بيان الوسيلة في آيات الله الكريمة
جمع سيف بن دورة الكعبي
قال تعالى
رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَاوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) سورة يوسف
قال أبو جعفر الطبري: يقول تعالى ذكره: قال يوسف بعد ما جمع الله له أبويه وإخوته، وبسط عليه من الدنيا ما بسط من الكرامة، ومكنه في الأرض، متشوِّقًا إلى لقاء آبائه الصالحين: {رب قد آتيتني من الملك}، يعني: من ملك مصر {وعلمتني من تأويل الأحاديث}، يعني من عبارة الرؤيا، (تعديدًا لنعم الله عليه، وشكرًا له عليها {فاطر السموات والأرض}، يقول: يا فاطر السموات والأرض، يا خالقها وبارئها {أنت وليي في الدنيا والآخرة}، يقول: أنت وليي في دنياي على من عاداني وأرادني بسوء بنصرك، وتغذوني فيها بنعمتك، وتليني في الآخرة بفضلك ورحمتك. (توفني مسلمًا)، يقول: اقبضني إليك مسلمًا. {وألحقني بالصالحين}، يقول: وألحقني بصالح آبائي إبراهيم وإسحاق ومن قبلهم من أنبيائك ورسلك
قال ابن كثير بعد أن قرر نحو ما سبق:
وَهَذَا الدُّعَاءُ يُحْتَمَلُ أَنَّ يُوسُفَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَهُ عِنْدَ احْتِضَارِهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ يَرْفَعُ أُصْبُعَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَيَقُولُ: “اللَّهُمَّ فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، اللَّهُمَّ فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى، اللَّهُمَّ فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى”.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَأَلَ الْوَفَاةَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّحَاقَ بِالصَّالِحِينَ إِذَا حَانَ أَجْلُهُ، وَانْقَضَى عُمْرُهُ؛ لَا أَنَّهُ سَأَلَ ذَلِكَ مُنْجَزًا، كَمَا يَقُولُ الدَّاعِي لِغَيْرِهِ: “أَمَاتَكَ اللَّهُ عَلَى الْإِسْلَامِ”. وَيَقُولُ الدَّاعِي: “اللَّهُمَّ أَحْيِنَا مُسْلِمِينَ وَتُوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحَقَنَا بِالصَّالِحِينَ”.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ سَأَلَ ذَلِكَ مُنْجَزًا، وَكَانَ ذَلِكَ سَائِغًا فِي مِلَّتِهِمْ
قال ابن تيمية:
وقالَ الصِّدِّيقُ {تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وألْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ} والصَّحِيحُ مِن القَوْلَيْنِ أنَّهُ لَمْ يَسْألْ المَوْتَ ولَمْ يَتَمَنَّهُ. وإنَّما سَألَ أنَّهُ إذا ماتَ يَمُوتُ عَلى الإسْلامِ؛ فَسَألَ الصِّفَةَ لا المَوْصُوفَ كَما أمَرَ اللَّهُ بِذَلِكَ؛ وأمَرَ بِهِ خَلِيلَهُ إبْراهِيمَ وإسْرائِيلَ؛ وهَكَذا قالَ غَيْرُ واحِدٍ مِن العُلَماءِ؛ مِنهُمْ ابْنُ عَقِيلٍ وغَيْرُهُ. واَللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
قال ابن القيم:
جمعت هَذِه الدعْوَة الإقْرار بِالتَّوْحِيدِ والاستسلام للرب وإظْهار الافتقار إلَيْهِ والبراءة من مُوالاة غَيره سُبْحانَهُ وكَون الوَفاة على الإسْلام أجلّ غايات العَبْد وأن ذَلِك بيد الله لا بيد العَبْد والِاعْتِراف بالمعاد وطلب مرافقة السُّعَداء.
قال البقاعي:
ولَمّا ذَكَرَ هاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ، تَذَكَّرَ ما وقَعَ لَهُ بِهِما مِنَ الأسْبابِ، فَغَلَبَ عَلَيْهِ مَقامُ الشُّهُودِ وازْدادَتْ نَفْسُهُ عَنِ الدُّنْيا عُزُوفًا، فَقالَ مُخاطِبًا: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي} وافْتَتَحَ بِـ ”قَدْ“ لِأنَّ الحالَ حالُ تَوَقُّعِ السّامِعِ لِشَرْحِ مَآلِ الرُّؤْيا {مِنَ المُلْكِ} أيْ بَعْضُهُ بَعُدَ بُعْدِي مِنهُ جِدًّا، وهو مَعْنى رُوحِهِ تَمامُ القُدْرَةِ {وعَلَّمْتَنِي} وقَصَرَ دَعْواهُ تَواضُعًا بِالإتْيانِ بِالجارِّ فَقالَ: {مِن تَاوِيلِ الأحادِيثِ} طِبْقَ ما بَشَّرَنِي بِهِ أبِي وأخْبَرْتُ بِهِ أنْتَ مِنَ التَّمْكِينِ والتَّعْلِيمِ قَبْلَ قَوْلِكَ، واللَّهُ غالِبٌ عَلى أمْرِهِ؛ ثُمَّ ناداهُ بِوَصْفٍ جامِعٍ لِلْعِلْمِ والحِكْمَةِ فَقالَ: {فاطِرَ السَّماواتِ والأرْضِ} ثُمَّ أعْلَمَهُ بِما هو أعْلَمُ بِهِ مِنهُ مِن أنَّهُ لا يَعُولُ عَلى غَيْرِهِ في شَيْءٍ مِنَ الأشْياءِ فَقالَ: {أنْتَ ولِيِّي} أيِ الأقْرَبُ إلَيَّ باطِنًا وظاهِرًا {فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ} أيْ لا ولِيَّ لِي غَيْرُكَ، والوَلِيُّ يَفْعَلُ لِمَوْلاهُ الأصْلَحَ والأحْسَنَ، فَأحْسَنَ بِي في الآخِرَةِ أعْظَمُ ما أحْسَنْتَ بِي في الدُّنْيا.
قال ابن جزي:
{توفني مسلمًا}: لما عدد النعم التي أنعم الله بها عليه؛ دعا أن الله يتم عليه النعم بالوفاة على الإسلام إذا حان أجله.
قال السعدي:
لما أتم الله ليوسف ما أتم من التمكين في الأرض والملك، وأقر عينه بأبويه وإخوته، وبعد العلم العظيم الذي أعطاه الله إياه، قال مقرا بنعمة الله شاكرا لها داعيا بالثبات على الإسلام:
{رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} وذلك أنه كان على خزائن الأرض وتدبيرها ووزيرا كبيرا للملك {وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَاوِيلِ الْأَحَادِيثِ} أي: من تأويل أحاديث الكتب المنزلة وتأويل الرؤيا وغير ذلك من العلم {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا} أي: أدم عليّ الإسلام وثبتني عليه حتى توفاني عليه، ولم يكن هذا دعاء باستعجال الموت، {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} من الأنبياء الأبرار والأصفياء الأخيار.