بيان الوسيلة من كتب التفسير في قوله تعالى:
(الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ -صلى الله عليه وسلم- الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ)
[سورة آل عمران 16 – 17]
قال الطبري:
ومعنى قوله:”الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا”: الذين يقولون: إننا صدّقنا بك وبنبيك وما جاء به من عندك =”فاغفر لنا ذنوبنا”، يقول: فاستر علينا ذنوبنا، بعفوك عنها، وتركك عقوبتنا عليها =”وقنا عذاب النار”، ادفع عنا عذابك إيانا بالنار أن تعذبنا بها. وإنما معنى ذلك: لا تعذبنا يا ربنا بالنار.
وإنما خصّوا المسألةَ بأن يقيهم عذاب النار، لأن من زُحزح يومئذ عن النار فقد فاز بالنجاة من عذاب الله وحسن مآبه.
القول في تأويل قوله: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله:”الصابرين”، الذين صبروا في البأساء والضراء وحين البأس.
ويعني بـ”الصادقين”، الذين صدقوا الله في قولهم بتحقيقهم الإقرارَ به وبرسوله وما جاء به من عنده، بالعمل بما أمره به والانتهاء عما نهاه عنه.
ويعني بـ”القانتين”، المطيعين له
قال ابن تيمية:
(2) – {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ}
كانوا يحيون الليل صلاة، ثم يقعدون في السحر يستغفرون؛ فيختمون قيام الليل بالاستغفار. [تفسير ابن تيمية: (2) / (39)]
قال ابن كثير:
يَصِفُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ وَعَدَهُمُ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ، فَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا} أَيْ: بِكَ وَبِكِتَابِكَ وَبِرَسُولِكَ {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} أَيْ بِإِيمَانِنَا بِكَ وَبِمَا شَرَعْتَهُ لَنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَتَقْصِيرَنَا مِنْ ((1)) أَمْرِنَا بِفَضْلِكَ وَرَحْمَتِكَ {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}
ثُمَّ قَالَ: {الصَّابِرِين} أَيْ: فِي قِيَامِهِمْ بِالطَّاعَاتِ وَتَرْكِهِمُ الْمُحَرَّمَاتِ {وَالصَّادِقِينَ} فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ مِنْ إِيمَانِهِمْ بِمَا يَلْتَزِمُونَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ {وَالقَانِتِينَ} وَالْقُنُوتُ: الطَّاعَةُ وَالْخُضُوعُ ((2)) {والْمُنفِقِينَ} أَيْ: مِنْ أَمْوَالِهِمْ فِي جَمِيعِ مَا أُمِرُوا بِهِ مِنَ الطَّاعَاتِ، وصلة الأرحام والقرابات، وَسَدِّ الخَلات، وَمُوَاسَاةِ ذَوِي الْحَاجَاتِ {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ} دَلَّ عَلَى فَضِيلَةِ الِاسْتِغْفَارِ وَقْتَ الْأَسْحَارِ ….. ثم ذكر نماذج من حرص الصحابة على الاستغفار في الأسحار
قال البقاعي:
{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران (16)]
ولَمّا أخْبَرَ سُبْحانَهُ وتَعالى بِأنَّهُ بَصِيرٌ بِمَن يَسْتَحِقُّ ما أعَدَّ مِنَ الفَوْزِ أتْبَعَهُ ما اسْتَحَقُّوا ذَلِكَ بِهِ مِنَ الأوْصافِ تَفَضُّلًا مِنهُ عَلَيْهِمْ بِها وبِإيجابِ ذَلِكَ عَلى نَفْسِهِ حَثًّا لَهم عَلى التَّخَلُّقِ بِتِلْكَ الأوْصافِ فَقالَ: – وقالَ الحَرالِّيُّ: لَمّا وصَفَ تَعالى قُلُوبَهم بِالتَّقْوى وبَرَّأهم مِنَ الاسْتِغْناءِ بِشَيْءٍ مِن دُونِهِ وصَفَ أدَبَهم في المَقالِ فَقالَ؛ انْتَهى – {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا} أيْ يا مَن رَبّانا بِإحْسانِهِ وعادَ عَلَيْنا بِفَضْلِهِ، وأسْقَطَ أداةَ النِّداءِ إشْعارًا بِما لَهم مِنَ القُرْبِ لِأنَّهم في حَضْرَةِ المُراقَبَةِ؛ ولَمّا كانَتْ أحْوالُهم في تَقْصِيرِها عَنْ أنْ يُقَدَّرَ اللَّهُ حَقَّ قَدْرِهِ كَأنَّها أحْوالُ مَن لَمْ يُؤْمِنِ اقْتَضى المَقامُ التَّاكِيدَ فَقالُوا: {إنَّنا} فَأثْبَتُوا النُّونَ إبْلاغًا فِيهِ {آمَنّا} أيْ بِما دَعَوْتَنا إلَيْهِ، وأظْهَرُوا هَذا المَعْنى بِقَوْلِهِمْ: {فاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا} أيْ فَإنَّنا عاجِزُونَ عَنْ دَفْعِها ورَفْعِ الهِمَمِ عَنْ مُواقَعَتِها وإنِ اجْتَهَدْنا لِما جُبِلْنا عَلَيْهِ مِنَ الضَّعْفِ والنَّقْصِ، تَنْبِيهًا مِنهُ تَعالى عَلى أنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لا يَقْدَحُ في التَّقْوى إذا هُدِمَ بِالتَّوْبَةِ لِأنَّهُ ما أصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ، والتَّوْبَةُ تَجُبُّ ما قَبْلَها.
