تابع شرح صحيح مسلم 3017 كتاب التفسير في نزول اليوم أكملت لكم دينكم وأنها نزلت في يوم عيد
(المسألة الخامسة): حكم اتخاذ الأعياد: لا يُشرع عيد إلا بدليل، واتخاذ يوما عيداً بغير دليل بدعة؛ لأن العبادات توقيفية.
“ومما أحدث الناس اليوم من الأعياد تشبه بالنصارى واليهود، وليس لنا إلا عيدان نحتفل بهما: عيد الأضحى، وعيد الفطر، وليس لنا أن نحدث احتفالات بأعياد أخرى، نعم أيام منى أعياد لكن فيها ما شرع الله من المناسك ورمي الجمار والتكبير، وعيد الجمعة عيد نصلي فيه ونجتمع لصلاة الجمعة لكن لا نصوم يوم الجمعة؛ لأنا نهينا عن صيام يوم الجمعة، ولا نأتي بعبادات خاصة في ليلتها؛ لأنا نهينا عن تخصيصها بشيء، وهي أفضل الأيام، خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، ثم مع هذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صومها عن إفرادها بالصوم، وعن تخصيص ليلتها بقيام؛ سدًا لباب البدع، وسدًا لباب الغلو، وتسهيلًا على أمته لئلا يشق عليهم ذلك، فجعل يوم الجمعة لا يخص بصيام، ولا تخص ليلتها بقيام؛ تسهيلا على الأمة، وحسمًا لمادة المشقة عليها وتكلفها.”. قاله الشيخ ابن باز حمة الله عليه. [بدعة الإحداث في أعياد المسلمين، دروس و محاضرات، التعليقات على ندوات الجامع الكبير، للإمام ابن باز رحمه الله تعالى].
الفرق بين العيد الشرعي والحدث التاريخي: الأعياد الشرعية (الفطر، الأضحى، الجمعة) مرتبطة بالعبادات، لا بالأحداث. وقد سبق الإشارة إلى شيء من ذلك.
(المسألة السادسة): بيان تفرد هذه الأمة بكمال الدين، وعدم حاجتها لتقليد غيرها.
(المسألة السابعة): إكمال الدين وعدم الحاجة إلى زيادة أو نقصان: وهذا يدل على أن الشريعة قد كملت، فلا يجوز الابتداع في الدين.
(المسألة الثامنة): تحذير من البدع والمحدثات: لأن إكمال الدين يعني أن كل ما استُحدث بعد ذلك مما لا دليل عليه فهو بدعة.
(المسألة التاسعة): في اختلاف الروايات في آخر ما نزل من القرآن:
قال القرطبيّ رحمه الله: وقول البراء: «آخرُ آيَةٍ أُنزلت آية الكلالة» إلى آخره: اختُلِف في آخر آية أنزلت، فقيل ما قال البراء، وقال ابن عباس: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [المائدة: ٣]، وقيل: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ ……﴾ [الأنعام: ١٤٥]،
والجمع بينها أن يقال: إن آية الكلالة آخر ما نزل من آيات المواريث، وآخر آية أنزلت في حصر المحرمات ﴿قُلْ لَا أَجِدُ ……﴾،
والظاهر أن آخر الآياتِ نزولًا: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾؛ لأنَّ الكمال لمّا حَصَل لم يبق بعده ما يزاد، والله أعلم.
وأما قوله: «آخر سورة نزلت براءة»؛ فقد فَسَّر مراده بقوله في الرواية الأخرى: «أنزلت كاملة»، ومع ذلك: فقد قيل: إن آخر سورة نزلت: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (١)﴾، وكانت تسمى سورة التوديع.
