( ب) عبق الياسمين شرح رياض الصالحين
سلطان الحمادي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وذرياتهم وذرياتنا)
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
19 – باب في مَنْ سَنَّ سُنَّةً حسنة أَوْ سيئة
عَنْ أَبَي عَمروٍ جَرير بنِ عبدِ اللَّه، رضي اللَّه عنه، قال: كُنَّا في صَدْر النَّهارِ عِنْد رسولِ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم فَجاءهُ قوْمٌ عُرَاةٌ مُجْتابي النِّمار أَو الْعَباءِ. مُتَقلِّدي السُّيوفِ عامَّتُهمْ من مضر، بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضرَ، فَتمعَّر وجهُ رسولِ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، لِما رَأَى بِهِمْ مِنْ الْفَاقة، فدخلَ ثُمَّ خَرَجَ، فَأَمر بِلالاً فَأَذَّن وأَقَامَ، فَصلَّى ثُمَّ خَطبَ، فَقالَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} إِلَى آخِرِ الآية: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}،وَالآيةُ الأُخْرَى الَّتِي في آخر الْحشْرِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} تَصدَّق رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ مِنْ دِرْهَمهِ مِنْ ثَوْبِهِ مِنْ صَاع بُرِّه مِنْ صَاعِ تَمرِه حَتَّى قَالَ: وَلوْ بِشقِّ تَمْرةٍ” فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كادتْ كَفُّهُ تَعجزُ عَنْهَا، بَلْ قَدْ عَجزتْ، ثُمَّ تَتابَعَ النَّاسُ حَتَّى رَأَيْتُ كَوْميْنِ مِنْ طَعامٍ وَثيابٍ، حتَّى رَأَيْتُ وجْهَ رسولِ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، يَتهلَّلُ كَأَنَّهُ مذْهَبَةٌ، فَقَالَ رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم: “مَنْ سَنَّ في الإِسْلام سُنةً حَسنةً فَلَهُ أَجْرُهَا، وأَجْرُ منْ عَملَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ ينْقُصَ مِنْ أُجُورهِمْ شَيءٌ، ومَنْ سَنَّ في الإِسْلامِ سُنَّةً سيَّئةً كَانَ عَليه وِزْرها وَوِزرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بعْده مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزارهمْ شَيْءٌ” رواه مسلم.
——-
قولُهُ:”مُجْتَابي النَّمارِ”هُو بالجِيمِ وبعد الأَلِفِ باءٌ مُوَحَّدَةٌ. والنِّمَارُ: جمْعُ نَمِرَة، وَهِيَ: كِسَاءٌ مِنْ صُوفٍ مُخَطَّط. وَمَعْنَى”مُجْتابيها”أَي: لابِسِيهَا قدْ خَرَقُوهَا في رؤوسهم.”والْجَوْبُ”: الْقَطْعُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} أَيْ: نَحَتُوهُ وَقَطَعُوهُ. وَقَوْلهُ”تَمَعَّرَ”هُوَ بالعين المهملة، أَيْ: تَغَيرَ. وَقَوْلهُ:”رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ”بفتح الكافِ وضمِّها، أَيْ: صَبْرتَيْنِ. وَقَوْلُهُ:”كَأَنَّه مَذْهَبَةٌ”هُوَ بالذال المعجمةِ، وفتح الهاءِ والباءِ الموحَّدةِ، قَالَهُ الْقَاضي عِيَاضٌ وغَيْرُهُ. وصَحَّفَه بَعْضُهُمْ فَقَالَ:”مُدْهُنَةٌ”بِدَال مهملةٍ وَضَمِّ الهاءِ وبالنونِ، وَكَذَا ضَبَطَهُ الْحُمَيْدِيُّ، والصَّحيحُ الْمَشْهُورُ هُوَ الأَوَّلُ. وَالْمُرَادُ بِهِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ: الصَّفَاءُ وَالاسْتِنَارُة.
(ُكنَّا في صَدْر النَّهارِ عِنْد رسولِ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم) أي: في أوله، فيه ملازمة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم، وفيه الحث على ملازمة أهل العلم.
(فَجاءهُ قوْمٌ عُرَاةٌ) وفي رواية حفاة عراة، حفاة: إذا مشى بغير نعل، ولا خف، و عراة: والمراد أنهم لم يلبسوا الثياب المعتاد لبسها، وإنما أولناه بهذا؛ لأن في رواية عبد الرحمن بن هلال الآتية: أن عليهم الصوف، فهم لابسو الصوف، ولقوله أيضا: مجتابي النمار. (انظر: البحر المحيط الثجاج)
قولُهُ:” مُجْتابي النِّمار أَو الْعَباءِ ” قال النووي في شرح مسلم:” النمار بكسر النون جمع نمرة بفتحها، وهي ثياب صوف فيها تنمير، ومر معنا قول النووي في الرياض:” وَهِيَ: كِسَاءٌ مِنْ صُوفٍ مُخَطَّط “،. وقال أيضا (العباء) بالمد وبفتح العين جمع عباءة وعباية لغتان.
