بيان الوسيلة في آيات القرآن الكريمة
جمع سيف بن دورة الكعبي
وشارك عبدالله البلوشي أبوعيسى
————-
قال تعالى:
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوالا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَ الاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبلاا وَرَهَبلاا وَكَانُوالا لَنَا خَاشِعِينَ} (90) سورة الأنبياء
————–
قال ابن جرير:
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد لا:
واذكر يا محمد زكريا حين نادى ربه {رَبِّ لا تَذَرْنِي} وحيدا {فَرْدًا} لا ولد لي ولا عقب {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} يقول: فارزقني وارثا من آل يعقوب يرثني، ثم ردّ الأمر إلى الله فقال وأنت خير الوارثين، يقول الله جلّ ثناؤه: فاستجبنا لزكريا دعاءه، ووهبنا له يحيى ولدا ووارثا يرثه، وأصلحنا له زوجه.
قال البغوي:
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ} دَعَا رَبَّهُ، {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا} وَحِيدًا لَا وَلَدَ لِي وَارْزُقْنِي وَارِثًا، {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} ثَنَاءٌ عَلَى اللَّهِ بِأَنَّهُ الْبَاقِي بَعْدَ فَنَاءِ الْخَلْقِ وَأَنَّهُ أَفْضَلُ مَنْ بَقِيَ حَيًّا.
قال ابن كثير:
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ عَبْدِهِ زَكَرِيَّا، حِينَ طَلَبَ أَنْ يَهبَه اللَّهُ وَلَدًا، يَكُونُ مِنْ بَعْدِهِ نَبِيًّا. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْقِصَّةُ مَبْسُوطَةً فِي أَوَّلِ سُورَةِ “مَرْيَمَ” وَفِي سُورَةِ “آلِ عِمْرَانَ” أَيْضًا، وَهَاهُنَا أَخْصَرُ مِنْهُمَا؛ {إِذْ نَادَى رَبَّهُ} أَيْ: خُفْيَةً عَنْ قَوْمِهِ: {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا} أَيْ: لَا ولدَ لِي وَلَا وارثَ يَقُومُ بَعْدِي فِي النَّاسِ، {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} دُعَاءٌ وَثَنَاءٌ مُنَاسِبٌ لِلْمَسْأَلَةِ.
قال البقاعي:
{وزَكَرِيّا} أيِ اذْكُرْهُ {إذْ نادى رَبَّهُ} نِداءَ الحَبِيبِ القَرِيبِ فَقالَ: {رَبِّ} بِإسْقاطِ أداةِ البُعْدِ {لا تَذَرْنِي فَرْدًا} [أيْ -] مِن غَيْرِ ولَدٍ يَرِثُ ما آتَيْتَنِي مِنَ الحِكْمَةِ.
ولَمّا كانَ مِنَ الوارِثِ مَن يُحِبُّ مَن يَحْجُبُهُ مِنَ الإرْثِ أوْ يُشارِكُهُ فِيهِ، ومِنهم مَن لا يُحِبُّ ذَلِكَ
وكانَ اللَّهُ هو الغَنِيَّ الحَمِيدَ، الحَكِيمَ المَجِيدَ، قالَ مُلَوِّحًا بِمَقْصِدِهِ في أُسْلُوبِ الإلْهابِ والتَّهْيِيجِ: ”وأنْتَ“ [أيْ والحالُ أنَّكَ -] {خَيْرُ الوارِثِينَ} لِأنَّكَ أغْناهم عَنِ الإرْثِ وأحْسَنُهم تَصَرُّفًا، وكَثِيرًا ما تَمْنَحُ إرْثَ بَعْضِ عَبِيدِكَ عَبِيدًا آخَرِينَ، فَأنْتَ الحَقِيقُ بِأنْ تَفْعَلَ في إرْثِي مِنَ العِلْمِ والحِكْمَةِ ما أُحِبُّهُ، فَتَهَبُنِي ولَدًا تَمُنُّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ
قال القرطبي:
وأنت خير الوارثين أي خير من يبقى بعد كل من يموت؛ وإنما قال وأنت خير الوارثين لما تقدم من قوله: يرثني أي أعلم أنك، لا تضيع دينك، ولكن لا تقطع هذه الفضيلة التي هي القيام بأمر الدين عن عقبي.
قال الواحدي:
وقوله تعالى: {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} قال ابن عباس: أفضل الوارثين.