وقد اختُلِف في وقت نزولها على أقوال: أشبهها قول ابن عمر رضي الله عنهما: إنها نزلت في حَجَّة الوداع، ثم نزلت بعدها: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [المائدة: ٣]، فعاش بعدها ثمانين يومًا، ثم نزلت بعدها آية الكلالة، فعاش بعدها خمسين يومًا، ثم نزل بعدها: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ [التوبة: ١٢٨]، فعاش بعدها خمسة وثلاثين يومًا، ثم نزلت بعدها: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾ [البقرة: ٢٨١]، فعاش بعدها أحدًا وعشرين يومًا، وقال مقاتل: سبعة أيام، والله أعلم.
ذكر هذا الترتيب أبو الفضل محمد بن يزيد بن طيفور الغزنويّ في كتابه المسمَّى بـ «عيون معاني التفسير». انتهى [«المفهم» ٤/ ٥٧٣ – ٥٧٤].
قال الإتيوبي عفا الله عنه: الحاصل أنه قد اختلفت الروايات في آخر ما نزل من القرآن، وقد عقد له السيوطي رحمه الله في «الإتقان» بابًا.
أخرج البخاريّ في «صحيحه» عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنه قال: آخر آية نزلت على النبيِّ صلى الله عليه وسلم آية الربا.
وأخرج الطبريّ عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أيضًا: أن آخر آية نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم : ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾ الآية.
وأخرج النسائيّ عن ابن عبّاس أيضًا: أن آخر سورة نزلت هي: ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (١)﴾ … إلخ.
وأخرج الحاكم في «مستدركه» عن أُبي بن كعب رضي الله عنه، قال: «آخر آية نزلت: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ﴾ إلى آخر السورة [الكهف: ١١٠]».
وأخرج الطبريّ عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أنه تلا هذه الآية: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ﴾ الآية، وقال: إنها آخر آية نزلت من القرآن.
وأخرج ابن مردويه من طريق مجاهد، عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: آخر آية نزلت هذه الآية: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ﴾ إلي آخرها [آل عمران: ١٩٥].
قال بعضهم [راجع: «تكملة فتح الملهم» ٢/ ٤١ – ٤٢]: فأما الروايتان الأخيرتان، فالظاهر أن المراد بهما أن هاتين الآيتين لم ينسخهما شيء، وقد ثبت أن بعض الصحابة رضي الله عنهم كانوا يُطلقون مثل هذا الكلام في الآيات المحكمة التي لم يُنسخ حكمها، فقد أخرج البخاريّ وغيره عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، قال: «نزلت هذه الآية: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ﴾ الآية [النساء: ٩٣] هي آخر ما نزل، وما نسخها شيء».
وأرادت أم سلمة رضي الله عنها في الرواية الأخيرة أنَّها قالت للنبيّ صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله أرى الله يذكر الرجال، ولا يذكر النساء، فنزلت: ﴿وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ [النساء: ٣٢]، ونزلت: ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ والْمُسْلِمَاتِ﴾ الآية، [الأحزاب: ٣٥] ونزلت هذه الآية -تعني ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى﴾ [آل عمران: ١٩٥]- فهي آخر الثلاثة نزولًا، وآخر ما نزل بعد ما كان ينزل في الرجال خاصّة.
وأما الروايتان الأوليان فلا تعارض بينهما؛ لأنَّ آية الربا، وقوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ﴾ الآية [البقرة: ٢٨١] متّصلتان متلاحقتان، والظاهر أنهما نزلا معًا، فيصدُق على كلّ واحد منهما أنه آخر ما نزل.
فبقي التعارض بين آية الربا، وآية الكلالة، ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ [التوبة: ١٢٨]، و«سورة النصر»، فيجاب بما أجاب به البيهقيّ رحمه الله، وهو أن كلّ واحد أجاب بما عنده؛ أي: بما ظَنّ أنه الآخِر، والله تعالى أعلم.