وقوله (مجتابي): قال النووي في شرح مسلم:” مجتابي النمار أي خرقوها وقوروا وسطها.” وقال في الرياض:” وَمَعْنَى”مُجْتابيها”أَي: لابِسِيهَا قدْ خَرَقُوهَا في رؤوسهم.”والْجَوْبُ”: الْقَطْعُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} أَيْ: نَحَتُوهُ وَقَطَعُوهُ.”
قال الطيبي:” مجتابي النمار هو بالجيم، وبعد الألف باء موحدة، و”النمار”: جمع نمرة، وهي كساء من صوف مخطط. (شرح المشكاة)
(متقلدي السيوف) معلقي السيوف على أعناقهم. (البحر المحيط الثجاج)
(عامتهم من مضر) أي: غالبهم من قبيلة مضر -وهو بضم الميم، وفتح الضاد المعجمة، آخره راء- ابن نزار، وهو الشعب المعروف الذي تنسب إليه قريش وغيرها، وهو وربيعة بن نزار صريح ولد إسماعيل بن إبراهيم -عليهما الصلاة والسلام- لا خلاف في ذلك. (اللباب في تهذيب الأسماء) وهم من أشرف العرب.
قوله: (فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم) هو بالعين المهملة أي تغير. قال ابن الأثير -رحمه الله- في النهاية: أصل التمعر قلة النضارة، وعدم إشراق اللون، من قولهم: مكان أمعر، وهو الجدب الذي لا خصب فيه.
قال فيصل آل مبارك:” سبب تَمَعُّرِ وَجْه رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، شدَّة احتياج هؤلاء مع عدم مواساة الأغنياء لهم، مما يدفع ضررهم، ولهذا استنار وجهه حين حصل ما يسدّ فاقتهم.” (التطريز)
فيه بيان كمال رحمة النبي -صلى الله عليه وسلم- لأمته، وشدة رأفته بهم، كما وصفه الله تعالى بذلك في كتابه بقوله: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ماعنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم}
قوله: (فدخلَ ثُمَّ خَرَجَ، فَأَمر بِلالاً فَأَذَّن وأَقَامَ، فَصلَّى ثُمَّ خَطبَ)
كانت هذه صلاة الظهر. ووجه الدلالة لأن الإقامة لا تشرع إلا الفرائض وهم كانوا عنده أول النهار.
فيه: استحباب جمع الناس للأمور المهمة ووعظهم وحثهم على مصالحهم وتحذيرهم من القبائح. (شرح مسلم للنووي)
قوله: (فَقالَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} إِلَى آخِرِ الآية: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}،وَالآيةُ الأُخْرَى الَّتِي في آخر الْحشْرِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ})
قال النووي:” (فقال: يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة) سبب قراءة هذه الآية أنها أبلغ في الحث على الصدقة عليهم، ولما فيها من تأكد الحق لكونهم إخوة ” (شرح مسلم)
هاتان الآيتان من أنسب الكلام في هذا الموطن:
الآية الأولى: فيه الأمر بتقوى الله وصلة الرحم التي تربط هؤلاء بمن عنده؛ لأن الناس خلقوا من ذكر وأنثى فهؤلاء من جنسك وبينهم رحم.
الآية الثانية: حث على الصدقة و أن الإنسان عليه أن ينظر أمامه ويقدم لغد.
فيه اختيار الموضوع المناسب في الوقت المناسب. وفيه مشروعية تحريض الإمام الناس على الصدقة إذا دعت الحاجة لذلك.
وفيه استحباب جمع الناس للأمور المهمة، ووعظهم، وحثهم على مصالحهم، وتحذيرهم من القبائح.
قوله: (تصدق رجل بديناره، وتصدق بدرهمه، تصدق بثوبه، تصدق بصاع بره، تصدق بصاع تمره، حتى ذكر ولو شق تمرة) تصدق رجل: خبر بمعنى الأمر.