قال البيضاوي:
{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إنَّنا آمَنّا فاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وقِنا عَذابَ النّارِ} صِفَةٌ لِلْمُتَّقِينَ، أوْ لِلْعِبادِ، أوْ مَدْحٌ مَنصُوبٌ أوْ مَرْفُوعٌ. وفي تَرْتِيبِ السُّؤالِ عَلى مُجَرَّدِ الإيمانِ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ كافٍ في اسْتِحْقاقِ المَغْفِرَةِ أوِ الِاسْتِعْدادِ لَها.
ومثل ذلك نقله ابوالسعود و الآلوسي:
قال القاسمي:
{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إنَّنا آمَنّا فاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وقِنا عَذابَ النّارِ} قالَ الحاكِمُ: في الآيَةِ دِلالَةٌ عَلى أنَّهُ يَجُوزُ لِلدّاعِي أنْ يَذْكُرَ طاعاتِهِ وما تَقَرَّبَ بِهِ إلى اللَّهِ، ثُمَّ يَدْعُو. ويُؤَيِّدُهُ ما في الصَّحِيحَيْنِ مِن حَدِيثِ أصْحابِ الغارِ، وتَوَسُّلِ كُلٍّ مِنهم بِصالِحِ عَمَلِهِ، ثُمَّ تَفْرِيجِ البارِي تَعالى عَنْهم …..
{وبِالأسْحارِ هم يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: (18)]
وقالَ الرّازِيُّ: واعْلَمْ أنَّ المُرادَ مِنهُ مَن يُصَلِّي بِاللَّيْلِ ثُمَّ يُتْبِعُهُ بِالِاسْتِغْفارِ والدُّعاءِ، لِأنَّ الإنْسانَ لا يَشْتَغِلُ بِالدُّعاءِ والِاسْتِغْفارِ إلّا أنْ يَكُونَ قَدْ صَلّى قَبْلَ ذَلِكَ. فَقَوْلُهُ: {والمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحارِ} يَدُلُّ عَلى أنَّهم كانُوا قَدْ صَلَّوْا بِاللَّيْلِ – انْتَهى –
تفسير السعدي:
توسلوا بمنة الله عليهم بتوفيقهم للإيمان أن يغفر لهم ذنوبهم ويقيهم شر آثارها وهو عذاب النار، ثم فصل أوصاف التقوى
قال ابن عاشور:
وقَوْلُهُ: {الَّذِينَ يَقُولُونَ} عَطْفُ بَيانٍ {لِلَّذِينَ اتَّقَوْا} وصَفَهم بِالتَّقْوى وبِالتَّوَجُّهِ إلى اللَّهِ تَعالى بِطَلَبِ المَغْفِرَةِ. ومَعْنى القَوْلِ هُنا الكَلامُ المُطابِقُ لِلْواقِعِ في الخَبَرِ، والجارِي عَلى فَرْطِ الرَّغْبَةِ في الدُّعاءِ، في قَوْلِهِمْ: {فاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا} إلَخْ، وإنَّما يَجْرِي كَذَلِكَ إذا سَعى الدّاعِي في وسائِلِ الإجابَةِ وتَرَقَّبَها بِأسْبابِها الَّتِي تُرْشِدُ إلَيْها التَّقْوى، فَلا يُجازى هَذا الجَزاءَ مَن قالَ ذَلِكَ بِفَمِهِ ولَمْ يَعْمَلْ لَهُ.
وفي التفسير الميسر: هؤلاء العباد المتقون يقولون: إننا آمنا بك، واتبعنا رسولك محمدًا صلى الله عليه وسلم، فامْحُ عنا ما اقترفناه من ذنوب، ونجنا من عذاب النار
قال ابن عثيمين:
وقوله: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا} توسلوا إلى الله بربوبيته للإخبار بحالهم في لإيمان به، كأنهم يقولون: ربنا آمنا ولكننا لم نصل إلى الإيمان إلا بربوبيتك لنا، تلك الربوبية الخاصة المقتضية للعناية التامة، يقولون: {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا} قال: (الذين يقولون: آمنا) استقام الكلام بلاشك، لكن إذا قالوا: {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا}، فهذا كالإشعار بأنهم لم يصلوا إلى الإيمان إلا بمقتضى هذه الربوبية الخاصة المقتضية للعناية التامة.
{الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} [آل عمران (16)] الفاء هنا للسببية، أي: فبسبب إيماننا اغفر لنا؛ لأن الإيمان لا شك أنه وسيلة للمغفرة، وكلما قوي الإيمان قويت أسباب المغفرة، حتى إنه إذا أخلص الإنسان إيمانه صارت حسناته تُذهب سيئاته، طيب، ولهذا قال: {فَاغْفِرْ لَنَا} أي: بسبب الإيمان اغفر لنا، وهذا من باب التوسل بالطاعة لقبول الدعاء.
وقال: {فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}، {اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا}، (اغفر) فعل دعاء وليس فعل أمر