بيان الوسيلة في قوله تعالى:
4 – (فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَا ءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرا فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاق وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَة وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)
[سورة البقرة 200 – 201]
ذكر معنى الوسيلة الألوسي وابن عاشور:
قال الألوسي:
وقرن سبحانه الذكر بالدعاء؛ للإشارة إلى أن المعتبر من الذكر ما يكون عن قلب حاضر، وتوجه باطن؛ كما هو حال الداعي حين طلب حاجة، لا مجرد التفوه والنطق به، … وبدأ سبحانه وتعالى بالذكر لكونه مفتاحا للإجابة، ثم بين -جل شأنه- أنهم ينقسمون في سؤال الله تعالى إلى من يغلب عليه حب الدنيا؛ فلا يدعو إلا بها، ومن يدعو بصلاح حاله في الدنيا والآخرة. [تفسير الألوسي: (2) / (90)]
قال ابن عاشور: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ مُشِيرٌ إِلَى النَّاسِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) لِلتَّنْبِيهِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ عَلَى أَنَّ اتِّصَافَهُمْ بِمَا بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ شَيْءٌ اسْتَحَقُّوهُ بِسَبَبِ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِمَا قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ لَهُمْ لِأَجْلِ إِيمَانِهِمْ بِالْآخِرَةِ فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ دُعَاءَ الْكَافِرِينَ فِي ضَلَالٍ.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ تَذْيِيلٌ قُصِدَ بِهِ تَحْقِيقُ الْوَعْدِ بِحُصُولِ الْإِجَابَةِ، وَزِيَادَةُ تَبْشِيرٍ لِأَهْلِ ذَلِكَ الْمَوْقِفِ، لِأَنَّ إِجَابَةَ الدُّعَاءِ فِيهِ سَرِيعَةُ الْحُصُولِ، فَعُلِمَ أَنَّ الْحِسَابَ هُنَا أُطْلِقَ عَلَى مُرَاعَاةِ الْعَمَلِ وَالْجَزَاءِ عَلَيْهِ.
وَالْحِسَابُ فِي الْأَصْلِ الْعَدُّ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلَى عَدِّ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُرَادُ الْجَزَاءُ عَلَيْهَا أَوْ قَضَاؤُهَا، فَصَارَ الْحِسَابُ يُطْلَقُ عَلَى الْوَفَاءِ بِالْحَقِّ يُقَالُ حَاسَبَهُ أَيْ كَافَأَهُ أَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ حَقَّهُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَوْمَ الْحِسَابِ وَقَالَ تَعَالَى: إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي [الشُّعَرَاء: 113] وَقَالَ جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً [النبأ: 36] أَيْ وِفَاقًا لِأَعْمَالِهِمْ، وَهَاهُنَا أَيْضًا أُرِيدَ بِهِ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ وَإِيصَالُ الْمَوْعُودِ بِهِ، فَاسْتِفَادَةُ التَّبْشِيرِ بِسُرْعَةِ حُصُولِ مَطْلُوبِهِمْ بِطَرِيقِ الْعُمُومِ لِأَنَّ إِجَابَتَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ حِسَابِ اللَّهِ تَعَالَى عِبَادَهُ عَلَى مَا وَعَدَهُمْ فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْعُمُومُ.
التحرير والتنوير (2/ 249)
بيان القرطبي أن هذه الآية من جوامع الدعاء:
قال القرطبي:
هذه الآية من جوامع الدعاء التي عمت الدنيا والآخرة. قيل لأنس: ادع الله لنا، فقال: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. قالوا: زدنا. قال: ما تريدون! قد سألت الدنيا والآخرة!. وفي الصحيحين عن أنس قال: كان أكثر دعوة يدعو بها النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار). قال: فكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها.
شمولية الآية لخيري الدنيا والآخرة:
قال ابن كثير:
(وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)
فقال: (ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) فجمعت هذه الدعوة كل خير في الدنيا، وصرفت كل شر، فإن الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي، من عافية، ودار رحبة، وزوجة حسنة، ورزق واسع، وعلم نافع، وعمل صالح، ومركب هنيء، وثناء جميل، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عبارات المفسرين، ولا منافاة بينها، فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا. وأما الحسنة في الآخرة فأعلى ذلك دخول الجنة وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات، وتيسير الحساب وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة، وأما النجاة من النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا، من اجتناب المحارم والآثام وترك الشبهات والحرام.
