تتمة شرح الصحيح المسند 419 … مسألة:
وقد اختلف في أيِّ الكلمتين أفضلُ؟ أكلمةُ الحمدِ أم كلمةُ التَّهليلِ؟ وقد حكى هذا الاختلافَ ابنُ عبد البرِّ وغيره. وقال النَّخعي: كانوا يرون أن الحمدَ أكثرُ الكلام تضعيفًا، وقال الثوري: ليس يُضاعف من الكلام مثل الحمد لله. والحمدُ يتضمَّنُ إثباتَ جميع أنواع الكمال لله، فيدخل فيه التوحيد.
جامع العلوم والحكم – ت الأرنؤوط (2) / (20) — ابن رجب الحنبلي (ت (795))
السؤال
أيهما أفضل: التسبيح والتهليل أم الاستغفار؟
الجواب
التسبيح والتهليل أفضل؛ لأنه عبادة وثناء على الله، والاستغفار دعاء طلب المغفرة، وكل منهما عبادة وخير، لكن التسبيح فيه ثناء على الله ?، والمؤمن يجمع بين هذا وهذا، فيسبح ويهلل ويكبر ويدعو الله، فكلها عبادة لله.
فتاوى منوعة – الراجحي (9) / (21) — عبد العزيز بن عبد الله الراجحي (معاصر)
وقلت لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يومًا: سُئِل بعض أهل العلم: أيما أنفع للعبد، التسبيح أو الاستغفار؟ فقال: إذا كان الثوب نقيًّا فالبخور وماء الورد أنفع له، وإن كان دَنِسًا فالصابون والماء الحارُّ أنفع له. فقال لي رحمه الله تعالى: فكيف والثياب لا تزال دَنِسة؟!.
الوابل الصيب – ط عطاءات العلم (1) / (233)
الفصل الثاني الذكر أفضل من الدعاء
(الفصل الثاني) الذكر أفضل من الدعاء.
الذكر ثناء على الله عزوجل بجميل أوصافه وآلائه وأسمائه، والدعاء سؤال العبد حاجته.
فأين هذا من هذا؟
ولهذا جاء في الحديث «من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين» ولهذا كان المستحب في الدعاء أن يبدأ الداعي بحمد الله والثناء عليه بين يدي حاجته، ثم يسأل حاجته.
كما في حديث فضالة بن عبيد «أن رسول الله ? سمع رجلًا يدعو في صلاته لم يحمد الله تعالى ولم يصل على النبي ? فقال رسول الله ? عجل هذا ثم دعاه فقال له أو لغيره: إذا صلى أحدكم فليبدأ بتمجيد ربه عزوجل والثناء عليه، ثم يصلي على النبي ?، ثم يدعو بعد بما بشاء» رواه الإمام أحمد والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
ورواه الحاكم في صحيحه.
وهكذا دعاء ذي النون عليه الصلاة والسلام قال فيه النبي ? «دعوة أخي ذي النون ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربته: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين}» وفي الترمذي «دعوة أخي ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت {لا إله إلا أنت سبحانك، إني كنت من الظالمين} فإنه لم يدع بها مسلم قط إلا استجاب له».
وهكذا عامة الأدعية النبوية على قائلها أفضل الصلاة والسلام، ومنه قوله ? في دعاء الكرب «لا إله إلا الله الحليم العظيم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم» ومنه حديث بريدة الأسلمي الذي رواه أهل السنن وابن حبان في صحيحه أن رسول الله ? سمع رجلًا يدعو وهو يقول: «اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد فقال: والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا
دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى» وروى أبو داود والنسائي من حديث أنس «أنه كان مع النبي ? جالسًا ورجل يصلي ثم دعا: اللهم إني أسألك بأن لك الحمد، ولا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم.
فقال النبي ?: لقد دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى» فأخبر النبي ? أن الدعاء يستجاب إذا تقدمه هذا الثناء والذكر، وأنه اسم الله الأعظم فكان ذكر الله ? والثناء عليه أنجح ما طلب به العبد حوائجه.
