بيان الوسيلة في آيات الله الكريمة
قال تعالى:
سورة الأعراف
{وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُو ا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَاذَا لَمَكْر مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَاف ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُو ا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَا ءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْر ا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)} [الأعراف (120) – (126)]
قال ابن عطية:
هَذا تَسْلِيمٌ مِن مُؤْمِنِي السَحَرَةِ، واتِّكالٌ عَلى اللهِ وثِقَةٌ بِما عِنْدَهُ.
وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: “تَنْقِمُ” بِكَسْرِ القافِ، وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ، وأبُو البَرَهْسَمِ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ، والحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ: “تَنْقَمُ” بِفَتْحِها، وهُما لُغَتانِ. قالَ أبُو حاتِمٍ: الوَجْهُ في القِراءَةِ كَسْرُ القافِ، وكُلُّ العُلَماءِ أنْشَدَ بَيْتَ ابْنِ الرُقَيّاتِ:
ما نَقَمُوا مِن بَنِي أُمَيَّةَ …. …………………………
بِفَتْحِ القافِ. ومَعْناهُ: وما تَعُدُّ عَلَيْنا ذَنْبًا وتُؤاخِذُنا بِهِ.
وقَوْلُهُمْ: {أفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا} مَعْناهُ: عُمَّنا كَما يَعُمُّ الماءُ مَن أُفْرِغَ عَلَيْهِ،
قال أبوالسعود:
{وَما تَنْقِمُ مِنّا}؛ أيْ: وما تُنْكِرُ وتَعِيبُ مِنّا.
{إلا أنْ آمَنّا بِآياتِ رَبِّنا لَمّا جاءَتْنا} وهو خَيْرُ الأعْمالِ وأصْلُ المَفاخِرِ، لَيْسَ مِمّا يَتَأتّى لَنا العُدُولُ عَنْهُ طَلَبًا لِمَرْضاتِكَ، ثُمَّ أعْرَضُوا عَنْ مُخاطَبَتِهِ إظْهارًا لِما في قُلُوبِهِمْ مِنَ العَزِيمَةِ عَلى ما قالُوا وتَقْرِيرًا لَهُ.
فَفَزِعُوا إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ وقالُوا: {رَبَّنا أفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا}؛ أيْ: أفِضْ عَلَيْنا مِنَ الصَّبْرِ ما يَغْمُرُنا كَما يَغْمُرُ الماءُ، أوْ صُبَّ عَلَيْنا ما يُطَهِّرُنا مِن أوَضارِ الأوْزارِ وأدْناسِ الآثامِ، وهو الصَّبْرُ عَلى وعِيدِ فِرْعَوْنَ.
{وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ} ثابِتِينَ عَلى ما رَزَقْتَنا مِنَ الإسْلامِ غَيْرَ مَفْتُونِينَ مِنَ الوَعِيدِ، قِيلَ: فَعَلَ بِهِمْ ما أوْعَدَهم بِهِ، وقِيلَ: لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى: {أنْتُما ومَنِ اتَّبَعَكُما الغالِبُونَ}
قال ابن عاشور:
{وأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ} {قالُوا آمَنّا بِرَبِّ العالَمِينَ} {رَبِّ مُوسى وهارُونَ} {قالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أنْ آذَنَ لَكم إنَّ هَذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ في المَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنها أهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} {لَأُقَطِّعَنَّ أيْدِيَكم وأرْجُلَكم مِن خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكم أجْمَعِينَ} {قالُوا إنّا إلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ} {وما تَنْقِمُ مِنّا إلّا أنْ آمَنّا بِآياتِ رَبِّنا لَمّا جاءَتْنا رَبَّنا أفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا وتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ}
.. وفُصِلَتْ جُمْلَةُ قالُوا إنّا إلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ لِوُقُوعِها في سِياقِ المُحاوَرَةِ.