قال ابن عثيمين:”وكان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أحرص الناس على الخير، وأسرعهم إليه، وأشدهم مسابقة، فخرجوا إلى بيوتهم فجاءوا بالصدقات، حتى جاء رجل بصرة معه في يده كادت تعجز يده عن حملها، بل قد عجزت من فضة ثم وضعها بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم رأى جرير كومين من الطعام والثياب وغيرها قد جمع في المسجد” (شرح الرياض للعثيمين)
قال ابن باز:” فالمؤمن يصدق ويحسن ولو بالقليل لا يحقر ولو بشق تمرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، لا يحقر عمله بالدرهم وبالدرهمين بالثوب الملبوس بالثوب الجديد بغير هذا مما يستطيع، فالشيء القليل مع القليل يكثر وينفع الفقير، ثم في ذلك تأسي إذا قام هذا و قام هذا وقام هذا تأس الناس وتنشطوا وتشجعوا على المساعدة والمساهمة.” (شرح رياض الصالحين لابن باز)
قوله: (رأيت كومين من طعام وثياب) قال النووي:” هو بفتح الكاف وضمها، قال القاضي: ضبطه بعضهم بالفتح وبعضهم بالضم. قال ابن سراج: هو بالضم اسم لما كومه، وبالفتح المرة الواحدة. قال: والكومة – بالضم – الصبرة، والكوم العظيم من كل شيء، والكوم المكان المرتفع كالرابية. قال القاضي فالفتح هنا أولى، لأن مقصوده الكثرة والتشبيه بالرابية. (شرح مسلم) وفي متن رياض الصالحين قال: وَقَوْلهُ:”رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ”بفتح الكافِ وضمِّها، أَيْ: صَبْرتَيْنِ.
قوله: (حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة)، فقوله: ” يتهلل ” أي يستنير فرحا وسرورا. وقوله: (مذهبة) ضبطوه بوجهين:
أحدهما -، وهو المشهور وبه جزم القاضي والجمهور -: (مذهبة) بذال معجمة وفتح الهاء وبعدها باء موحدة.
والثاني – ولم يذكر الحميدي في الجمع بين الصحيحين غيره -: (مدهنة) بدال مهملة وضم الهاء وبعدها نون، وشرحه الحميدي في كتابه ” غريب الجمع بين الصحيحين ” فقال – هو وغيره ممن فسر هذه الرواية إن صحت -: المدهن: الإناء الذي يدهن فيه، وهو أيضا اسم للنقرة في الجبل التي يستجمع فيها ماء المطر؛ فشبه صفاء وجهه الكريم بصفاء هذا الماء، وبصفاء الدهن والمدهن. وقال القاضي عياض في المشارق وغيره من الأئمة: هذا تصحيف، وهو بالذال المعجمة والباء الموحدة، وهو المعروف في الروايات، وعلى هذا ذكر القاضي وجهين في تفسيره أحدهما: معناه: فضة مذهبة، فهو أبلغ في حسن الوجه وإشراقه، والثاني: شبهه في حسنه ونوره بالمذهبة من الجلود، وجمعها مذاهب، وهي شيء كانت العرب تصنعه من جلود، وتجعل فيها خطوطا مذهبة يرى بعضها إثر بعض، (شرح مسلم)
وفي الحديث سرعة استجابة الصحابة – رضي الله عنهم – لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ومسابقتهم في الخير ومواساة أخوانهم. وفيه الحث على الابتداء بالخيرات، وسن السنن الحسنات.
قال النووي:” وأما سبب سروره صلى الله عليه وسلم ففرحا بمبادرة المسلمين إلى طاعة الله تعالى، وبذل أموالهم لله وامتثال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولدفع حاجة هؤلاء المحتاجين وشفقة المسلمين بعضهم على بعض، وتعاونهم على البر والتقوى، وينبغي للإنسان إذا رأى شيئا من هذا القبيل أن يفرح ويظهر سروره، ويكون فرحه لما ذكرناه (شرح مسلم)
قوله صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها) في راوية الترمذي: (من سن سنة خير)
قال الشاطبي:” فتأملوا أين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” «من سن سنة حسنة» “، و ” «من سن سنة سيئة» “، تجدوا ذلك فيمن عمل بمقتضى المذكور على أبلغ ما يقدر عليه، حتى بتلك الصرة، فانفتح بسببه باب الصدقة على الوجه الأبلغ، فسُرَّ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال: «من سن في الإسلام سنة حسنة». . . الحديث، فدل على أن السنة هاهنا مثل ما فعل ذلك الصحابي، وهو العمل بما ثبت كونه سنة …. ووجه ذلك في الحديث الأول ظاهر ; لأنه صلى الله عليه وسلم لما مضى على الصدقة أولا ثم جاء ذلك الأنصاري بما جاء به فانثال بعده العطاء إلى الكفاية، فكأنها كانت سنة أيقظها رضي الله تعالى عنه بفعله، فليس معناه: من اخترع سنة وابتدعها ولم تكن ثابتة ….. فإذا; قوله: «من سن سنة» ; معناه: من عمل بسنة، لا من اخترع سنة.