وهذه فائدة أخرى من فوائد الذكر والثناء، أنه يجعل الدعاء مستجابًا.
فالدعاء الذي تقدمه الذكر والثناء أفضل وأقرب إلى الإجابة من الدعاء المجرد، فإن انضاف إلى ذلك إخبار العبد بحاله ومسكنته وافتقاره واعترافه كان أبلغ في الإجابة وأفضل، فإنه يكون قد توسل المدعو بصفات كماله وإحسانه وفضله، وعرض بل صرح بشدة حاجته وضرورته وفقره ومسكنته، فهذا المقتضى منه، وأوصاف المسئول مقتضى من الله، فاجتمع المقتضي من السائل والمقتضى من المسؤول في الدعاء، وكان أبلغ وألطف موقعًا وأتم معرفة وعبودية.
وأنت ترى في المشاهد – ولله المثل الأعلى – أن الرجل إذا توسل إلى ما يريد معروفة بكرمه وجوده وبره وذكر حاجته هو وفقره ومسكنته كان أعطف لقلب المسؤول وأقرب لقضاء حاجته.
فإذا قال له: أنت جودك قد سارت به الركبان، وفضلك كالشمس لا تنكر ونحو ذلك، وقد بلغت بي الحاجة والضرورة مبلغًا لا صبر معه ونحو ذلك، كان أبلغ في قضاء حاجته من أن يقول ابتداء أعطني كذا وكذا.
فإذا عرفت هذا فتأمل قول موسى ? في دعائه {رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير} وقول ذي النون في دعائه {لا إله إلا أنت سبحانك، إني كنت من الظالمين} وقول أبينا آدم {ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} وفي الصحيحين أن أبا بكر الصديق قال: يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي، فقال: «قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، وإنه لا يغفر
الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم» فجمع في هذا الدعاء الشريف العظيم القدر بين الاعتراف بحاله والتوسل إلى ربه عزوجل بفضله وجوده وأنه المنفرد بغفران الذنوب، ثم سأل حاجته بعد التوسل بالأمرين معًا.
فهكذا أدب الدعاء وآداب العبودية
الوابل الصيب – ط دار الحديث (1) / (89) – (91)
ولنذكر فصولًا نافعة تتعلق بالذكر تكميلًا للفائدة:
الفصل الأول: الذكر نوعان: أحدهما ذكر أسماء الرب عزوجل وصفاته والثناء عليه بهما وتنزيهه وتقديسه عما لا يليق به.
وهذا أيضًا نوعان:
(أحدهما) إنشاء الثناء عليه بها من الذاكر، وهذا النوع هو المذكور في الأحاديث، نحو سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وسبحان الله وبحمده، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ونحو ذلك.
فأفضل هذا النوع أجمعه للثناء وأعمه نحو سبحان الله عدد خلقه، فهذا أفضل من مجرد سبحان الله، وقولك الحمد لله عدد ما خلق في السماء وعدد ما خلق في الأرض وعدد ما بينهما وعدد ما هو خالق، أفضل من مجرد قولك الحمد لله.
وهذا في حديث جويرية أن النبي ? قال لها: «لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن: سبحان الله عدد خلقه، سبحان الله رضا نفسه، سبحان الله زنة عرشه، سبحان الله مداد كلماته» رواه مسلم.
وفي الترمذي وينن أبي داود عن سعد بن أبي وقاص أنه دخل مع رسول الله على امرأة بين يديها نوى أو حصى تسبح بها فقال: «سبحان الله عدد ما خلق في السماء، وسبحان الله عدد ما خلق في الأرض، وسبحان الله عدد ما بين ذلك، وسبحان الله عدد ما هو خالق، والله أكبر
مثل ذلك، ولا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك»
(الثاني) الخبر عن الرب تعالى بأحكام أسمائه وصفاته، نحو قولك: الله ? يسمع أصوات عباده ويرى حركاتهم، ولا تخفى عليه خافية من أعمالهم، وهو أرحم بهم من آبائهم وأمهاتهم، وهو على كل شيء قدير، وهو أفرح بتوبة عبده من الفاقد راحلته ونحو ذلك.