والِانْقِلابُ: الرُّجُوعُ وقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا، وهَذا جَوابٌ عَنْ وعِيدِ فِرْعَوْنَ بِأنَّهُ وعِيدٌ لا يُضِيرُهم، لِأنَّهم يَعْلَمُونَ أنَّهم صائِرُونَ إلى اللَّهِ رَبِّ الجَمِيعِ، وقَدْ جاءَ هَذا الجَوابُ مُوجَزًا إيجازًا بَدِيعًا؛ لِأنَّهُ يَتَضَمَّنُ أنَّهم يَرْجُونَ ثَوابَ اللَّهِ عَلى ما يَنالُهم مِن عَذابِ فِرْعَوْنَ، ويَرْجُونَ مِنهُ مَغْفِرَةَ ذُنُوبِهِمْ، ويَرْجُونَ العِقابَ لِفِرْعَوْنَ عَلى ذَلِكَ، وإذا كانَ المُرادُ بِالصَّلْبِ القَتْلَ وكانَ المُرادُ تَهْدِيدَ جَمِيعِ المُؤْمِنِينَ، كانَ قَوْلُهم إنّا إلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ تَشَوُّقًا إلى حُلُولِ ذَلِكَ بِهِمْ مَحَبَّةً لِلِقاءِ اللَّهِ – تَعالى -، فَإنَّ اللَّهَ – تَعالى – لَمّا هَداهم إلى الإيمانِ أكْسَبَهم مَحَبَّةَ لِقائِهِ، ثُمَّ بَيَّنُوا أنَّ عِقابَ فِرْعَوْنَ لا غَضاضَةَ عَلَيْهِمْ مِنهُ، لِأنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَنْ جِنايَةٍ تَصِمُهم بَلْ كانَ عَلى الإيمانِ بِآياتِ اللَّهِ لَمّا ظَهَرَتْ لَهم. أيْ: فَإنَّكَ لا تَعْرِفُ لَنا سَبَبًا يُوجِبُ العُقُوبَةَ غَيْرَ ذَلِكَ.
والنَّقْمُ: بِسُكُونِ القافِ وبِفَتْحِها، الإنْكارُ عَلى الفِعْلِ، وكَراهَةُ صُدُورِهِ، وحِقْدٌ عَلى فاعِلِهِ، ويَكُونُ بِاللِّسانِ وبِالعَمَلِ، وفِعْلُهُ مِن بابِ ضَرَبَ وتَعِبَ، والأوَّلُ أفْصَحُ، ولِذَلِكَ قَرَأهُ الجَمِيعُ وما تَنْقِمُ بِكَسْرِ القافِ.
والِاسْتِثْناءُ في قَوْلِهِمْ إلّا أنْ آمَنّا بِآياتِ رَبِّنا مُتَّصِلٌ؛ لِأنَّ الإيمانَ يَنْقِمُهُ فِرْعَوْنُ عَلَيْهِمْ، فَلَيْسَ في الكَلامِ تَاكِيدُ الشَّيْءِ بِما يُشْبِهُ ضِدَّهُ.
وجُمْلَةُ رَبَّنا أفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا مِن تَمامِ كَلامِهِمْ، وهي انْتِقالٌ مِن خِطابِهِمْ فِرْعَوْنَ إلى التَّوَجُّهِ إلى دُعاءِ اللَّهِ – تَعالى -، ولِذَلِكَ فُصِلَتْ عَنِ الجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَها.
ومَعْنى قَوْلِهِ رَبَّنا أفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا اجْعَلْ لَنا طاقَةً لِتَحَمُّلِ ما تَوَعَّدَنا بِهِ فِرْعَوْنُ.
ولَمّا كانَ ذَلِكَ الوَعِيدُ مِمّا لا تُطِيقُهُ النُّفُوسُ سَألُوا اللَّهَ أنْ يَجْعَلَ لِنُفُوسِهِمْ صَبْرًا قَوِيًّا، يَفُوقُ المُتَعارَفَ، فَشُبِّهَ الصَّبْرُ بِماءٍ تَشْبِيهَ المَعْقُولِ بِالمَحْسُوسِ، عَلى طَرِيقَةِ الِاسْتِعارَةِ المَكْنِيَّةِ، وشُبِّهَ خَلْقُهُ في نُفُوسِهِمْ بِإفْراغِ الماءِ مِنَ الإناءِ عَلى طَرِيقَةِ التَّخْيِيلِيَّةِ، فَإنَّ الإفْراغَ صَبُّ جَمِيعِ ما في الإناءِ، والمَقْصُودُ مِن ذَلِكَ الكِنايَةُ عَنْ قُوَّةِ الصَّبْرِ لِأنَّ إفْراغَ الإناءِ يَسْتَلْزِمُ أنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِيهِ شَيْءٌ مِمّا حَواهُ، فاشْتَمَلَتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ عَلى مَكْنِيَّةٍ وتَخْيِيلِيَّةٍ وكِنايَةٍ.
وتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ في قَوْلِهِ – تَعالى – قالُوا رَبَّنا أفْرِغْ عَلَيْنا صَبْرًا في سُورَةِ البَقَرَةِ.
ودَعَوْا لِأنْفُسِهِمْ بِالوَفاةِ عَلى الإسْلامِ إيذانًا بِأنَّهم غَيْرُ راغِبِينَ في الحَياةِ، ولا مُبالِينَ بِوَعِيدِ فِرْعَوْنَ، وأنَّ هِمَّتَهم لا تَرْجُو إلّا النَّجاةَ في الآخِرَةِ، والفَوْزَ بِما عِنْدَ اللَّهِ، وقَدِ انْخَذَلَ بِذَلِكَ فِرْعَوْنُ، وذَهَبَ وعِيدُهُ باطِلًا، ولَعَلَّهُ لَمْ يُحَقِّقْ ما تَوَعَّدَهم بِهِ لِأنَّ اللَّهَ أكْرَمَهم فَنَجّاهم مِن خِزْيِ الدُّنْيا كَما نَجّاهم مِن عَذابِ الآخِرَةِ.
والقُرْآنُ لَمْ يَتَعَرَّضْ هُنا، ولا في سُورَةِ الشُّعَراءِ، ولا في سُورَةِ طَهَ، لِلْإخْبارِ عَنْ وُقُوعِ ما تَوَعَّدَهم بِهِ فِرْعَوْنُ لِأنَّ غَرَضَ القَصَصِ القُرْآنِيَّةِ هو الِاعْتِبارُ بِمَحَلِّ العِبْرَةِ وهو تَايِيدُ اللَّهِ مُوسى وهِدايَةُ السَّحَرَةِ وتَصَلُبُهم في إيمانِهِمْ بَعْدَ تَعَرُّضِهِمْ لِلْوَعِيدِ بِنُفُوسٍ مُطْمَئِنَّةٍ.
ولَيْسَ مِن غَرَضِ القُرْآنِ مَعْرِفَةُ الحَوادِثِ كَما قالَ في سُورَةِ النّازِعاتِ {إنَّ في ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَن يَخْشى} [النازعات: (26)]، فاخْتِلافُ المُفَسِّرِينَ في البَحْثِ عَنْ تَحْقِيقِ وعِيدِ فِرْعَوْنَ زِيادَةٌ في تَفْسِيرِ الآيَةِ.
والظّاهِرُ أنَّ فِرْعَوْنَ أُفْحِمَ لَمّا رَأى قِلَّةَ مُبالاتِهِمْ بِوَعِيدِهِ فَلَمْ يَرُدَّ جَوابًا.
وذِكْرُهُمُ الإسْلامَ في دُعائِهِمْ يَدُلُّ عَلى أنَّ اللَّهَ ألْهَمَهم حَقِيقَتَهُ الَّتِي كانَ عَلَيْها النَّبِيُّونَ والصِّدِّيقُونَ مِن عَهْدِ إبْراهِيمَ – عَلَيْهِ السَّلامُ -.
والظّاهِرُ أنَّ كَلِمَةَ مُسْلِمِينَ تَعْبِيرُ القُرْآنِ عَنْ دُعائِهِمْ بِأنْ يَتَوَفّاهُمُ اللَّهُ عَلى حالَةِ الصِّدِّيقِينَ، وهي الَّتِي يَجْمَعُ لَفْظُ الإسْلامِ تَفْصِيلَها، وقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ مَعْنى كَوْنِ الإسْلامِ وهو دِينُ الأنْبِياءِ عِنْدَ قَوْلِهِ فَلا تَمُوتُنَّ إلّا وأنْتُمْ مُسْلِمُونَ في سُورَةِ البَقَرَةِ.