٤): رواه البزار ورجاله ثقات.
قلت. إسناده حسن من أجل محمد بن إسماعيل بن أبي فديك فإنه حسن الحديث. [الجامع الكامل في الحديث الصحيح للأعظمي رحمه الله، (10 / 93 – 94)].
وفي صحيح السيرة :
[درجته: سنده صحيح، رواه: البزار مجمع الزوائد (6 – 144)، هذا السند: صحيح فشيخ البزار ثقة تاريخ بغداد (6 – 366)، وشيخه صدوق من رجال الشيخين (2 – 145)، وزيد وعطاء تابعيان ثقتان أما هشام فهو حسن الحديث إذا انفرد لكنه أثبت الناس في الرواية عن زيد كما قال أبو داود التهذيب (11 – 39)].
[الصحيح من أحاديث السيرة النبوية (ص357)]
وقال صاحب كتاب مرويات في غزوة الحديبية وذكر عن أبي داود قوله في هشام : أثبت الناس في زيد بن أسلم .
ومع ذلك فللحديث شاهد في المعنى من حديث جابر وحديث المسور ومروان الآتيين، فالحديث لا يقل عن درجة الحسن إن شاء الله.
(٥٢) قال مسلم: حدثنا عبيد الله بن معاذ العنبري حدثنا أبي حدثنا قرة بن خالد عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ: «من يصعد الثنية ثنية المرار، فإنه يحط عنه ما حط عن بني إسرائيل». قال: فكان أول من صعدها خيلنا خيل بني الخزرج، ثم تتام الناس، فقال رسول الله ﷺ: «كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر»، فأتيناه فقلنا له: تعال يستغفر لك رسول الله ﷺ، فقال: «والله لأن أجد ضالتي أحب إلي من أن يستغفر لي صاحبكم، قال: وكان رجل ينشد ضالة له»
صحيح مسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم: ١٢.
والحديث في أطراف الغرائب :
١٥٩٧ – (م) – حَدِيث: هبطنا ثنية الحنظل. . الحَدِيث.
تفرد بِهِ عِصَام بن يزِيد جبر عَن ابْن عُيَيْنَة عَن عَمْرو عَن جَابر.
(المسألة الثانية): تفسير الآية
قال ابن الجوزي (ت ٥٩٧) رحمه الله:
قال الله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨)}.
قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ}.
في القائل لهم قولان:
أحدهما: أنه موسى بعد مضيّ الأربعين سنة.
والثاني: أنه يوشع بن نون بعد موت موسى.
والقرية: مأخوذة من الجمع، ومنه: قريت الماء في الحوض. والمقراة: الحوض يجمع فيه الماء.
وفي المراد بهذه القرية قولان:
أحدهما: أنها بيت المقدس، قاله ابن مسعود وابن عباس وقتادة والسّدّيّ والرّبيع، وروي عن ابن عباس أنها أريحا. قال السدي: وأريحا: هي أرض بيت المقدس.
والثاني: أنها قرية من أداني قرى الشام، قاله وهب [في الحاشية زاد المسير: “قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ١/ ٩٨: يقول الله تعالى لائما لهم على نكولهم عن الجهاد ودخولهم الأرض المقدسة لما قدموا من بلاد مصر بصحبة موسى عليه السلام، فأمروا بدخول الأرض المقدسة، التي هي ميراث لهم عن أبيهم إسرائيل وقتال من فيها من العماليق الكفرة فنكلوا عن قتالهم وضعفوا واستحسروا فرماهم الله في التيه عقوبة لهم كما ذكره الله تعالى في سورة المائدة، ولهذا كان أصح القولين أن هذه البلدة هي بيت المقدس” انتهى].
قوله تعالى: {وَادْخُلُوا الْبابَ}، قال ابن عباس: وهو أحد أبواب بيت المقدس، وهو يدعى:
باب حطة، وقوله: سُجَّدًا، أي: ركعًا. قال وهب: أمروا بالسجود شكرا لله عزوجل إذ ردهم إليها. قوله تعالى: وَقُولُوا حِطَّةٌ قرأ ابن السميفع وابن أبي عبلة (حطةً) بالنصب.
وفي معنى «حطة» ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: استغفروا، قاله ابن عباس ووهب. قال ابن قتيبة: وهي كلمة أُمروا أن يقولوها في معنى الاستغفار، من: حططت، أي: حط عنا ذنوبنا.