وقال القاسم بن عبد الرحمن: من أعطي قلبا شاكرا، ولسانا ذاكرا، وجسدا صابرا، فقد أوتي في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، ووقي عذاب النار.
ولهذا وردت السنة بالترغيب في هذا الدعاء. فقال البخاري: حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، عن عبد العزيز، عن أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ” اللهم ربنا، آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار “.
وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، حدثنا عبد العزيز بن صهيب، عن أنس قال: كان أكثر دعوة يدعو بها رسول الله صلى الله عليه وسلم [يقول]: ” اللهم ربنا، آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار “.
[وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها، وإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه].
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو نعيم، حدثنا عبد السلام بن شداد يعني أبا طالوت قال: كنت عند أنس بن مالك، فقال له ثابت: إن إخوانك يحبون أن تدعو لهم. فقال: اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. وتحدثوا ساعة حتى إذا أرادوا القيام، قال: يا أبا حمزة، إن إخوانك يريدون القيام فادع لهم فقال: تريدون أن أشقق لكم الأمور، إذا آتاكم الله في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، ووقاكم عذاب النار فقد آتاكم الخير كله.
وقال أحمد أيضا: حدثنا محمد بن أبي عدي، عن حميد، [وعبد الله بن بكر السهمي، حدثنا حميد] عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلا من المسلمين قد صار مثل الفرخ. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” هل تدعو الله بشيء أو تسأله إياه؟ ” قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” سبحان الله! لا تطيقه، أو لا تستطيعه، فهلا قلت: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة)
وقال أحمد أيضا: حدثنا محمد بن أبي عدي، عن حميد، [وعبد الله بن بكر السهمي، حدثنا حميد] عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلا من المسلمين قد صار مثل الفرخ. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” هل تدعو الله بشيء أو تسأله إياه؟ ” قال: نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” سبحان الله! لا تطيقه، أو لا تستطيعه، فهلا قلت: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) “. قال: فدعا الله، فشفاه.
انفرد بإخراجه مسلم، فرواه من حديث ابن أبي عدي به.
وقال الإمام الشافعي: أخبرنا سعيد بن سالم القداح، عن ابن جريج، عن يحيى بن عبيد مولى السائب عن أبيه، عن عبد الله بن السائب: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما بين الركن اليماني والركن الأسود: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار). ورواه الثوري عن ابن جريج كذلك.
وروى ابن ماجه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحو ذلك. وفي سنده ضعف والله أعلم.
وقال ابن مردويه: حدثنا عبد الباقي، أخبرنا أحمد بن القاسم بن مساور، حدثنا سعيد بن سليمان، عن إبراهيم بن سليمان، عن عبد الله بن هرمز، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” ما مررت على الركن إلا رأيت عليه ملكا يقول: آمين. فإذا مررتم عليه فقولوا: (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) انتهى
الاستغفار والشكر:
قال السعدي:
{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُور رَّحِيم} [البقرة (199)]
{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} أي: ثم أفيضوا من مزدلفة من حيث أفاض الناس، من لدن إبراهيم عليه السلام إلى الآن، والمقصود من هذه الإفاضة كان معروفا عندهم، وهو رمي الجمار، وذبح الهدايا، والطواف، والسعي، والمبيت بـ ” منى ” ليالي التشريق وتكميل باقي المناسك. ولما كانت [هذه] الإفاضة، يقصد بها ما ذكر، والمذكورات آخر المناسك، أمر تعالى عند الفراغ منها باستغفاره والإكثار من ذكره، فالاستغفار للخلل الواقع من العبد، في أداء عبادته وتقصيره فيها، وذكر الله شكر الله على إنعامه عليه بالتوفيق لهذه العبادة العظيمة والمنة الجسيمة. وهكذا ينبغي للعبد، كلما فرغ من عبادة، أن يستغفر الله عن التقصير، ويشكره على التوفيق، لا كمن يرى أنه قد أكمل العبادة، ومن بها على ربه، وجعلت له محلا ومنزلة رفيعة، فهذا حقيق بالمقت، ورد الفعل، كما أن الأول، حقيق بالقبول والتوفيق لأعمال أخر. انتهى
والتوفيق لأعمال أخرى هنا الدعاء الذي جاء بعدها ورجاء القبول.