وقال أيضا:”وأما قوله: «من ابتدع بدعة ضلالة»، فهو على ظاهره; لأن سبب الحديث لم يقيده بشيء، فلا بد من حمله على ظاهر اللفظ; كالعمومات المبتدأة التي لم تثبت لها أسباب.” (الإعتصام للشاطبي)
قال ابن باز:” ومعنى ” سن في الإسلام ” يعني: أحيا سنة وأظهرها وأبرزها مما قد يخفى على الناس، فيدعو إليها ويظهرها ويبينها، فيكون له من الأجر مثل أجور أتباعه فيها وليس معناها الابتداع في الدين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن البدع وقال: «كل بدعة ضلالة» وكلامه صلى الله عليه وسلم يصدق بعضه بعضا، ولا يناقض بعضه بعضا بإجماع أهل العلم، فعلم بذلك أن المقصود من الحديث إحياء السنة وإظهارها” (فتاوى ابن باز)
قال ابن عثيمين:” وسئل فضيلة الشيخ: كيف نرد على أهل البدع الذين يستدلون على بدعهم بحديث: «من سن في الإسلام سنة حسنة» …. ” إلخ؟
فأجاب بقوله: نرد على هؤلاء فنقول: إن الذي قال: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها». هو الذي قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار». وعلى هذا يكون قوله: «من سن في الإسلام سنة حسنة». منزلًا على سبب هذا الحديث، وهو أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حث على الصدقة للقوم الذين جاءوا من مضر في حاجة وفاقة فجاء رجل بصرة من فضة فوضعها بين يدي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة». وإذا عرفنا سبب الحديث وتنزل المعنى عليه؛ تبين أن المراد بسن السنة سن العمل بها، وليس سن التشريع لأن التشريع لا يكون إلا لله ورسوله، وأن معنى الحديث من سن سنة أي ابتدأ العمل بها واقتدى الناس به فيها، كان له أجرها وأجر من عمل بها، هذا هو معنى الحديث المتعين، أو يحمل على أن المراد «من سن سنة حسنة» من فعل وسيلة يتوصل بها إلى العبادة واقتدى الناس به فيها، كتأليف الكتاب، وتبويب العلم، وبناء المدارس، وما أشبه هذا مما يكون وسيلة لأمر مطلوب شرعًا. فإذا ابتدأ الإنسان هذه الوسيلة المؤدية للمطلوب الشرعي وهي لم ينه عنها بعينها، كان داخلًا في هذا الحديث.
ولو كان معنى الحديث أن الإنسان له أن يشرع ما شاء، لكان الدين الإسلامي لم يكمل في حياة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولكان لكل أمة شرعة ومنهاج، وإذا ظن هذا الذي فعل هذه البدعة أنها حسنة فظنه خاطئ؛ لأن هذا الظن يكذبه قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «كل بدعة ضلالة».” (مجموع فتاوى ورسائل للعثيمين)
قال المباركفوري:” (من سن سنة .. ) أتى بطريقة مرضية يشهد لها أصل من أصول الدين” (تحفة الأحوذي)
قال ابن عثيمين:” المراد بمن سنها أي صار أول من عمل بها؛ كهذا الرجل الذي جاء بالصرة رضي الله عنه، فدل هذا على أن الإنسان إذا وفق لسن سنة في الإسلام سواء إليها أو أحياها بعد أن أميتت. (شرح الرياض)
وقال أيضا:” السنة في الإسلام ثلاثة أقسام:
سنة سيئة: وهي البدعة، فهي سيئة وإن استحسنها من سنها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل بدعة ضلالة).
وسنة حسنة: وهي على نوعين:
النوع الأول: أن تكون السنة مشروعة ثم يترك العمل بها ثم يجددها من يجددها، مثل قيام رمضان بإمام، …. والنوع الثاني: من السنن الحسنة أن يكون الإنسان أول من يبادر إليها، مثل حال الرجل الذي بادر بالصدقة حتى تتابع الناس ووافقوه على ما فعل. (شرح الرياض)
قال الأتيوبي في ذكر فوائد الحديث:” منها أن بعض الأفعال لا ينقطع ثوابها، وكذا لا ينتهي وزرها، وهي التي تكون سببا للاقتداء بفاعلها، فيجب على العاقل أن يكون مفتاحا للخير، لا مفتاحا للشر.” (البحر المحيط الثجاج)
قال ابن عثيمين:” في هذا الحديث الترغيب في فعل السنن التي أميتت وتركت وهجرت، فإنه يكتب لمن أحياها أجرها وأجر من عمل بها، وفيه التحذير من السنن السيئة، وأن من سن سنة سيئة؛ فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، حتى لو كانت في أول الأمر سهلة ثم توسعت، فإن عليه وزر هذا التوسع” (شرح الرياض)
فيه الحث على أن يكون المسلم قدوة صالحة في إحياء السنن المهجورة ونحوها و يكون من أول المبادرين للخير.