والثاني: أن معناها: قولوا: هذا الأمر حق كما قيل لكم، ذكره الضحاك عن ابن عباس.
والثالث: أن معناها: لا إله إلا الله، قاله عكرمة. قال ابن جرير الطبري: فيكون المعنى: قولوا الذي يحط عنكم خطاياكم، وهو قول «لا إِله إِلا الله».
ولماذا أمروا بدخول القرية؟
فيه قولان:
أحدهما: أن ذلك لذنوب ركبوها فقيل: (ادخلوا القرية) (وادخلوا الباب سجدًا نغفر لكم خطاياكم)، قاله وهب.
والثاني: أنهم ملوا المن والسلوى، فقيل:
اهْبِطُوا مِصْرًا، فكان أول ما لقيهم أريحا، فأمروا بدخولها.
قوله تعالى: {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ}، قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي:
(نغفر لكم) بالنون مع كسر الفاء. وقرأ نافع وأبان عن عاصم «يغفر» بياء مضمومة وفتح الفاء. وقرأ ابن عامر بتاء مضمومة مع فتح الفاء. [زاد المسير في علم التفسير، لابن الجوزي (ت ٥٩٧) رحمه الله، (1/ 68 – 69)].
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: والصواب أن المراد بها بيت المقدس…
وقوله: ﴿رَغَدًا﴾ أي: طمأنينة وهنيئًا لا أحد يعارضكم في ذلك ولا يمانعكم، ولا يقال: إن هذا مثلًا يخالف قول الرسول ﷺ: «أُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي»، نقول: لأنها ما هي غنائم هذه، ولكنه أبيح لهم أن يأكلوا من هذه الأرض سواء كان بطريق الشراء، أو بطريق المعاملة المزارعة أو ما أشبه ذلك (…).
ما المراد بهذا السجود؟ المراد به السجود حقيقة؛ لأنه ظاهر اللفظ، وعلى هذا القول لا يُسَلَّم بأن معنى الآية: ﴿للَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ﴾ أن معناها مطلق الخضوع، بل هو سجود، ولكل أحد سجود يناسبه، وكذلك أيضًا لا يسلم بأن قوله: ﴿وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا﴾ أي: ركعوا له بل إنما هم سجدوا حقيقة؛ لأن قوله: ﴿خَرُّوا﴾ يدل على ذلك، وعليه إذا قلنا … فالمراد: إذا دخلتم الباب فاسجدوا لله تعالى شكرًا على هذه النعمة؛ ولهذا «لما فتح الرسول ﷺ مكة صلى ثماني ركعات ضحى»، من العلماء من قال: إنها سنة الضحى، ومنهم من قال: إنها سنة الفتح.
﴿وَقُولُوا حِطَّةٌ﴾ معنى حطة: احطط عنا ذنوبنا.
وقوله: ﴿خَطَايَاكُمْ﴾ الخاطئ ملوم، والمخطئ معذور، قال الله تعالى: ﴿لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (١٥) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ﴾ [العلق ١٥، ١٦] وقال: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ [البقرة ٢٨٦] أخطأنا فهو مخطئ، غفرت لهم خطاياهم، زيادة على ذلك: ﴿وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ﴾ ﴿سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ﴾ هذا فوق مغفرة الخطايا، فضل. … ” إلخ. [تفسير ابن عثيمين (١٤٢١ هـ) رحمه الله، بتصرف يسير واختصار].
وفي تفسير السجود قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في كتاب جامع الرسائل لابن تيمية (1/ 27 – 28):
“السُّجُود من جنس الْقُنُوت، فَإِن السُّجُود الشَّامِل لجَمِيع الْمَخْلُوقَات هُوَ المتضمن لغاية الخضوع والذل، وكل مَخْلُوق فقد تواضع لعظمته، وذل لعزته، واستسلم لقدرته وَلَا يجب أَن يكون سُجُود كل شَيْء مثل سُجُود الْإِنْسَان على سَبْعَة أَعْضَاء، وَوضع جبهة فِي رَأس مدور على التُّرَاب، فَإِن هَذَا سُجُود مَخْصُوص من الْإِنْسَان وَمن الْأُمَم من يرْكَع وَلَا يسْجد وَذَلِكَ سجودها؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ادخُلُوا الْبَاب سجدا وَقُولُوا حطة} [سُورَة الْبَقَرَة ٥٨]، وَإِنَّمَا قيل ادخلوه ركعا، وَمِنْهُم من “يسْجد” على جنب كاليهود، فالسجود اسْم جنس، وَلَكِن لما شاع سُجُود الْآدَمِيّين الْمُسلمين صَار كثير من النَّاس يظنّ أَن هَذَا هُوَ سُجُود كل أحد كَمَا فِي لفظ الْقُنُوت.