وقال المفسرون: رد الأمر إلى الله
ومعنى هذا: إنه أثنى على الله بأنه الباقي بعد فناء خلقه، وأنه أفضل من بقي حيًّا بعد ميت، وأن الخلق كلهم يموتون ويبقى هو، هذا معنى قولهم رد الأمر إلى الله
تنبيه: معنى قول المفسرين. رد الأمر إلى الله، ما قاله وابن جزي 3/ 67، وأبو حيان 6/ 636: ثم رد أمره إلى الله مستسلمًا، فقال (وأنت خير الوارثين) أي: إن لم ترزقني من يرثني، فلا أبالي فإنك خير وارث.
قال الألوسي: وقد اعترض على هذا الوجه وأنه لا يناسب مقام الدعاء فإن من آداب الداعي أن يدعو بجد واجتهاد وتصميم منه …. ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ: لَيْسَ هَذا مِن قَبِيلِ ارْزُقْنِي إنْ شِئْتَ إذْ لَيْسَ المَقْصُودُ مِنهُ إلّا إظْهارَ الرِّضا والِاعْتِمادَ عَلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ لَوْ لَمْ يُجِبْ دُعاءَهُ ولَيْسَ المَقْصُودُ مِنَ ارْزُقْنِي إنْ شِئْتَ ذَلِكَ فَتَأمَّلْ.
تفسير الألوسي 17/ 87
فالأقرب أن معنى قوله {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} ما قاله ابن كثير -رحمه الله- في “تفسيره” 3/ 193: دعاء وثناء مناسب للمسألة. (قاله محقق تفسير الواحدي)
قال ابن عاشور:
وأُطْلِقَ الفَرْدُ عَلى مَن لا ولَدَ لَهُ تَشْبِيهًا لَهُ بِالمُنْفَرِدِ الَّذِي لا قَرِينَ لَهُ.
{وأنْتَ خَيْرُ الوارِثِينَ} ثَناءٌ لِتَمْهِيدِ الإجابَةِ، أيْ أنْتَ الوارِثُ الحَقُّ فاقْضِ عَلَيَّ مِن صِفَتِكَ العَلِيَّةِ شَيْئًا. وقَدْ شاعَ في الكِتابِ والسُنَّةِ ذِكْرُ صِفَةٍ مِن صِفاتِ اللَّهِ عِنْدَ سُؤالِهِ إعْطاءَ ما هو مِن جِنْسِها، كَما قالَ أيُّوبُ وأنْتَ أرْحَمُ الرّاحِمِينَ، ودَلَّ ذِكْرُ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ سَألَ الوَلَدَ لِأجْلِ أنْ يَرِثَهُ كَما في آيَةِ سُورَةِ مَرْيَمَ {يَرِثُنِي ويَرِثُ مِن آلِ يَعْقُوبَ} [مريم: (6)]
قال القاسمي:
وقَوْلُهُ: {وأنْتَ خَيْرُ الوارِثِينَ} ثَناءٌ مُناسِبٌ لِلْمَسْألَةِ. قالَ الغَزالِيُّ في (شَرْحِ الأسْماءِ الحُسْنى): الوارِثُ هو الَّذِي تَرْجِعُ إلَيْهِ الأمْلاكُ بَعْدَ فَناءِ المُلّاكِ. وذَلِكَ هو اللَّهُ سُبْحانَهُ، إذْ هو الباقِي بَعْدَ فَناءِ خَلْقِهِ، وإلَيْهِ مَرْجِعُ كُلِّ شَيْءٍ ومُصَيِّرُهُ.
قال البيضاوي:
{كانُوا يُسارِعُونَ في الخَيْراتِ} يُبادِرُونَ إلى أبْوابِ الخَيْرِ. {وَيَدْعُونَنا رَغَبًا ورَهَبًا} ذَوِي رَغَبٍ ورَهَبٍ، أوْ راغِبِينَ في الثَّوابِ راجِينَ لِلْإجابَةِ، أوْ في الطّاعَةِ وخائِفِينَ العِقابَ أوِ المَعْصِيَةَ. {وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ} مُخْبَتِينَ أوْ دائِبِينَ الوَجِلَ، والمَعْنى أنَّهم نالُوا مِنَ اللَّهِ ما نالُوا بِهَذِهِ الخِصالِ.
– توسّل إليه بما يناسب مطلوبه باسمه تعالى: {خَيْرُ الوارِثِينَ}، بل أتى على وزن (افعل) للتفضيل زيادة في المبالغة في الثناء على اللَّه تعالى، استعطافًا للإجابة.
