بيان الوسيلة في آيات الله الكريمة
جمع سيف بن دورة الكعبي
قال تعالى:
(رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا
مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155).سورة الأعراف
قال ابن الجوزي:
قَوْلُهُ تَعالى: {أتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنّا} قالَ المُبَرِّدُ: هَذا اسْتِفْهامُ اسْتِعْطافٍ، أيْ: لا تُهْلِكُنا. وقالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: هَذا اسْتِفْهامٌ عَلى تَاوِيلِ الجَحْدِ، أرادَ: لَسْتَ تَفْعَلُ ذَلِكَ. و”السُّفَهاءُ” هاهُنا: عَبَدَةُ العِجْلِ. وقالَ الفَرّاءُ: ظَنَّ مُوسى أنَّهم أُهْلِكُوا بِاتِّخاذِ أصْحابِهِمُ العَجَلَ. وإنَّما أُهْلِكُوا بِقَوْلِهِمْ: {أرِنا اللَّهَ جَهْرَةً}
قال ابن جزي:
{لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ} يحتمل أن تكون لو هنا للتمني أي تمنوا أن يكون هو وهم قد ماتوا قبل ذلك، لأنه خاف من تشغيب بني إسرائيل عليه إن رجع إليهم دون هؤلاء السبعين، ويحتمل أن يكون قال ذلك على وجه التضرع والاستسلام لأمر الله كأنه قال: لو شئت أن تهلكنا قبل ذلك لفعلت فإنا عبيدك وتحت قهرك، وأنت تفعل ما تشاء، ويحتمل ان يكون قالها على وجه التضرع والرغبة كأنه قال: لو شئت أن تهلكنا قبل اليوم لفعلت، ولكنك عافيتنا وأبقيتنا فافعل معنا الآن ما وعدتنا، وأحي هؤلاء القوم الذين أخذتهم الرجفة {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَآءُ مِنَّآ} أي أتهلكنا وتهلك سائر بني إسرائيل بما فعل السفهاء الذين طلبوا الرؤية، والذين عبدوا العجل، فمعنى هذا إدلاء بحجته، وتبرؤ من فعل السفهاء، ورغبة إلى الله أن لا يعم الجميع بالعقوبة {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ} أي الأمور كلها بيدك {تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ} ومعنى هذا: اعتذار عن فعل السفهاء، فإنه كان بقضاء الله ومشيئته {إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ} أي تبنا، وهذا الكلام الذي قاله موسى عليه السلام إنما هو: استعطاف ورغبة إلى الله وتضرع إليه، ولا يقتضي شيئاً مما توهم الجهال فيه من الجفاء في قوله: أتهلكنا بما فعل السفهاء منا لأنا قد بينا أنه إنما قال ذلك استعطافاً لله وبراءة من فعل السفهاء
قال ابن القيم:
والذي يظهر – والله أعلم بمراده ومراد نبيه: أن هذا استعطاف من موسى عليه السلام لربه، وتوسل إليه بعفوه عنهم من قبل، حين عبد قومهم العجل، ولم ينكروا عليهم.
يقول موسى: إنهم قد تقدم منهم ما يقتضي هلاكهم. ومع هذا فوسعهم عفوك ومغفرتك، ولم تهلكهم، فليسعهم اليوم ما وسعهم من قبل.
وهذا كما يقول من واخذه سيده بجرم: لو شئت واخذتني من قبل هذا بما هو أعظم من هذا الجرم، ولكن وسعني عفوك أولا، فليسعني اليوم.
ثم قال نبي الله {أتهْلِكُنا بما فَعَلَ السُّفَهاء مِنّا}
فقال ابن الأنباري وغيره: هذا استفهام على معنى الجحد، أي لست تفعل ذلك.
والسفهاء هنا: عبدة العجل.
قال الفراء: ظن موسى أنهم أهلكوا باتخاذ قومهم العجل، فقال: {أتُهْلِكُنا بما فَعَلَ السُّفَهاء مِنّا} [الأعراف: (155)].
وإنما كان إهلاكهم بقولهم: {أرِنا اللهَ جَهْرَةً} [البقرة: (55)]
ثم قال {إنّ هِى إلا فِتْنَتُكَ}.