وَكَذَلِكَ لفظ “الصَّلَاة” لما كَانَ الْمُسلمُونَ يصلونَ الصَّلَاة الْمَعْرُوفَة، صَار يظنّ من يظنّ أَن كل من صلى فَهَكَذَا يُصَلِّي حَتَّى صَار بعض أهل الْكتاب ينفرون من قَوْلنَا: إِن الله يُصَلِّي، وينزهونه عَن ذَلِك؛ فَإِنَّهُم لم يعرفوا من لفظ الصَّلَاة إِلَّا دُعَاء الْمُصَلِّي لغيره، وخضوعه لَهُ، وَلَا ريب أَن الله منزه عَن ذَلِك، لَكِن لَيست هَذِه صلَاته سُبْحَانَهُ، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: {ألم تَرَ أَن الله يسبح لَهُ من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَالطير صافات كل قد علم صلَاته وتسبيحه} [سُورَة النُّور ٤١].
وَهُوَ سُبْحَانَهُ قد ذكر سُجُود الظل فِي غير مَوضِع كَقَوْلِه: {أولم يرَوا إِلَى مَا خلق الله من شَيْء يتفيأ ظلاله عَن الْيَمين وَالشَّمَائِل سجدا لله وهم داخرون} [سُورَة النَّحْل ٤٨] وَقَالَ تَعَالَى: {وَللَّه يسْجد من فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض طَوْعًا وَكرها وظلالهم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال} [سُورَة الرَّعْد ١٥] وَمَعْلُوم أَن الظل إِذا سجد لم يسْجد على سَبْعَة أَعْضَاء: يضع رَأسه وَيَديه ثمَّ يرفع رَأسه وَيَديه، بل سُجُوده ذله وخضوعه … إلخ. ذكر فيه تفسير الآية بعد ذلك. وملخص ما رجحه ابن تيمية أنه طلب من بني إسرائيل السجود حقيقة فقال :
أن السجود في الأصل هو غاية الذل والخضوع لله، وهو السجود المعروف وضع الجبهة على الأرض ، لكنه قد يطلق في بعض السياقات على الانحناء دون ملامسة الأرض، كما في بعض النصوص التي ذكرت السجود ولم يقصد بها الوضع الكامل على الأرض.
قال: لَكِن ظَاهر الْقُرْآن هُوَ السُّجُود وَالسُّجُود الْمُطلق هُوَ السُّجُود الْمَعْرُوف
وقال: وَقَوْلهمْ حطة فِي السُّجُود أشبه فَلم يثبت لنا إِلَى الْآن أَن الرُّكُوع يُسمى سجودا بِخِلَاف الْعَكْس
وقال: والْآثَار عَن السّلف متواترة بِأَن دَاوُد سجد فَكل ساجد رَاكِع وَلَيْسَ كل رَاكِع ساجد
وقال: فالساجد رَاكِع وَزِيَادَة فَلهَذَا جَازَ أَن يُسمى رَاكِعا
وقال: لفظ السُّجُود فَإِنَّهُ إِنَّمَا يسْتَعْمل فِي غَايَة الذل والخضوع وَهَذِه حَال الساجد لَا الرَّاكِع
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
فصل:
ومن تلاعب الشيطان بهذه الأمة وكيده لهم: أنهم قيل لهم، وهم مع نبيهم، والوحى ينزل عليه من الله تعالى: ﴿ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ﴾ [البقرة: ٥٨].
قال قتادة، وابن زيد، والسدى، وابن جرير وغيرهم: هي قرية بيت المقدس: ﴿فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا﴾ [البقرة: ٥٨]، أي: هنيئًا واسعًا، ﴿وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا﴾ [البقرة: ٥٨] .
قال السدى: هو باب من أبواب بيت المقدس. وكذلك قال ابن عباس رضى الله تعالى عنهما، قال: والسجود، بمعنى: الركوع. وأصل السجود: الانحناء لمن تعظمه. فكل منحن لشيء تعظيما له فهو ساجد، قاله ابن جرير وغيره.
