بيان الوسيلة في آيات القرآن الكريمة
جمع سيف بن دورة الكعبي
قال تعالى:
رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)
وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ (84)
وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85)
وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86)
وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) سورة الشعراء
التوسل إلى الله بإظهار التواضع فلم يقل اجعلني رأس الصالحين إنما طلب الالحاق بهم. وقدم الثناء لربه قبل الدعاء.
قال الطبري:
فربي هذا الذي بيده نفعي وضري، وله القدرة والسلطان، وله الدنيا والآخرة، لا الذي لا يسمع إذا دعي، ولا ينفع ولا يضر. وإنما كان هذا الكلام من إبراهيم احتجاجا على قومه في أنه لا تصلح الألوهة، ولا ينبغي أن تكون العبودة إلا لمن يفعل هذه الأفعال، لا لمن لا يطيق نفعا ولا ضرا. [الطبري: (19) / (363)]
قال ابن كثير:
وهذا سؤال من إبراهيم، عليه السلام، أن يؤتيه ربه حكما.
قال ابن عباس: وهو العلم. وقال عكرمة: هو اللب. وقال مجاهد: هو القرآن. وقال السدي: هو النبوة. وقوله: (وألحقني بالصالحين) أي: اجعلني مع الصالحين في الدنيا والآخرة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عند الاحتضار: ” [اللهم الرفيق الأعلى ” قالها ثلاثا. وفي الحديث في الدعاء]: اللهم أحينا مسلمين وأمتنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مبدلين “.
وَقَوْلُهُ: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} أَيْ: وَاجْعَلْ لِي ذِكْرًا جَمِيلًا بَعْدِي أذكرَ بِهِ، وَيُقْتَدَى بِي فِي الْخَيْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ. سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصَّافَّاتِ: (108) – (110)].
قَالَ مُجَاهِدٌ، وَقَتَادَةُ: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} يَعْنِي: الثَّنَاءَ الْحَسَنَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [الْعَنْكَبُوتِ: (27)]، وَكَقَوْلِهِ: {وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} [النَّحْلِ: (122)].
قَالَ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ: كُلُّ مِلَّةٍ تُحِبُّهُ وَتَتَوَلَّاهُ. وَكَذَا قَالَ عِكْرِمَةُ. * * *
وَقَوْلُهُ: {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} أَيْ: أَنْعِمْ عَليَّ فِي الدُّنْيَا بِبَقَاءِ الذِّكْرِ الْجَمِيلِ بَعْدِي، وَفِي الْآخِرَةِ بِأَنْ تَجْعَلَنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ. * * *
وَقَوْلُهُ: {وَاغْفِرْ لأبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} كَقَوْلِهِ: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [إِبْرَاهِيمَ: (41)]، وَهَذَا مِمَّا رجَعَ عَنْهُ إِبْرَاهِيمُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ
{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة: (114)] …..
وَقَوْلُهُ: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ} أَيْ: لَا يَقِي الْمَرْءَ ((23)) مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مَالُهُ، وَلَوِ افْتَدَى بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا: {وَلا بَنُونَ} وَلَوِ افْتَدَى بِمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا، وَلَا ينفعُ يَوْمئِذٍ إِلَّا الإيمانُ بِاللَّهِ، وَإِخْلَاصُ الدِّينِ لَهُ، وَالتَّبَرِّي مِنَ الشِّرْكِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: {إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} أَيْ: سَالِمٍ مِنَ الدَّنَسِ وَالشَّرْكِ.
قال الشوكاني:
وإنَّما قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ {والَّذِي أطْمَعُ أنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} هَضْمًا لِنَفْسِهِ، وقِيلَ: إنَّ الطَّمَعَ هُنا بِمَعْنى اليَقِينِ في حَقِّهِ، وبِمَعْنى الرَّجاءِ في حَقِّ سِواهُ.
ثُمَّ لَمّا فَرَغَ الخَلِيلُ مِنَ الثَّناءِ عَلى رَبِّهِ والِاعْتِرافِ بِنِعَمِهِ عَقَّبَهُ بِالدُّعاءِ لِيَقْتَدِيَ بِهِ غَيْرُهُ في ذَلِكَ.
فَقالَ: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا} والمُرادُ بِالحُكْمِ العِلْمُ والفَهْمُ، وقِيلَ: النُّبُوَّةُ والرِّسالَةُ، وقِيلَ: المَعْرِفَةُ بِحُدُودِ اللَّهِ وأحْكامِهِ إلى آخِرِهِ {وألْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ} يَعْنِي بِالنَّبِيِّينَ مِن قَبْلِي، وقِيلَ: بِأهْلِ الجَنَّةِ.
{واجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ في الآخِرِينَ} أيِ: اجْعَلْ لِي ثَناءً حَسَنًا في الآخِرِينَ الَّذِينَ يَاتُونَ بَعْدِي إلى يَوْمِ القِيامَةِ. انتهى
يقصد بالثناء على ربه: قَالَ أَفَرَءَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ ? (75) أَنتُمْ وَآبَا ؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ ? (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوّ? لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ? (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ? (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ? (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ? (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ? (81)
قال الآلوسي:
{رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا} لَمّا ذَكَرَ لَهم مِن صِفاتِهِ – عَزَّ وجَلَّ – مِمّا يَدُلُّ عَلى كَمالِ لُطْفِهِ تَعالى بِهِ ما ذَكَرَ حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلى مُناجاتِهِ تَعالى ودُعائِهِ لِرَبْطِ العَتِيدِ وجَلْبِ المَزِيدِ.
والأوْلى عِنْدِي أنْ يُفَسَّرَ الحُكْمُ بِالحِكْمَةِ بِمَعْنى الكَمالِ في العِلْمِ والعَمَلِ، والإلْحاقُ بِالصّالِحِينَ بِجَعْلِ مَنزِلَتِهِ كَمَنزِلَتِهِمْ عِنْدَهُ – عَزَّ وجَلَّ – والمُرادُ بِطَلَبِ ذَلِكَ أنْ يَكُونَ عِلْمُهُ وعَمَلُهُ مَقْبُولِينَ؛ إذْ ما لَمْ يُقْبَلا لا يُلْحَقُ صاحِبُهُما بِالصّالِحِينَ، ولا تُجْعَلُ مَنزِلَتُهُ كَمَنزِلَتِهِمْ، وكَأنَّهُ لِذَلِكَ عَدَلَ عَنْ قَوْلِ: (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وصَلاحًا) أوْ (رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا واجْعَلْنِي مِنَ الصّالِحِينَ) إلى ما في النَّظْمِ الكَرِيمِ، فَتَأمَّلْ ولا تَغْفُلْ. انتهى
قال السعدي:
ثم دعا عليه السلام ربه فقال: رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا أي: علما كثيرا, أعرف به الأحكام, والحلال والحرام, وأحكم به بين الأنام، وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ من إخوانه الأنبياء والمرسلين