وقال السيوطيّ رحمه الله في «الإتقان» بعد ذكر الروايات ما نصّه: ولا منافاة عندي بين هذه الروايات في آية الربا: ﴿وَآتقُوا يَوْمًا﴾، وآية الدَّين، لأنَّ الظاهر أنَّها نزلت دفعةً واحدةً، كترتيبها في المصحف، ولأنها في قصّة واحدة، فأخبر كلٌّ عن بعض ما نزل بأنه آخر ذلك، وذلك صحيح، وقول البراء: آخر ما نزل: ﴿يَسْتَفْتُونَكَ﴾ أي: في شأن الفرائض. وقال ابن حجر في «شرح البخاريّ»: طريق الجمع بين القولين في آية الربا: ﴿وَآتقُوا يَوْمًا﴾ أن هذه الآية هي ختام الآيات المنزلة في الربا؛ إذ هي معطوفة عليهنّ، ويُجْمَع بين ذلك وبين قول البراء بأن الآيتين نزلتا جميعًا فيصدق أن كُلًّا منهما آخِر بالنسبة لما عداهما.
ويَحْتَمِل: أن تكون الآخِرية في آية النساء مقيدة بما يتعلق بالمواريث، بخلاف آية البقرة.
ويَحْتَمِل عكسه، والأول أرجح؛ لِمَا في آية البقرة من الإشارة إلى معنى الوفاة المستلزمة لخاتمة النزول.
قال: وقال البيهقيّ: يُجمَع بين هذه الاختلافات إن صحّت بأن كلّ واحد أجاب بما عنده، وقال القاضي أبو بكر في «الانتصار»: هذه الأقوال ليس فيها شيء مرفوع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وكلٌّ قاله بضرب من الاجتهاد وغلبة الظنّ، ويَحْتَمل أن كلًّا منهم أخبر عن آخِر ما سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه، أو قبل مرضه بقليل، وغيره سمع منه بعد ذلك، وإن لم يسمعه هو، ويَحْتَمِل أيضًا أن تنزل هذه الآية التي هي آخر آية تلاها الرسول صلى الله عليه وسلم مع آيات نزلت معها، فيأمر برسم ما نزل معها بعد رسم تلك، فيُظنّ أنه آخِر ما نزل في الترتيب، انتهى كلام السيوطيّ رحمه الله في الإتقان« [الإتقان في علوم القرآن” ١/ ٢٩].
قال [الإتيوبي] عفا الله عنه: عندي أقرب الأقوال وأولاها في الجمع ما قاله البيهقيّ، والقاضي أبو بكر -رحمهما الله تعالى-، وهو أن كلّ واحد من هؤلاء المختلفين ذكر ما ظنّ أنه آخِر، فلا تعارض بين الروايات، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب. [البحر المحيط الثجاج].
المسألة العاشرة
في قول ابن رجب فيما سبق :
ولكن الأيام التي يحدث فيها حوادث من نِعَم الله على عباده، لو صامها بعض الناس شكرًا من غير اتخاذها عيدًا، كان حسنًا استدلالًا بصيام النبيّ ﷺ عاشوراء لمّا أخبره اليهود بصيام موسى عليه السلام له شكرًا، وبقول النبيّ ﷺ لمّا سئل عن صيام يوم الاثنين، قال: «ذلك يوم وُلدت فيه، وأُنزل علي فيه».
فأما الأعياد التي يجتمع عليه الناس فلا يُتجاوز بها ما شرعه الله لرسوله ﷺ وشرعه الرسول لأمته.
والأعياد: هي مواسم الفرح والسرور؛ وإنما شرع الله لهذه الأمة الفرح والسرور بتمام نعمته وكمال رحمته، كما قال تعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ [يونس: ٥٨]،
فشرع لهم عيدين في سنة وعيدًا في كل أسبوع . انتهى
لعله يمكن تأويل كلامه بأن الصيام شكر لله بعد حصول النعمة مشروع من باب الشكر العملي، وليس من باب تعيين يوم الحدث، ولا تكراره.
يعني يصوم بعد حصول النعمة بمدة وجيزة، وليس كل ما تكرر هذا اليوم من الأسبوع أو الشهر أو السنة.
