بيان الوسيلة في آيات القرآن الكريمة
جمع سيف بن دوره الكعبي
سورة الأعراف:
قال تعالى (وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (47) سورة الأعراف
قال ابن كثير:
وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} قَالَ الضَّحَّاكُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ أَصْحَابَ الْأَعْرَافِ إِذَا نَظَرُوا إِلَى أَهْلِ النَّارِ وَعَرَفُوهُمْ ((32)) قَالُوا: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
وَقَالَ السُّدِّي: وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ -يَعْنِي بِأَصْحَابِ الْأَعْرَافِ -بِزُمْرَةٍ يُذهب بِهَا إِلَى النَّارِ قَالُوا: {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: تُحَدَّدُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ، فَإِذَا رَأَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ ذَهَبَ ذَلِكَ عَنْهُمْ.
قال القرطبي: (رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) سَأَلُوا اللَّهَ أَلَّا يَجْعَلَهُمْ مَعَهُمْ، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا يَجْعَلُهُمْ مَعَهُمْ. فَهَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّذَلُّلِ، كَمَا يَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ:” رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا ” وَيَقُولُونَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. عَلَى سَبِيلِ الشُّكْرِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ لَذَّةٌ.
وذكر اثنا عشر قولا في معنى أصحاب الأعراف
قال ابو السعود:
{وَإذا صُرِفَتْ أبْصارُهم تِلْقاءَ أصْحابِ النّارِ}؛ أيْ: إلى جِهَتِهِمْ، وفي عَدَمِ التَّعَرُّضِ لِتَعَلُّقِ أنْظارِهِمْ بِأصْحابِ الجَنَّةِ، والتَّعْبِيرِ عَنْ تَعَلُّقِ أبْصارِهِمْ بِأصْحابِ النّارِ بِالصَّرْفِ، إشْعارٌ بِأنَّ التَّعَلُّقَ الأوَّلَ بِطَرِيقِ الرَّغْبَةِ، والمِيلَ الثّانِي بِخِلافِهِ.
{قالُوا} مُتَعَوِّذِينَ بِاللَّهِ تَعالى مِن سُوءِ حالِهِمْ.
{رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ القَوْمِ الظّالِمِينَ}؛ أيْ: في النّارِ، وفي وصْفِهِمْ بِالظُّلْمِ دُونَ ما هم عَلَيْهِ حِينَئِذٍ مِنَ العَذابِ، وسُوءِ الحالِ الَّذِي هو المُوجِبُ لِلدُّعاءِ، إشْعارٌ بِأنَّ المَحْذُورَ عِنْدَهم لَيْسَ نَفْيَ العَذابِ فَقَطْ، بَلْ مَعَ ما يُوجِبُهُ ويُؤَدِّي إلَيْهِ مِنَ الظُّلْمِ.
ونقل القاسمي والألوسي المعنى الأخير عن أبي السعود
قال البقاعي:
ولَمّا تَقَدَّمَ كَلامُهم لِأهْلِ الجَنَّةِ بِالسَّلامِ – أخْبَرَ أنَّهم يُكَلِّمُونَ أهْلَ النّارِ بِالتَّوْبِيخِ والمَلامِ، فَقالَ: {ونادى} وأظْهَرَ الفاعِلَ لِئَلّا يُلْبَسَ بِأهْلِ الجَنَّةِ، فَقالَ {أصْحابُ الأعْرافِ} أيْ: الحالُ صَرْفُ وُجُوهِهِمْ إلى جِهَةِ أهْلِ النّارِ {رِجالا} أيْ: مِن أهْلِ النّارِ {يَعْرِفُونَهُمْ} أيْ: بِأعْيانِهِمْ، وأمّا مَعْرِفَتُهم إجْمالًا فَتَقَدَّمَ، وإنَّما قالَ هُنا: {بِسِيماهُمْ} لِأنَّ النّارَ قَدْ أكَلَتْهم وغَيَّرَتْ مَعالِمَهم مَعَ تَغَيُّرِهِمْ بِالسِّمَنِ وسَوادِ الوُجُوهِ وعِظَمِ الجُثَثِ ونَحْوِهِ {قالُوا} نَفْيًا أوْ اسْتِفْهامًا تَوْبِيخًا وتَقْرِيعًا {ما أغْنى عَنْكم جَمْعُكُمْ} أيْ: لِلْمالِ والرِّجالِ {وما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} أيْ: تُجَدِّدُونَ بِهِما هَذِهِ الصِّفَةَ وتُوجِدُونَها دائِمًا في الدُّنْيا زاعِمِينَ أنَّهُ لا غالِبَ لَكم.
قال ابوحيان:
والضَّمِيرُ في أبْصارِهِمْ عائِدٌ عَلى رِجالِ الأعْرافِ يُسَلِّمُونَ عَلى أهْلِ الجَنَّةِ وإذا نَظَرُوا إلى أهْلِ النّارِ دَعَوُا اللَّهَ في التَّخَلُّصِ مِنها. قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وجَماعَةٌ، وقالَ أبُو مِجْلَزٍ: الضَّمِيرُ لِأهْلِ الجَنَّةِ وهم لَمْ يَدْخُلُوها بَعْدُ، وفي قَوْلِهِ: {صُرِفَتْ} دَلِيلٌ أنَّ أكْثَرَ أحْوالِهِمُ النَّظَرُ إلى تِلْقاءِ أصْحابِ الجَنَّةِ، وأنَّ نَظَرَهم إلى أصْحابِ النّارِ هو بِكَوْنِهِمْ صُرِفَتْ أبْصارُهم تِلْقاءَهم، فَلَيْسَ الصَّرْفُ مِن قِبَلِهِمْ، بَلْ هم مَحْمُولُونَ عَلَيْهِ مَفْعُولٌ بِهِمْ ذَلِكَ؛ لِأنَّ ذَلِكَ المُطَّلَعَ مَخُوفٌ مِن سَماعِهِ فَضْلًا عَنْ رُؤْيَتِهِ فَضَلًا عَنِ التَّلَبُّسِ بِهِ، والمَعْنى: أنَّهم إذا حُمِلُوا عَلى صَرْفِ أبْصارِهِمْ ورَأوْا ما هم عَلَيْهِ
مِنَ العَذابِ اسْتَغاثُوا بِرَبِّهِمْ مِن أنْ يَجْعَلَهم مَعَهم، ولَفْظَةُ (رَبَّنا) مُشْعِرَةٌ بِوَصْفِهِ تَعالى بِأنَّهُ مُصْلِحُهم وسَيِّدُهم وهم عَبِيدٌ، فَبِالدُّعاءِ بِهِ طَلَبُ رَحْمَتِهِ واسْتِعْطافُ كَرَمِهِ.
قال الواحدي:
وإخباره أن أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة وهم يطمعون
قال حذيفة: (ولم يكن الله ليخيب طمعهم).
وروي عن الحسن أنه قال: (هذا طمع اليقين، كقول إبراهيم عليه السلام: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي} [الشعراء: 82])
قال السعدي:
فأهل الجنة [إذا رآهم أهل الأعراف] يطمعون أن يكونوا معهم في الجنة، ويحيونهم ويسلمون عليهم، وعند انصراف أبصارهم بغير اختيارهم لأهل النار، يستجيرون بالله من حالهم هذا على وجه العموم.