{ويَدْعُونَنا رَغَبًا ورَهَبًا}: أي وكانوا أيضًا يفزعون إلينا بالدعوات، ويسألون الأمور المرغوب فيها، من مصالح الدنيا والآخرة، ويتعوّذون من الأمور المرهوب منها، من مضارّ الدنيا والآخرة، في حال الرخاء، وفي حال الشِّدّة، وجاء اللفظ بصيغة المضارع: {ويَدْعُونَنا}: لفائدتين:
(1) – كثرة سؤالهم، ومداومتهم في الدعاء بالرغبة والرهبة، كما أفاد الفعل المضارع {يُسارِعُونَ}.
(2) – تصور صورتهم الجميلة في الذهن، فكأنّ المخاطب يراها في حينه، فينشأ عن ذلك التأسي في فعلهم والاقتداء بهم.
أما الفوائد فقد ذُكرت مستوفاة كما في الدعوة السابقة فليرجع إليها. (شرح الدعاء من الكتاب والسنة – معاصر)
قال السعدي:
أي: واذكر عبدنا ورسولنا زكريا، منوها بذكره، ناشرا لمناقبه وفضائله، التي من جملتها، هذه المنقبة العظيمة المتضمنة لنصحه للخلق، ورحمة الله إياه، وأنه {نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا} أي: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّاسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا* وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَاءِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا* يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}
من هذه الآيات علمنا أن قوله {رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا} أنه لما تقارب أجله، خاف أن لا يقوم أحد بعده مقامه في الدعوة إلى الله، والنصح لعباد الله، وأن يكون في وقته فردا، ولا يخلف من يشفعه ويعينه، على ما قام به، {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} أي: خير الباقين، وخير من خلفني بخير، وأنت أرحم بعبادك مني، ولكني أريد ما يطمئن به قلبي، وتسكن له نفسي، ويجري في موازيني ثوابه.
ولما ذكر هؤلاء الأنبياء والمرسلين، كلا على انفراده، أثنى عليهم عموما فقال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} أي: يبادرون إليها ويفعلونها في أوقاتها الفاضلة، ويكملونها على الوجه اللائق الذي ينبغي ولا يتركون فضيلة يقدرون عليها، إلا انتهزوا الفرصة فيها، {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} أي: يسألوننا الأمور المرغوب فيها، من مصالح الدنيا والآخرة، ويتعوذون بنا من الأمور المرهوب منها، من مضار الدارين، وهم راغبون راهبون لا غافلون، لاهون ولا مدلون، {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} أي: خاضعين متذللين متضرعين، وهذا لكمال معرفتهم بربهم.
تنبيه معنى (ولا مدلون) التي ذكرها السعدي:
قال ابوعبيد في الغريبين في مادة دلل:
قال شمر: الدل والدلال: حسن الحديث وحسن الهيئة قال: ويقال: هي تدل عليه أي تجترئ، يقال: ما دلك على فلان أي ما جرأك، وقال الليث: تدلات المراة على زوجها وذلك أن تزيد جرأة عليه في تفنج وشكل كأنها تخالفه وليس بها خلاف، والدالة: ممن يدل على من له عبد مغير له شبه جرأة منه،
والسمت: أيضًا حسن الهيئة، ويقال: لفلان عليك دالة وتدلل وإدلال ومدل بصحبته عليك إدلالًا، ودالة أي مجترئ، قاله أبو الهيثم.
وفي معجم اللغة:
(1836) – د ل ل
أدلَّ بـ/ أدلَّ على يُدِلّ، أدْلِلْ/ أدِلَّ، إدْلالًا، فهو مُدِلّ، والمفعول مُدَلّ به
• أدلَّ الشَّخصُ بكذا: افتَخر به، ازْدَهى به «أدلَّ بشجاعته أو بفضله- أدلّ بحسبه ونسبه».
• أدلَّ على فلانٍ: وثِقَ بمحبَّته فتجرَّأ عليه، عامله بلا تكلُّف «أدلّ فأمَلّ [مثل]: أظهر من الدَّلال ما أدّى إلى الضَّجر والملل».
معجم اللغة العربية المعاصرة (1) / (763)
في نضرة النعيم:
الفرق بين العجب والإدلال:
الإدلال وراء العجب، فلا مدل إلا وهو معجب، ورب معجب لا يدل، إذ العجب يحصل بالاستعظام ونسيان النعمة دون توقع جزاء عليه، والإدلال لا يتم إلا مع توقع جزاء، فإن توقع إنسان إجابة دعوته، واستنكر ردها بباطنه وتعجب منه كان مدلا بعمله، لأنه لا يتعجب من رد دعاء الفاسق، ويتعجب من رد دعاء نفسه، وكلاهما أي العجب والإدلال من مقدمات الكبر وأسبابه.