فقد قال رحمه الله من غير اتخاذها عيداً.
والله أعلم
وهذه فتاوى وبحوث حول هذه المسألة :
فتوى لبعض أهل العلم :
السؤال
هل يجوز صيام يوم ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم اعتماداً على الحديث الذي في صحيح مسلم والنسائي وأبي داود عندما سئل صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم الاثنين فقال ” ذاك يوم ولدت فيه….” ، واعتمادا على هذا الحديث أيضاً هل يجوز للشخص أن يصوم اليوم الذي ولد فيه متأسياً في ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم ؟ أرجو الإيضاح .
الجواب
الحمد لله.
أولا :
روى مسلم (1162) عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ صَوْمِ الِاثْنَيْنِ فَقَالَ : ( فِيهِ وُلِدْتُ وَفِيهِ أُنْزِلَ عَلَيَّ ) .
وروى الترمذي (747) وحسنه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ فَأُحِبُّ أَنْ يُعْرَضَ عَمَلِي وَأَنَا صَائِمٌ )
صححه الألباني في “صحيح الترمذي” .
فتبين بما تقدم من الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم كما صام يوم الاثنين شكرا لنعمة مولده في هذا اليوم ، صامه أيضا لفضله : فقد أنزل عليه الوحي في ذلك اليوم ، فيه تعرض الأعمال على الله ، فأحب صلى الله عليه وسلم أن يرفع عمله وهو صائم ، فمولده الشريف في ذلك اليوم كان سببا من أسباب متعددة لصيام ذلك اليوم
فمن صام يوم الاثنين ، كما صامه النبي صلى الله عليه وسلم ، ورجا فيه المغفرة ، وشكر ما أنعم الله على عباده في هذا اليوم ، والتي من أعظمها ما أنعم الله على عباده بميلاد نبيه وبعثته ، ورجا أن يكون من أهل المغفرة في ذلك اليوم : فهو أمر طيب ، موافق لما ثبت من سنة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لكن لا يخص بذلك أسبوعا دون أسبوع ، ولا شهرا دون شهر ، بل يفعل من ذلك ما قدر عليه في دهره كله .
وأما تخصيص يوم من العام بصيامه ، احتفالا بمولده صلى الله عليه وسلم : فهو بدعة مخالفة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما صام يوم الاثنين ، وهذا اليوم المعين في السنة يكون في الاثنين ، كما يكون في غيره من أيام الأسبوع .
ثانيا :
ما شاع بين الناس اليوم مما يسمونه بعيد الميلاد ، وانتشار احتفالهم به : فهو بدعة غير مشروعة ، وليس للمسلمين أعياد يحتفلون بها سوى عيدي الفطر والأضحى .
ثم أين مولد النبي صلى الله عليه وسلم ، الذي هو نعمة حقيقية ، ورحمة عامة للبشر كلهم ، كما قال الله تعالى : ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) الأنبياء/107 ، وفاتحة خير للبشر ؛ أين ذلك كله من مولد غيره من آحاد الناس ، أو وفاته .
ثم أين كان أصحابه ، ومن بعدهم من الصالحين والسابقين ، من ذلك العمل ؟
فلا يعرف عن أحد من السلف ، أو أهل العلم السابقين من قال بمشروعية صيام يوم من الأسبوع ، أو من الشهر ، أو من العام ، أو جعل ذلك اليوم عيدا ، لأجل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم يوم مولده من كل أسبوع ، الذي هو يوم الاثنين ، و لو كان ذلك مشروعا لسبقنا إلى فعله أهل العلم والفضل السباقون إلى كل خير ؛ فلما لم يفعلوا ذلك : عُلم أن هذا شيء محدث لا يجوز العمل به .
فتوى :
– ماحكم صوم يوم شكراً لله ؟ وهل هو واجب أم مستحب ؟ .
