بيان الوسيلة في آيات الله الكريمة
=======
قال تعالى:
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147).سورة آل عمران
=====
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:”وما كان قولهم”، وما كان قول الرِّبِّيين – و”الهاء والميم” من ذكر أسماء الربيين -“إلا أن قالوا”، يعني: ما كان لهم قولٌ سوى هذا القول، إذ قتل نبيهم وقوله:”ربنا اغفر لنا ذنوبنا”، يقول: لم يعتصموا، إذ قتل نبيهم، إلا بالصبر على ما أصابهم، ومجاهدة عدوهم، وبمسألة ربهم المغفرة والنصر على عدوهم. ومعنى الكلام: وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا.
وأما”الإسراف”، فإنه الإفراط في الشيء: يقال منه:”أسرف فلانٌ في هذا الأمر”، إذا تجاوز مقداره فأفرط.
ومعناه هاهنا: اغفر لنا ذنوبنا: الصغارَ منها، وما أسرفنا فيه منها فتخطينا إلى العظام. وكان معنى الكلام: اغفر لنا ذنوبنا، الصغائر منها والكبائر
تفسير الطبري
===
في تفسير الوسيط: والمتأمل في هذه الدعوات الثلاث يراها قد جمعت أسمى ألوان الأدب وحسن الترتيب، فهم قد صدروا دعاءهم بالتوسل بوصف الربوبية فقالوا رَبَّنا أى يا خالقنا ويا منشئنا ويا مربينا ويا مميتنا، وفي ذلك إشعار أنهم يلجئون إلى من بيده وحده النفع والضر، والنصر والهزيمة. ثم افتتحوا دعاءهم بطلب الصبر عند المخاوف لأنه هو عدة القتال الأولى، وركنه الأعلى، إذ به يكون ضبط النفس فلا تفزع، وبه يسكن القلب فلا يجزع. ثم التمسوا منه- سبحانه- أن يثبت أقدامهم عند اللقاء لأن هذا الثبات هو مظهر الصبر، ووسيلة النصر، وعنوان القوة.
ثم ختموا دعاءهم بما هو ثمرة ونتيجة للصبر والثبات وهو النصر على الأعداء.
===
قال ابن عطية في الآية:
واسْتِغْفارُ هَؤُلاءِ القَوْمِ المَمْدُوحِينَ في هَذا المَوْطِنِ يَنْحُو إلى أنَّهم رَأوا ما نَزَلَ مِن مَصائِبِ الدُنْيا إنَّما هو بِذُنُوبٍ مِنَ البَشَرِ …
وبعد الاستغفار دعو الله على هذا النحو اجْعَلْنا دائِبِينَ عَلى طاعَتِكَ والإيمانِ بِكَ، وتَثْبِيتُ القَدَمِ عَلى هَذا اسْتِعارَةٌ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ في مَعْنى ما بَعْدَهُ مِن قَوْلِهِ: {وانْصُرْنا عَلى القَوْمِ الكافِرِينَ} فَيُرادَ ثُبُوتُ القَدَمِ حَقِيقَةً في مَواقِفِ الحَرْبِ؛ قالَ ابْنُ فُورَكٍ: في هَذا الدُعاءِ رَدٌّ عَلى القَدَرِيَّةِ، لِقَوْلِهِمْ: إنَّ اللهَ لا يَخْلُقُ أفْعالَ العَبْدِ، ولَوْ كانَ ذَلِكَ لَمْ يَسُغْ أنْ يُدَّعى فِيما لا يَفْعَلُهُ ..