وأفضل هذا النوع الثناء عليه بما أثنى به على نفسه وبما أثنى به رسول الله ? من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تشبيه ولا تمثيل وهذا النوع أيضًا ثلاثة أنواع: حمد، وثناء، ومجد، فالحمد لله الإخبار عنه بصفات كماله ? مع محبته والرضاء به، فلا يكون المحب الساكت حامدًا ولا المثني بلا محبة حامدًا حتى تجتمع له المحبة والثناء، فإن كرر المحامد شيئًا بعد الشيء كانت ثناء، فإن كان المدح بصفات الجلال والعظمة والكبرياء والملك كان مجدًا، وقد جمع الله تعالى لعبده الأنواع الثلاثة في أول الفاتحة، فإذا قال العبد: {الحمد لله رب العالمين} قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرحمن الرحيم} قال: أثنى علي عبدي، وإذا قال: {مالك يوم الدين} قال: مجدني عبدي.
(النوع الثاني) من الذكر ذكر أمره ونهيه وأحكامه، وهو أيضًا نوعان:
(أحدهما) ذكره بذلك إخبارًا عنه أمر بكذا ونهى عنه كذا وأحب كذا وسخط كذا ورضي كذا.
(والثاني) ذكره عند أمره فيبادر إليه، وعند نهيه فيهرب منه، فذكر أمره ونهيه شيء، وذكره عند أمره ونهيه شيء آخر، فإذا اجتمعت هذه الأنواع للذاكر فذكره أفضل الذكر وأجله وأعظمه.
(فائدة) فهذا الذكر من الفقه الأكبر وما دونه أفضل الذكر إذا صحت فيه النية.
ومن ذكره عزوجل ذكر آلائه وإنعامه وإحسانه وأياديه ومواقع فضله على عبيده، وهذا أيضًا من أجل أنواع الذكر.
فهذه خمسة أنواع وهي تكون بالقلب واللسان تارة، وذلك أفضل الذكر.
وبالقلب وحده تارة، وهي الدرجة الثانية، وباللسان وحده تارة، وهي الدرجة الثالثة.
فأفضل الذكر ما تواطأ عليه القلب واللسان،
وإنما كان ذكر القلب وحده أفضل من ذكر اللسان وحده لأن ذكر القلب يثمر المعرفة ويهيج المحبة ويثير الحياء ويبعث على المخافة ويدعو إلى المراقبة ويزع عن التقصير في الطاعات والتهاون في المعاصي والسيئات، وذكر اللسان وحده لا يوجب شيئًا منها فثمرته ضعيفة.
الوابل الصيب – ط دار الحديث (1) / (87) – (91)
(الحادية والعشرون)
أن ما يذكر به العبد ربه عزوجل من جلاله وتسبيحه وتحميده يذكر بصاحبه عند الشدة، فقد روى الإمام أحمد في المسند عن النبي ? قال «إن ما تذكرون من جلال الله عزوجل من التهليل والتكبير والتحميد يتعاطفن حول العرش لهن دوي كدوي النحل يذكرن بصاحبهن.
أفلا يحب أحدكم أن يكون له ما يذكر به»؟ هذا الحديث أو معناه.
الوابل الصيب – ط دار الحديث (1) / (43) — ابن القيم (ت (751))
(الحادية والستون)
أن الذكر يعطي الذاكر قوة، حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لم يظن فعله بدونه، وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في سننه وكلامه وإقدامه وكتابه أمرًا عجيبًا، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعه وأكثر، وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب أمرًا عظيمًا، وقد علم النبي ? ابنته فاطمة وعليًا ? أن يسبحا كل ليلة إذا أخذوا مضاجعهما ثلاثًا وثلاثين ويحمدا ثلاثًا وثلاثين ويكبرا أربعًا وثلاثين لما سألته الخادم وشكت إليه ما تقاسيه من الطحن والسعي والخدمة، فعلمها ذلك وقال: إنه خير لكما من خادم فقيل أن من داوم على ذلك وجد قوة في يومه مغنيه عن خادم.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يذكر أثرًا في هذا الباب ويقول: إن الملائكة لما أمروا بحمل العرش قالوا: يا ربنا كيف نحمل عرشك وعليه عظمتك وجلالك؟ فقال: قولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله، فلما قالوا حملوه.