قلت: وعلى هذا فانحناء المتلاقيين عند السلام، أحدهما لصاحبه من السجود المحرم، وفيه نهى صريح عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم.
ثم قيل لهم ﴿قُولُوا حِطَّةٌ﴾ [البقرة: ٥٨] .
أي: حط عنا خطايانا. هذا قول الحسن، وقتادة، وعطاء.
وقال عكرمة وغيره: أى قولوا: «لا إله إلا الله»، وكأن أصحاب هذا القول اعتبروا الكلمة التي تحط بها الخطايا، وهي كلمة التوحيد.
وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس «أمروا بالاستغفار».
وعلى القولين: فيكونون مأمورين بالدخول بالتوحيد والاستغفار، وضمن لهم بذلك مغفرة خطاياهم.
فتلاعب الشيطان بهم، فبدلوا قولا غير الذى قيل لهم، وفعلا غير الذى أمروا به.
فروى البخاري في صحيحه ومسلم أيضًا، من حديث همام بن منبه عن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «قِيلَ لِبَنِى إِسْرَائِيلَ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطّةٌ، نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ فَبَدَّلُوا، فَدَخَلُوا الْبَابَ يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ، وَقَالُوا: حَبَّةٌ في شَعْرَةٍ. فبَدَّلُوا القولَ وَالفِعْلَ معًا. فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ».
قال أبو العالية: هو الغضب. وقال ابن زيد: هو الطاعون.
وعلى هذا فالطاعون بالرصد لمن بدل دين الله قولا وعملا. [إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان، لابن القيم (ت ٧٥١) رحمه الله، – ت الفقي، (٢/٣٠٩)].
(المسألة الثالثة): “تحريف أدلة الكتاب بعد معرفتها لتوافق أهواءهم
وأول ما كانت عند أهل الكتاب من أهل الأهواء والرغبات والشهوات، إذا لم يقدروا على تكذيب النص وجحوده، سطوا عليه بالتحريف والتأويل والتفسير بغير معناه.
ولا يزال المسلمون يعانون من هذه الآفة من أهل الأهواء والفرق الضالة وأصحاب الشهوات.
إذا قيل لهم: الربا حرام، قالوا: المراد بالربا كذا، يفسرون الربا على حسب هواهم
ومن تحريف اليهود: أن الله لما قال لهم: ﴿وادْخُلُوا البابَ سُجَّدًا وقُولُوا حِطَّةٌ﴾ [البقرة ٥٨]. حط عنا ذنوبنا واغفر لنا، حرفوا وقالوا: حبة من حنطة، زادوا حرف النون.
والمؤولة لصفات الله، لما قال الله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه ٥] قالوا: معناه: استولى. فزادوا اللام من جنس نون اليهود.
هذا تحريف بالزيادة، وهناك تحريف بالنقص، وتحريف في المعنى، وهو تفسير القرآن بغير تفسيره الصحيح، وتفسير الأحاديث بغير تفسيرها الصحيح، هذا كله من تحريف الكلم عن مواضعه”. [شرح مسائل الجاهلية، للشيخ صالح الفوزان، (113 – 115)].
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في النونية:
1923 – أُمِرَ اليهودُ بأنْ يَقُولُوا “حِطَّةٌ” … فَأَبَوْا وَقَالُوا: “حِنْطَةٌ” لِهَوَانِ
1924 – وَكَذَلِكَ الجهْمِيُّ قِيلَ لَهُ “اسْتَوى” … فأبَى وَزَادَ الحَرْفَ لِلنُّقْصَانِ
1925 – قَالَ اسْتَوى “اسْتَولَى” وَذَا مِنْ جَهْلِهِ … لُغَةً وعَقْلًا مَا هُمَا سِيَّانِ
1926 – عِشْرونَ وَجْهًا تُبطِلُ التَّأوِيل بِاسْـ … ـتوْلَى فَلَا تَخْرُج عَنِ القُرْآنِ
1927 – قَدْ أُفرِدَتْ بمُصَنَّفٍ هُوَ عِنْدَنَا … تَصْنِيفُ حَبرٍ عَالِمٍ رَبَّانِي
1928 – وَلَقَدْ ذَكَرْنَا أرْبعِينَ طريقَةً … قَدْ أبطَلَتْ هَذَا بِحُسْنِ بَيَانِ
1929 – هِيَ فِي الصَّواعِقِ إنْ تُرِدْ تَحْقِيقَهَا … لَا تَخْتَفِي إلَّا عَلَى العُمْيَانِ
1930 – نُونُ اليَهُودِ وَلَامُ جَهْميٍّ هُمَا … فِي وَحْي رَب العَرْشِ زَائِدَتَانِ
1931 – وكَذلِكَ الجَهْمِيُّ عَطَّلَ وَصْفَهُ … وَيَهُودُ قَدْ وَصَفَوهُ بالنُّقْصَانِ
1932 – فَهُمَا إذًا فِي نَفْيِهِم لِصِفَاتِهِ الْـ … ـعلْيَا كَمَا بَيَّنْتُهُ أخَوَانِ
[نونية ابن القيم الكافية الشافية – ط عطاءات العلم 2/ 516].
(المسألة الرابعة): علم المتشابه:
أولاً:
قال الشيخ عبد المحسن العباد في آيات متشابهات الألفاظ في القرآن الكريم وكيف التمييز بينها، ص(13) في “القسم الأول: ما كان التشابه فيه بين كلمتين أو أكثر والموضع المتقدم في القرآن مبدوء بحرف من حروف الهجاء” في قوله تعالى:
“﴿وإذْ قُلْنا ادْخُلُوا هَذِهِ القَرْيَةَ فَكُلُوا مِنها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وادْخُلُوا البابَ سُجَّدًا وقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وسَنَزِيدُ المُحْسِنِينَ﴾ [البقرة:٥٨].
﴿وإذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ القَرْيَةَ وكُلُوا مِنها حَيْثُ شِئْتُمْ وقُولُوا حِطَّةٌ وادْخُلُوا البابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزَيِدُ المُحْسِنِينَ﴾ الأعراف:١٦١].
وفي الآيتين من التشابه:
في البقرة ﴿وإذْ قُلْنا﴾، وفي الأعراف ﴿وإذْ قِيلَ﴾
وفي البقرة ﴿ادْخُلُوا﴾ وفي الأعراف ﴿اسْكُنُوا﴾.
وفي البقرة ﴿فَكُلُوا مِنها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا﴾،.وفي الأعراف عكسها ﴿وكُلُوا مِنها حَيْثُ شِئْتُمْ﴾.
وفي البقرة ﴿وادْخُلُوا البابَ سُجَّدًا وقُولُوا حِطَّةٌ﴾، وفي الأعراف عكسها ﴿وقُولُوا حِطَّةٌ وادْخُلُوا البابَ سُجَّدًا﴾.
وفي البقرة ﴿وسَنَزِيدُ المُحْسِنِينَ﴾، وفي الأعراف ﴿سَنَزَيِدُ المُحْسِنِينَ﴾.”. انتهى.
ثانيًا:
قال الزركشي، بدر الدين (ت ٧٩٤) في البرهان في علوم القرآن عن النوع الخامس: علم المتشابه: “وفِيهِ فصول:
الفصل الأول: المتشابه باعتبار الأفراد. الأوَّلُ: بِاعْتِبارِ الأفْرادِ وهُوَ عَلى أقْسامٍ: الأوَّلُ: أنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ عَلى نَظْمٍ وفي آخَرَ عَلى عَكْسِهِ وهُوَ يُشْبِهُ رَدَّ العَجُزِ عَلى الصَّدْرِ ووَقَعَ فِي القُرْآنِ مِنهُ كَثِيرٌ فَفِي البَقَرَةِ ﴿وادْخُلُوا البابَ سُجَّدًا وقُولُوا حِطَّةٌ﴾ وفِي الأعْرافِ ﴿وقُولُوا حِطَّةٌ وادْخُلُوا البابَ سُجَّدًا﴾. ..”. انتهى المراد. [البرهان في علوم القرآن، الزركشي (1/ 112 – 113)].
(المسألة الخامسة):
وفي كشف المشكل من حديث الصحيحين (3/ 494 – 495)، لابن الجوزي (ت ٥٩٧) رحمه الله تعالى:
١٩٧٧ – / ٢٤٣٩ – وَفِي الحَدِيث الثَّانِي وَالسبْعين بعد الْمِائَتَيْنِ: «قيل لبني إِسْرَائِيل: ادخُلُوا الْبَاب سجدا وَقُولُوا حطة، فبدلوا فَدَخَلُوا يزحفون على أستاههم، وَقَالُوا: حَبَّة فِي شَعْرَة».
من تَأمل هَذَا الحَدِيث علم فرق مَا بَين أمتنَا وَبني إِسْرَائِيل، فَإِن أُولَئِكَ لما أذنبوا دلوا على طَرِيق التَّوْبَة وأتوها متلاعبين بِالدّينِ، وَهَذَا يدل على أَن الذُّنُوب مَا آلمتهم، وَلَا دخل خوف الْجَزَاء عَلَيْهَا فِي قُلُوبهم، وَلَا اكترثوا بالتحذير من عواقبها، وَلَا سروا بِالدّلَالَةِ على طَرِيق النجَاة من شَرها.
وَمن كَانَ تلاعبه فِي أصل دينه وَمَعَ نبيه وَفِي بَاب تَوْبَته فَهُوَ فِي غَايَة الْبعد.
وَهَذِه الْأمة إِذا أذْنب مذنبهم انْكَسَرَ وَبكى وَاعْتذر، ثمَّ لَا يزَال ينصب ذَنبه بَين عَيْنَيْهِ وَيَوَد أَن لَو مُحي بِكُل مَا يقدر عَلَيْهِ، فَالْحَمْد لله الَّذِي جعلنَا من هَذِه الْأمة”. انتهى.
(المسألة السادسة): الفتاوى:
س [1]: عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «قيل لبني إسرائيل: ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة، فدخلوا يزحفون على أستاههم فبدلوا وقالوا: حطة حبة في شعرة».، صحيح البخاري المجلد الثاني باب ﴿وإذْ قُلْنا ادْخُلُوا هَذِهِ القَرْيَةَ﴾ الآية ص ٦٤٣، قال محمد حفظ الرحمن في تصنيفه قصص القرآن الجزء الثاني صفحة ١٧: أن يفهم من رواية البخاري أن بني إسرائيل يزحفون على أستاههم ولكن ليس هذا مشي المتكبرين مروجا ومعقولا في العالم بل شبههم هكذا أضحوكة للناس، فالتفسير الصحيح لعبد الله بن مسعود أنه قال: إن بني إسرائيل يمشون مرحا وتبخترا رافعين برءوسهم حين دخلوا البلد ويحركون أستاههم ويميلون صدورهم يمينا وشمالا كما يمشي المتكبرون كذا في قصص القرآن لمحمد حفظ الرحمن، فماذا ترى في هذا الباب، أتفسير البخاري حق أم تفسير عبد الله بن مسعود؟ فصل فيه القول بالقرآن والسنة فجزاكم الله عنا وعن جميع المسلمين جزاء حسنا.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه، وبعد:
ج: …تفسيرها بما جاء في الحديث هو الصحيح؟ لأنه عن النبي المعصوم ﷺ، وعملهم مع كونه سخرية واستهزاء متضمن للتمرد على الله والاستكبار عن طاعته وبهذا يعلم خطأ تفسير الآية بمجرد الكبر والخيلاء.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو … عضو … نائب رئيس اللجنة … الرئيس
عبد الله بن قعود … عبد الله بن غديان … عبد الرزاق عفيفي … عبد العزيز بن عبد الله بن باز – رحمهم الله تعالى -.
[فتوى رقم (٦٨٨٩)، مجلة البحوث الإسلامية، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، (46/ 162 – 164)].
(المسألة السابعة):
قال القاضي عياض رحمه الله : ”أَجْمَع الْمُسْلِمُون أَنّ الْقُرْآن الْمَتْلُوّ فِي جَمِيع أَقْطَار الأَرْض الْمَكْتُوب فِي الْمُصْحَف بِأَيْدِي الْمُسْلِمِين مِمَّا جَمَعَه الدَّفَّتَان من أَوَّل (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالمين ) إِلَى آخِر ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) أنَّه كَلَام اللَّه وَوَحْيُه المُنَزَّل عَلَى نَبِيّه مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم ، وَأَنّ جَمِيع مَا فِيه حَقّ ، وَأَنّ من نَقَص مِنْه حَرْفًا قَاصِدًا لِذَلِك أَو بَدَّلَه بِحَرْف آخَر مَكَانَه أَو زَاد فِيه حَرْفًا مِمَّا لَم يَشْتَمِل عَلَيْه المُصْحَف الَّذِي وَقَع الإِجْمَاع عَلَيْه وأُجْمِع عَلَى أَنَّه لَيْس مِن الْقُرْآن عَامِدًا لِكُلّ هَذَا : أَنَّه كَافِر”. انتهى من”الشفا” (2/ 304-305) ، وينظر : “التقرير والتحبير” لابن أمير الحاج (2/ 215) .
وجاء في “الموسوعة الفقهية” (35/ 214) : ” الْقُرْآنُ كَلاَمُ اللَّهِ الْمُعْجِزُ الْمُنَزَّل عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَنْقُول بِالتَّوَاتُرِ، فَيَحْرُمُ تَعَمُّدُ اللَّحْنِ فِيهِ ، سَوَاءٌ أَغَيَّرَ الْمَعْنَى أَمْ لَمْ يُغَيِّرْ ؛ لأِنَّ أَلْفَاظَهُ تَوْقِيفِيَّةٌ نُقِلَتْ إِلَيْنَا بِالتَّوَاتُرِ ، فَلاَ يَجُوزُ تَغْيِيرُ لَفْظٍ مِنْهُ بِتَغْيِيرِ الإْعْرَابِ أَوْ بِتَغْيِيرِ حُرُوفِهِ بِوَضَعِ حَرْفٍ مَكَانَ آخَرَ ” انتهى .
(المسألة الثامنة):
قال الشيخ عطية سالم – رحمه الله – :
إذا كان هذا حال بعض الذين أجرموا مع بعض ضعفة المؤمنين ، وكذلك حال بعض الأمم مع رسلها : فإن الداعية إلى الله تعالى يجب عليه ألا يتأثر بسخرية أحد منه ، ويعلم أنه على سَنن غيره من الدعاة إلى الله تعالى ، وأن الله تعالى سينتصر له إما عاجلاً ، وإما آجلاً ، كما في نهاية كل سياق من هذه الآيات .
(فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) المطففين/ 36 .
وهذا رد على سخرية المشركين منه في الدنيا وهو كما قال تعالى (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) آل عمران/ 212 . [” تتمة أضواء البيان ” ( 8 / 464 ، 465)].
(المسألة التاسعة):
“[وما قاله بعض العلماء]: من أنَّ هذه الآية الكريمة يؤخذ منها عدم نقل الحديث بالمعنى؛ لأنَّ الله ذمَّ من بدل قولًا بقولٍ غيره، فيلزم أنْ يكون القول هو نفس ما أمر به لا قولا آخر، غير صواب.
[ويجاب عنه]: بأنَّ القول المأمور به له حالتان:
إمّا أنْ يكون متعبدًا بلفظه، كالله أكبر في الصلاة، وما جرى على ذلك من العبادات القولية، فمثل هذا لا يجوز تبديله ومَنْ بدّله يلحقه من الوعيد ما لحقه بقدر ما ارتكب في قوله: ﴿فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ﴾، ولا يجوز تبديله.
أمّا الذي لم يتعبد بلفظه، فلا مانع من أنْ يبدَّل بلفظ يؤدِّي معناه إذا لم يكن هناك تفاوتٌ في المعنى، وجماهير العلماء من المسلمين قديمًا وحديثًا على جواز نقل الحديث بالمعنى، إذا كان ناقله بالمعنى عارفًا باللسان متبحرًا فيه، لا تخفى عليه النكت والتفاوت الذي يكون بين الألفاظ، ونَقَلَه بعبارةٍ ليست أخفى من نص الحديث، ولا أظهر من نص الحديث، فلا يجوز نقله بلفظ أظهر منه،
قال بعض العلماء: لأنَّه قد يعارضه حديث آخر والظهور من المرجحات بين النصوص المتعارضة، فيظن المجتهد أنَّ لفظ الراوي الظاهر الذي بَدّله بلفظ هو أقل منه ظهورًا أنه من لفظ النبي فيرجِّحه بهذا الظهور على حديث آخر، فيكون استناد هذا الترجيح مستندًا لتصرف الراوي، وهذا مما لا ينبغي.
وعلى كلِّ حال فمسألة نقل الحديث بالمعنى مسألة معروفة في الأصول وعلوم الحديث، منعها قومٌ واستدلوا بالحديث أنَّ النبي ﷺ لما سمع الرجل قال: «ورسولك الذىِ أرسلت» ردَّ عليه وقال: «ونبيك الذي أرسلت»، ولا شك في أنَّ اللفظ لا يقوم مقامه اللفظ الذي تصرف به الراوي؛ لأنَّ (ونبيك الذي أرسلت) واضحٌ بليغ لا تكْرير فيه؛ لأنَّ النبي قد يكون مرسلا، وقد يكون غير مرسل، والرسول مرسلُ قطعًا فيكون: (ورسولك الذي أرسلت) تكرارًا يعني؛ لأنَّ الذي أرسلت معناه يؤديه: (رسولك)، أما (ونبيك الذي أرسلت) فيكون كلُّ من الكلمتين عمدة وتأسيسًا لا لغوًا،
والحاصل أنَّ المعروف أنَّ الجمهور من العلماء على جواز نقل الحديث بالمعنى إذا وثق الراوي أنه لم يزد في معناه ولم ينقص، وأنَّ قومًا منعوا ذلك،
وأنَّ الآية لا دليل فيها لذلك البتة، لأنَّهم إنَّما بدَّلوا قولا منافيًا في المعنى ممنوع بإجماع المسلمين، وليس مما فيه الخلاف، إنَّما الخلاف في تبديل الألفاظ مع بقاء المعنى، وإنْ بدَّلوا اللفظ بلفظ لا يؤدي معناه ونريد أن يقولوا حطة، فقالوا: حبة في شعرة أو حنطة في شعيرة، فالقول الذي بدَّلوا به ليس معناه معنى القول الذي أُمروا به، فكأنهم رفضوه بتاتًا وعصوا الله، وجاءوا بما لم يؤمروا لا لفظًا ولا معنى، فإن الذي بدلوا به أنهم أُمروا بالسجود فدخلوا يزحفون على أستاههم. [مجالس مع فضيلة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي ١/٢٠٢، أحمد بن محمد الشنقيطي].
[وانظر في هذه المسألة]: تفسير القرطبي = الجامع لأحكام القرآن (1/ 411).
(المسألة العاشرة): وقفات مع القصة
(الوقفة الأولى): – أهم ما يشار إليه هنا، وهو المحور الذي تدور حوله القصة -، بيان عظم وزر من يبدل كلام الله ويستخف بمقامه، ويقابل أوامره بالسخرية والاستهزاء، وفرق بين من يعصي الله عز وجل وهو مقر بذنبه، مستشعر لقبيح جرمه، وبين من يجاهر بالمعصية عتوا وطغيانا، واستعلاء وغطرسة.
(الوقفة الثانية): وفي قوله الله تعالى: {فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا} [البقرة : 58]، دلالة على أن تلك المعصية لم تصدر من الجميع، بل كان في القوم أناس صالحون، لم يشملهم العذاب لقيامهم بواجبهم من إنكار المنكر؛ قال تعالى: {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} [الأعراف : 159].
(الوقفة الثالثة): فيما يتعلق بنوع العذاب الذي عوقبوا به، فقد اختلف العلماء في تقديره، فقال بعضهم: الغضب من الله، وقال آخرون: هو الطاعون؛ واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن هذا الوجع – يعني: الطاعون – رجز أو بقية عذاب عذب به أناس من قبلكم)) رواه مسلم، ولا دلالة واضحة للنصوص والآثار على تعيين المقصود، ومهما كان نوع العذاب، فلا شك أنه كان شديدا يتناسب مع عظم الجرم الذي قاموا به.
(الوقفة الرابعة): تدل القصة على ما يجب أن يكون عليه سلوك الفاتحين من التواضع لله وعدم الاستعلاء والاستكبار، كما هو شأن نبينا صلى الله عليه وسلم عندما دخل مكة خافضا رأسه حتى إن ذقنه يكاد أن يمس راحلته.
وسياق القصة يدل على أن ما أبيح لقوم يوشع عليه السلام من الغنيمة كان بعض خيرات المدينة من الطعام والمأوى ، وإلا فقد جاء في حديث آخر أن ما غنموه في المعركة من سلاح وعتاد لم يكن في أيديهم ، بل أرسل الله له نارا من السماء فأحرقته ، ثم أحل لأمة محمد – صلى الله عليه وسلم – من الغنائم ما لم يحل لأحد قبلهم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم – : ( ذلك بأن الله تبارك وتعالى رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا ) رواه مسلم .
وأخيرا فأمة اليهود تاريخها واحد ، قديمه كحديثه ، ووسطه كطرفيه ، سلسلة لا تنتهي من أنواع التمرد والعصيان ، نسأل الله تعالى أن يجنبنا شرهم ، ويقينا مكرهم .
[تنبيه] انظر: فتح الاحد الصمد شرح الصحيح المسند، [1ج/ رقم (393)].