قال شيخ الإسلام بن تيمية – رحمه الله – :
مذهب أهل السنة : أن الشكر يكون بالاعتقاد والقول والعمل .
” مجموع الفتاوى ” ( 11 / 135 ) .
وفي هذا النقل بيان لصريح لمذهب أهل السنَّة في ” الشكر ” وأن شكر الله تعالى ليس فقط في القلب واللسان بل والعمل أيضاً ، بل هو أعلى أنواع الشكر .
قال الله تعالى : ( اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ) سبأ/13
قال ابن كثير رحمه الله :
” أي : وقلنا لهم اعملوا شكرًا على ما أنعم به عليكم في الدنيا والدين .
وشكرًا : مصدر من غير الفعل ، أو أنه مفعول له ؛ وعلى التقديرين : فيه دلالة على أن الشكر يكون بالفعل كما يكون بالقول وبالنية ، كما قال:
أفَادَتْكُمُ النّعْمَاء منِّي ثَلاثةً … يدِي، ولَسَاني، وَالضَّمير المُحَجَّبَا
قال أبو عبد الرحمن الحُبلي : الصلاة شكر، والصيام شكر، وكل خير تعمله لله شكر. وأفضل الشكر الحمد. رواه ابن جرير.
وروى هو وابن أبي حاتم، عن محمد بن كعب القُرَظي قال: الشكر تقوى الله والعمل الصالح.” انتهى من “تفسير ابن كثير” (6/500) ، وينظر : “تفسير السعدي” (676) .
وقد تأملنا في أحكام الشرع فوجدنا عبادات كثيرة وقرباً متعددة قد شرعها الله تعالى لعباده شكراً له على نعمه العظيمة وآلائه الجليلة ، ومن ذلك :
- سجود الشكر :
قال ابن القيِّم – رحمه الله – :
وكان مِن هديه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهدي أصحابه سجودُ الشكر عند تجدُّد نِعمة تسُرُّ أو اندفاع نِقمة ، كما في ” المسند ” عن أبي بكرة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا أتاه أمرٌ يَسُرُّه خرَّ لله سَاجِداً شُكْراً لله تَعَالى .
وذكر ابنُ ماجه عن أنس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُشِّرَ بحَاجَةٍ فخَرَّ للّه سَاجِداً .
” زاد المعاد في هدي خير العباد ” ( 1 / 360 ) .
- صلاة قيام الليل :
عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ فَقَالَتْ عَائِشَةُ : لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ ( أَفَلَا أَكُونَ عَبْدًا شَكُوراً ) .
رواه البخاري ( 4557 ) ومسلم ( 2820 ) .
قال المباركفوري – رحمه الله – :
قال ابن حجر المكي : قد ظن من سأل عن سبب تحمله المشقة في العبادة أن سببها إما خوف الذنب أو رجاء المغفرة ، فأفادهم أن لها سبباً آخر أتم وأكمل وهو : الشكر على التأهل لها مع المغفرة وإجزال النعمة انتهى .
( أفلا أكون عبداً شكوراً ) أي : بنعمة الله عليَّ بغفران ذنوبي وسائر ما أنعم الله عليَّ .
” تحفة الأحوذي ” ( 2 / 382 ) .
- صوم عاشوراء :
قال ابن القيِّم – رحمه الله – :
فلما قَدِمَ النبى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة وجدهم يُعظِّمون ذلك اليوم ويصومونه ، فسألهم عنه ، فقالوا : هو اليومُ الذى نجَّى الله فيه موسى وقومَه من فرعون ، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( نحن أحقُّ منكم بموسى ) ، فصامه وأمر بصيامه تقريراً لتعظيمه وتأكيداً ، وأخبر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّه وأُمَّتَه أحقُّ بموسى من اليهود ، فإذا صامه موسى شُكراً للَّه : كنَّا أحقَّ أن نقتدى به من اليهود ، لا سيما إذا قلنا : شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يُخَالِفْهُ شَرْعُنَا.