حتى رأيت ابن أبي الدنيا قد ذكر هذا الأثر بعينه عن الليث بن سعد عن معاوية بن صالح قال: حدثنا مشيختنا أنه بلغهم أن أول ما خلق الله ? حين كان عرشه على الماء – حملة العرش، قالوا: ربنا لم خلقتنا؟ قال: خلقتكم لحمل عرشي.
قالوا: ربنا ومن يقوى على حمل عرشك وعليه عظمتك وجلالك ووقارك؟ قال: لذلك خلقتكم.
فأعادوا عليه ذلك مرارًا فقال لهم: قولوا: لا حول ولا قوة إلا بالله، فحملوه.
وهذه الكلمة لها تأثير عجيب في معالجة الأشغال الصعبة، وتحمل المشاق، والدخول على الملوك، ومن يخاف، وركوب الأهوال.
ولها أيضًا تأثير في دفع الفقر، كما روى ابن أبي الدنيا عن الليث بن معاوية بن صالح عن أسد بن وداعة رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله ?: من قال لا حول ولا قوة إلا بالله مائة مرة في كل يوم لم يصبه فقر أبدًا» وكان حبيب
بن سلمة يستحب إذا لقي عدوًا أو ناهض حصنًا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وإنه ناهض يومًا حصنًا للروم.
الوابل الصيب – ط دار الحديث (1) / (77) – (78)
يَعْرِضَ للعبدِ ما يجعل الذكر أو الدعاء أنفع له من قراءة القرآن.
مثالُه: أن يتفكر في ذنوبه، فَيُحْدِثُ ذلك له توبة واستغفارًا، أو يَعْرِضَ له … ما يَخافُ أذاه من شياطين الإنس والجن، فيَعْدِلَ إلى الأذكار والدَّعواتِ التي تُحَصِّنُه وَتَحُوطُه.
وكذلك أيضًا قد يَعْرِضُ للعبد حاجةٌ ضرورية إذا اشتغل عن سؤالها بقراءةٍ أو ذِكْرٍ لم يَحْضُرْ قلبُه فيها، وإذا أقبل على سؤالها والدعاء لها اجتمع قلبه كله على الله تعالى، وأحدث له تضرُّعًا وخشوعًا وابتهالًا، فهذا قد يكون اشتغاله بالدعاء -والحالة هذه- أنفعُ، وإن كان كلٌّ من القراءة والذكر أفضل وأعظم أجرًا.
وهذا بابٌ نافعٌ يحتاج إلى فِقْه نَفْسٍ، وفُرْقانٍ بين فضيلة الشيء في نفسه وبين فضيلته العارضة، فَيُعْطَى كلُّ ذي حقٍّ حقَّه، ويُوضَعُ كلُّ شيءٍ مَوْضِعَه.
الوابل الصيب – ط عطاءات العلم (1) / (231) – (232)
وقد أوضح هذا شيخ الإسلام ابن تيمية وبيَّنه بيانًا وافيًا في جوابٍ له عن هذه المسألة يقول:
“وتحقيق ذلك أنَّ العمل المفضول قد يقترن به ما يصيّره أفضل من ذلك وهو نوعان:
أحدهما: ما هو مشروع لجميع الناس.