تفسير المحرر الوجيز
===
فجمعوا بين الصبر والاستغفار، وهذا هو المأمور به في المصائب: الصبر عليها والاستغفار من الذنوب التي كانت سببها. [ابن تيمية: (2) / (156)]
===
قال البقاعي:
ولَمّا أثْنى – سُبْحانَهُ وتَعالى – عَلى فِعْلِهِمْ؛ أتْبَعَهُ قَوْلَهُمْ؛ فَقالَ: {وما كانَ}؛ أيْ: شَيْءٌ مِنَ القَوْلِ؛ {قَوْلَهُمْ}؛ أيْ: بِسَبَبِ ذَلِكَ الأمْرِ الَّذِي دَهَمَهُمْ؛ {إلا أنْ قالُوا}؛ أيْ: وهم يَجْتَهِدُونَ في نَصْرِ دِينِ اللَّهِ؛ ناسِبِينَ الخِذْلانَ إلى أنْفُسِهِمْ؛ بِتَعاطِي أسْبابِهِ {رَبَّنا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا}؛ أيْ: الَّتِي اسْتَوْجَبْنا بِها الخِذْلانَ؛ {وإسْرافَنا في أمْرِنا}؛ هَضْمًا لِأنْفُسِهِمْ؛ فَمَعَ كَوْنِهِمْ رَبّانِيِّينَ؛ مُجْتَهِدِينَ؛ نَسَبُوا ما أصابَهم إلى ذُنُوبِهِمْ؛ فافْعَلُوا أنْتُمْ فِعْلَهُمْ؛ لِتَنالُوا مِنَ الكَرامَةِ ما نالُوا؛ كَما أشارَ لَكم – سُبْحانَهُ وتَعالى – إلى ذَلِكَ؛ قَبْلَ الأخْذِ في قَصِّ القِصَّةِ؛ عِنْدَما وصَفَ بِهِ المُتَّقِينَ؛ مِن قَوْلِهِ: {أوْ ظَلَمُوا أنْفُسَهم ذَكَرُوا اللَّهَ فاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: (135)]
ولَمّا دَعَوْا بِمَحْوِ ما أوْجَبَ الخِذْلانَ؛ دَعَوْا بِثَمَرَةِ المَحْوِ؛ فَقالُوا: {وثَبِّتْ أقْدامَنا}؛ إشارَةً إلى أنَّ الرُّعْبَ مِن نَتائِجِ الذَّنْبِ؛ والثَّباتَ مِن ثَمَراتِ الطّاعَةِ – «إنَّما تُقاتِلُونَ النّاسَ بِأعْمالِكُمْ» – ثُمَّ أشارُوا إلى أنَّ قِتالَهم لَهم إنَّما هو لِلَّهِ؛ لا لِحَظٍّ مِن حُظُوظِ النَّفْسِ أصْلًا؛ بِقَوْلِهِ: {وانْصُرْنا عَلى القَوْمِ الكافِرِينَ}
===
قال النسفي:
وما كانَ قَوْلَهم إلّا هَذا القَوْلُ، وهو إضافَةُ الذُنُوبِ إلى أنْفُسِهِمْ، مَعَ كَوْنِهِمْ رَبّانِيِّينَ، هَضْمًا لَها {وَإسْرافَنا في أمْرِنا} تَجاوُزَنا حَدَّ العُبُودِيَّةِ،
{وَثَبِّتْ أقْدامَنا} في القِتالِ.
{وانْصُرْنا عَلى القَوْمِ الكافِرِينَ} بِالغَلَبَةِ، وقَدَّمَ الدُعاءَ بِالِاسْتِغْفارِ مِنَ الذُنُوبِ عَلى طَلَبِ تَثْبِيتِ الأقْدامِ في مَواطِنِ الحَرْبِ والنُصْرَةِ عَلى الأعْداءِ، لِأنَّهُ أقْرَبُ إلى الإجابَةِ، لِما فِيهِ مِنَ الخُضُوعِ والِاسْتِكانَةِ.
===
قال البيضاوي:
أيْ وما كانَ قَوْلُهم مَعَ ثَباتِهِمْ وقُوَّتِهِمْ في الدِّينِ وكَوْنِهِمْ رَبّانِيِّينَ إلّا هَذا القَوْلَ، وهو إضافَةُ الذُّنُوبِ والإسْرافِ إلى أنْفُسِهِمْ هَضْمًا لَها وإضافَةً لِما أصابَهم إلى سُوءِ أعْمالِهِمْ والِاسْتِغْفارِ عَنْها، ثُمَّ طَلَبَ التَّثْبِيتَ في مُواطِنِ الحَرْبِ والنَّصْرِ عَلى العَدُوِّ لِيَكُونَ عَنْ خُضُوعٍ وطَهارَةٍ، فَيَكُونُ أقْرَبَ إلى الإجابَةِ، وإنَّما جَعَلَ قَوْلَهم خَبَرًا لِأنَّ “أنْ قالُوا” أعْرَفُ لِدَلالَتِهِ عَلى جِهَةِ النِّسْبَةِ وزَمانِ الحَدَثِ.
===
قال القنوجي:
(وانصرنا على القوم الكافرين) تقريباً له إلى حين القبول فإن الدعاء المقرون بالخضوع الصادر عن زكاء وطهارة أقرب إلى الاستجابة، والمعنى لم يزالوا مواظبين على هذا الدعاء من غير أن يصدر عنهم قول يوهم شائبة الجزع والتزلزل في مواقف الحرب، ومراصد الدين، وفيه من التعريض بالمنهزمين ما لا يخفى.
===
علموا أن الذنوب والإسراف من أعظم أسباب الخذلان، وأن التخلي منها من أسباب النصر، فسألوا ربهم مغفرتها. [السعدي: (151)]
====
قال الألوسي:
طلبوا الغفران أولاً ليستحقوا طلب النصر على الكافرين بترجحهم بطهارتهم عن الذنوب عليهم وهم محاطون بالذنوب. وفي طلبهم النصر- مع كثرتهم المفرطة التي دل عليها ما سبق- إيذان بأنهم لا ينظرون إلى كثرتهم، ولا يعولون عليها، بل يسندون ثبات أقدامهم إلى الله تعالى، ويعتقدون أن النصر منه سبحانه وتعالى. [الألوسي: (4) / (85)]