” زاد المعاد في هدي خير العباد ” ( 2 / 70 ، 71 ) .
- صدقة الفِطر :
سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله – :
ما المقصود بزكاة الفطر ؟ وهل لها سبب ؟ .
فأجاب :
المقصود بزكاة الفطر : صاع من طعام يخرجه الإنسان عند انتهاء رمضان ، وسببها : إظهار شكر نعمة الله تعالى على العبد للفطر من رمضان وإكماله ، ولهذا سُميت ” صدقة الفطر ” ، أو ” زكاة الفطر ” ؛ لأنها تنسب إليه ، هذا سببها الشرعي .
” مجموع فتاوى الشيخ العثيمين ” ( 18 / 257 ) .
- ذبح الحاج هدي التمتع :
وقد سمِّي هذا الدم ” دم شكران ” .
سئل الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله – :
أنا شخص مقيم في المملكة وأريد أن أحج مفرداً ، الهدي الذي يكون للقارن والمتمتع هل هو فضيلة أم يكون جبراً لخلل ؟ وهل عليَّ هدي ؟ .
فأجاب :
هو فضيلة ، وهو من باب الشكر لله ؛ لأن المتمتع والقارن حصل لهما نسكان في سفر واحد فكان من شكر نعمة الله عليهما أن يذبحا هدياً ، والمفرد ليس عليه هدي ، لكن التمتع مع الهدي أفضل .
” مجموع فتاوى الشيخ العثيمين ” ( 24 / 172 ) .
- العقيقة :
قال ابن القيِّم – رحمه الله – :
فالذبيحة عن الولد فيها معنى القُربان والشكران والفداء والصدقة وإطعام الطعام عند حوادث السرور العظام شكراً لله وإظهار لنعمته التي هي غاية المقصود من النكاح .
” تحفة المودود بأحكام المولود ” ( ص 70 ) .
وبعد :
فهذا بعض ما تيسر لنا الوقوف عليه من عبادات وقرَب شُرعت ابتداء شكراً لله تعالى ، ومنه نستفيد أنه يجوز أن يشكر العبد ربَّه تعالى بعبادة من مثل ما سبق أو غيرها ، وقد رأينا ذلك في فعل الصحابة رضي الله عنهم ، وأقرَّهم النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن ذلك :
أ. تصدق كعب بن مالك وأبي لبابة بماليهما شكراً لربِّهما تعالى على قبوله توبتهما .
عن كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ( أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ) قُلْتُ : فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ .
رواه البخاري ( 2606 ) ومسلم ( 2769 ) .
وقال أبو لبابة بن عبد المنذر للنبي صلى الله عليه وسلم : إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَهْجُرَ دَارَ قَوْمِي الَّتِي أَصَبْتُ فِيهَا الذَّنْبَ وَأَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي كُلِّهِ صَدَقَةً قَالَ ( يُجْزِئُ عَنْكَ الثُّلُثُ ) .
رواه أبو داود ( 3319 ) وصححه الألباني في ” صحيح أبي داود ” .
قال ابن القيم – رحمه الله – :
وقول كعب : ” يا رسول الله إن من توبتى أن أنخلع من مالى ” : دليل على استحباب الصدقة عند التوبة بما قدر عليه من المال .
” زاد المعاد في هدي خير العباد ” ( 3 / 585 ، 586 ) .
وقال – رحمه الله – :
فإن الحديثَ ليس فيه دليل على أن كعباً وأبا لبابة نذرا نذراً منجَّزاً ، وإنما قالا : إن مِن توبتنا أن ننخلِعَ مِن أموالنا ، وهذا ليس بصريح فى النذر ، وإنما فيه العزمُ على الصدقة بأموالهما شكراً لله على قبول توبتهما ، فأخبر النبىُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن بعضَ المال يُجزئ من ذلك ، ولا يحتاجان إلى إخراجه كله ، وهذا كما قال لسعد وقد استأذنه أن يُوصِىَ بماله كلِّه فأذن له فى قدر الثُلُث .
” زاد المعاد ” ( 3 / 588 ) .
ب. عتق أبي هريرة لعبدٍ له شكراً لربه أن وصل للنبي صلى الله عليه وسلم :
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : لَمَّا قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ فِي الطَّرِيقِ :
يَا لَيْلَةً مِنْ طُولِهَا وَعَنَائِهَا *** عَلَى أَنَّهَا مِنْ دَارَةِ الْكُفْرِ نَجَّتِ
قَالَ : وَأَبَقَ مِنِّي غُلَامٌ لِي فِي الطَّرِيقِ قَالَ فَلَمَّا قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَايَعْتُهُ فَبَيْنَا أَنَا عِنْدَهُ إِذْ طَلَعَ الْغُلَامُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( يَا أَبَا هُرَيْرَةَ هَذَا غُلَامُكَ ) فَقُلْتُ : هُوَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ ، فَأَعْتَقْتُهُ .
رواه البخاري ( 2394 ) .
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله – :
وفي الحديث استحباب العتق عند بلوغ الغرض والنجاة من المخاوف .
” فتح الباري ” ( 5 / 163 ) .
وعليه :
فلا حرج من التصدق أو العمرة أو الصوم أو الصلاة شكراً لله تعالى على من أنعم به على عبده من نعمة ، ودفع عنه من نقمة ، والأفضل أن يباشر العبد بسجدة شكر عند تلقيه خبر النعمة ، ثم يأتي بعد ذلك بما شاء من العبادات والقرَب المشروعة ، وليس كل ذلك على سبيل الوجوب ، بل هو مستحب ، وهذه طائفة من أقوال العلماء في ذلك :
أ. قال ابن رجب الحنبلي – في بيان درجات الشكر – :
الدرجة الثانية من الشكر : الشكر المستحبُّ ، وهو أنْ يعملَ العبدُ بعد أداءِ الفرائض ، واجتنابِ المحارم بنوافل الطَّاعات ، وهذه درجةُ السَّابقين المقرَّبين ، وهي التي أرشد إليها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث التي سبق ذكرُها ، وكذلك كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يجتهد في الصَّلاة ، ويقوم حتَّى تتفطَّر قدماه ، فإذا قيل له : أتفعلُ هذا وقد غَفَرَ الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخر ؟ فيقول : ( أفلا أكونُ عبداً شكوراً ) .
” جامع العلوم والحكم ” ( 1 / 246 ) .
ب. وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله – في شرح حديث ( أفلا أكونُ عبداً شكوراً ) – :
وفي هذا دليل على أن الشكر هو القيام بطاعة الله ، وأن الإنسان كلما ازداد في طاعة ربه عز وجل فقد ازداد شكراً لله عز وجل ، وليس الشكر بأن يقول الإنسان بلسانه ” أشكر الله ” ، ” أحمد الله ” ، فهذا شكر باللسان ، لكن الكلام هنا على الشكر الفعلي الذي يكون بالفعل بأن يقوم الإنسان بطاعة الله بقدر ما يستطيع .
” شرح رياض الصالحين ” ( 2 / 71 ) .
ج. وفي ” الموسوعة الفقهية ” ( 26 / 181 ) :
ويكون الشكر على ذلك أيضا بفعل قربة من القرب ، … .
ومن ذلك : أن يذبح ذبيحة أو يصنع دعوة .
انتهى مختصراً
[تنبيه ٢]: سبق شرح الحديث في رياح المسك العطرة بمشاركات الأصحاب المباركة على صحيح البخاري، (44 ، 45)، 33- باب زيادة الإيمان ونقصانه، وقول الله تعالى {وزدناهم هدى} {ويزداد الذين آمنوا إيمانا} وقال {اليوم أكملت لكم دينكم} فإذا ترك شيئا من الكمال فهو ناقص.