وهذا من تمام الاستعطاف، أي ما هي إلا ابتلاؤك واختبارك لعبادك. فأنت ابتليتهم وامتحنتهم، فالأمر كله لك وبيدك، لا يكشفه إلا أنت، كما لم يمتحن به ويختبر به إلا أنت. فنحن عائذون بك منك. ولاجئون منك إليك.
قال ابن كثير:
وَقَوْلُهُ: {إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ} أَيِ: ابْتِلَاؤُكَ وَاخْتِبَارُكَ وَامْتِحَانُكَ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَرَبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. وَلَا مَعْنَى لَهُ غَيْرَ ذَلِكَ؛ يَقُولُ: إِنِ الأمرُ إِلَّا أمرُك، وَإِنِ الحكمُ إِلَّا لَكَ، فَمَا شِئْتَ كَانَ، تَضِلُّ مَنْ تَشَاءُ، وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ، وَلَا هَادِيَ لِمَنْ أَضْلَلْتَ، وَلَا مُضِل لِمَنْ هَدَيت، وَلَا مُعطِي لِمَا مَنَعت، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، فَالْمُلْكُ كُلُّهُ لَكَ، وَالْحُكْمُ كُلُّهُ لَكَ، لَكَ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ.
وَقَوْلُهُ: {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} الغَفْر هُوَ: السَّتْرُ، وَتَرْكُ الْمُؤَاخَذَةِ بِالذَّنْبِ، وَالرَّحْمَةُ إِذَا قُرِنَتْ مَعَ الْغَفْرِ، يُرَادُ بِهَا أَلَّا يُوقِعَهُ فِي مِثْلِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، {وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} أَيْ: لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ} هُنَاكَ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ مِنَ الدُّعَاءِ دَفْعُ الْمَحْذُورِ، وَهَذَا لِتَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ} أَيْ: أَوْجِبْ لَنَا وَأَثْبِتْ لَنَا فِيهِمَا حَسَنَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ [تَفْسِيرُ] ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ. [الْآيَةَ: (201)]
{إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} أَيْ: تُبْنَا وَرَجَعْنَا وَأَنَبْنَا إِلَيْكَ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَير، وَمُجَاهِدٌ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالضَّحَّاكُ، وَإِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ، والسُّدِّي، وَقَتَادَةُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَهُوَ كَذَلِكَ لُغَة.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيع، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُجيَّ ((11)) عَنْ عَلِيٍّ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] ((12)) قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْيَهُودُ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ}
جَابِرٌ -هُوَ ابْنُ يَزِيدَ الجُعْفي -ضَعِيفٌ.
قال ابن عاشور:
وقَدَّمَ المَغْفِرَةَ عَلى الرَّحْمَةِ لِأنَّ المَغْفِرَةَ سَبَبٌ لِرَحَماتٍ كَثِيرَةٍ، فَإنَّ المَغْفِرَةَ تَنْهِيةٌ لِغَضَبِ اللَّهِ المُتَرَتِّبِ عَلى الذَّنْبِ، فَإذا انْتَهى الغَضَبُ تَسَنّى أنْ يَخْلُفَهُ الرِّضا. والرِّضا يَقْتَضِي الإحْسانَ.
قال السعدي:
فلم يزل موسى عليه الصلاة والسلام، يتضرع إلى اللّه ويتبتل ويقول رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ أن يحضروا ويكونون في حالة يعتذرون فيها لقومهم، فصاروا هم الظالمين أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا أي: ضعفاء العقول، سفهاء الأحلام، فتضرع إلى اللّه واعتذر بأن المتجرئين على اللّه ليس لهم عقول كاملة، تردعهم عما قالوا وفعلوا، وبأنهم حصل لهم فتنة يخطر بها الإنسان، ويخاف من ذهاب دينه فقال: إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ أي: أنت خير من غفر، وأولى من رحم، وأكرم من أعطى وتفضل، فكأن موسى عليه الصلاة والسلام، قال: المقصود يا رب بالقصد الأول لنا كلنا، هو التزام طاعتك والإيمان بك، وأن من حضره عقله ورشده، وتم على ما وهبته من التوفيق، فإنه لم يزل مستقيما، وأما من ضعف عقله، وسفه رأيه، وصرفته الفتنة، فهو الذي فعل ما فعل، لذينك السببين، ومع هذا فأنت أرحم الراحمين، وخير الغافرين، فاغفر لنا وارحمنا. فأجاب اللّه سؤاله، وأحياهم من بعد موتهم، وغفر لهم ذنوبهم.