والثاني: ما يختلف باختلاف أحوال الناس أما الأوّل: فمثل أن يقترن إما بزمان أو بمكان أو عمل يكون (به) أفضل، مثل ما بعد الفجر والعصر ونحوهما من أوقات النهي عن الصلاة، فإنَّ القراءة والذِّكر والدعاء أفضلُ في هذا الزمان، وكذلك الأمكنةُ التي نُهي عن الصلاة فيها كالحمّام وأعطانِ الإبل، فالذِّكرُ والدعاء فيها أفضل، وكذلك الجنب الذِّكر في حقّه أفضل، فإذا كُره الأفضل في حال حصول مفسدة كان المفضول هناك أفضل بل هو المشروع.
وكذلك حال الركوع والسجود، فإنَّه قد صحّ عن النبي ? أنَّه قال: «نُهيت أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا، أما الركوع فعظِّموا فيه الرّب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء، فقَمِنٌ أن يستجاب لكم» (1).
وقد اتّفق العلماء على كراهة القراءة في الركوع والسجود، وتنازعوا في بطلان الصلاة بذلك على قولين هما وجهان في مذهب الإمام أحمد، وذلك تشريفًا للقرآن وتعظيمًا له أن لا يقرأ في حال الخضوع والذُّلّ، وما بعد التشهّد هو حال الدعاء المشروع بفعل النبي ? وأمره، والدعاءُ فيه هو الأفضل، بل هو المشروع دون القراءة والذِّكر، وكذلك حال الطّواف، وبعرفة ومزدلفة وعند رمي الجمار المشروع هناك هو الذكر والدعاء.
ثم ذكر ? النوع الثاني: وهو أن يكون العبد عاجزًا عن العمل الأفضل، إما عاجزًا عن أصله كمن لا يحفظ القرآن ولا يستطيع حفظه كالأعرابي الذي سأل النبي ?، أو عاجزًا عن فعله على وجه
(1) رواه مسلم (رقم: (479)).
الكمال مع قدرته على فعل المفضول على وجه الكمال، إلى أن قال: وليس كلُّ ما كان أفضل يشرع لكلِّ أحد، بل كلُّ واحد يشرع له أن يفعل ما هو أفضل له، فمن الناس من تكون الصدقة أفضل له من الصيام وبالعكس، وإن كان جنس الصدقة أفضل، ومن الناس من يكون الحج أفضل له من الجهاد كالنساء وكمن يعجز عن الجهاد، وإن كان جنس الجهاد أفضل، ثم قال: إذا عُرف هذا فيقال: الأذكار المشروعة في أوقات متعيّنة، مثل ما يقال عند جواب المؤذّن هو أفضل من القراءة في تلك الحال، وكذلك ما سنّه النبي ? فيما يقال عند الصباح والمساء وإتيان المضطجع هو مقدّمٌ على غيره، وأما إذا قام من الليل فالقراءة له أفضل إذا أطاقها، وإلاّ فليعمل ما يطيق، والصلاةُ أفضل منهما، ولهذا نقلهم عند نسخ وجوب قيام الليل إلى القراءة فقال: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ الَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ} (1)»). اهـ.
وبهذا التحقيق الذي ذكره شيخ الإسلام يتبيّن القول الفصل في هذه المسألة العظيمة، فتلاوة القرآن الكريم هي أفضل الأذكار، ومقدَّمة على التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والدعاء والاستغفار وغير ذلك من الأدعية والأذكار، إلاّ أنَّ هناك حالات معيَّنة تقترن بالعمل الفاضل يكون بها أفضل من غيره، وقد أشار شيخ الإسلام في تحقيقه المتقدّم إلى أمثلة عديدة لذلك.
(1) سورة المزّمّل، الآية: ((20)).
روى الطبري عن عمرو بن أبي سلمة، قال: «سألتُ الأوزاعي عن قراءة القرآن أعْجَبُ إليك أم الذكر؟ فقال: سل أبا محمّد – يعني سعيد بن المسيّب – فسألته؟ فقال: بل القرآن. فقال الأوزاعي: إنَّه ليس شيءٌ يعدل القرآن، ولكن إنَّما كان هدي من سلف يذكرون الله تعالى قبل طلوع الشمس وقبل الغروب» (1).
فأشار ? إلى أنَّ القرآن هو أفضل الأذكار ولا يعدله شيء، لكنَّ الأذكار الوارندة في الصباح والمساء وأدبار الصلوات وغيرها تكون في وقتها أفضل، والله أعلم، وصلّى الله وسلّم على نبيِّنا محمّد وآله وصحبه.
فقه الأدعية والأذكار (1) / (100) – (103) — عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر (معاصر)
والرابع: فوائد الحديث
(1) – (منها): بيان فضل الذكر بما جاء في هذا الحديث.
(2) – (ومنها): بيان أن الذكر فضله عظيم، وإن كان من الأفعال التي لا مشقّة فيها، بل هي متيسّرة على الجميع، حيث إنها تُفعل قيامًا، وقعودًا، وعلى الجُنوب، وماشيًا، ومشتغلًا بأشغال أخرى، ومع هذا كلّه يحصل بها من الأجر ما لا يحصل بالأعمال الشاقّة، بل هي أفضل من الجهاد، والإنفاق في سبيل الله، وغير ذلك من الأعمال، فقد أخرج الترمذيّ من حديث أبي الدرداء – رضي الله عنه – قال: قال النبيّ ?: “ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والورِق، وخير لكم من أن تلقوا عدوّكم، فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟»، قالوا: بلى، قال: «ذِكر الله تعالى». [«جامع الترمذيّ» (5) / (459)]، وهو حديث صحيح.
(3) – (ومنها): بيان سعة فضل الله -سُبْحانَهُ وتَعالى- على عباده حيث شرع لهم الذى هو ميسور لكلّ أحد، ورتّب عليه الثواب الجزيل، فيُدرك العبد في أيام معدودة من الأجر والثواب ما يُدركه في سنين مديدة بغيره من الأعمال، {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشاءُ واللَّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ} [الحديد (21)].
(4) – (ومنها): ما قاله القرطبيّ -رَحِمَهُ اللهُ-: وهذه الأجور العظيمة، والعوائد الجمة، إنما تحصل كاملة لمن قام بحق هذه الكلمات، فأحضر معانيها بقلبه، وتأمّلها بفهمه، واتضحت له معانيها، وخاض في بحار معرفتها، ورتع في رياض زهرتها، ووصل فيها إلى عين اليقين، فإنْ لم يكن، فإلى علم اليقين، وهذا هو الإحسان في الذكر، فإنّه من أعظم العبادات، وقد قال ? فيما قدَّمناه في الإحسان: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإنْ لم تكن تراه فإنّه يراك»، متَّفقٌ عليه.
ثم لمّا كان الذاكرون في إدراكاتهم، وفهومهم مختلفين، كانت أجورهم على ذلك، بحَسَب ما أدركوا، وعلى هذا يُنَزّل اختلاف مقادير الأجور، والثواب المذكور في أحاديث الأذكار، فإنك تجد في بعضها ثوابًا عظيمًا مضاعَفًا، وتجد تلك الأذكار بأعيانها في رواية أخرى أكثر، أو أقل، كما اتَّفَق هنا في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- المتقدّم، فإنّ فيه ما ذكرناه من الثواب، وتجد تلك الأذكار بأعيانها، وقد علّق عليها من ثواب عِتْق الرقاب أكثر مما علقه على حديث أبي هريرة، وذلك أنه قال في حديث أبي هريرة: «من قال ذلك في يوم مئة مرة كانت له عدل عشر رقاب»، وفي حديث أبي أيوب: «من قالها عشر مرات كانت له عدل أربع رقاب»، وعلى هذا فمن قال ذلك مائة مرة كانت له عدل أربعين رقبة، وكذلك تجده في غير هذه الأذكار، فيرجع الاختلاف الذي في الأجور لاختلاف أحوال الذاكرين، وبهذا يرتفع الاضطراب بين أحاديث هذا الباب [«المفهم» (7) / (20) – (21)]، والله تعالى أعلم. [.
وانظر:
فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم: ” (48) – كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار “.