بيان الوسيلة في آيات القرآن الكريمة
جمع سيف بن دورة الكعبي
————-
سورة الفرقان:
قال تعالى
وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) سورة الفرقان
التوسل بالاعتراف بالتقصير
مع الصفات التي اتصفوا بها فقد جاءت هذه الآية مع آيات أخرى في صفات عباد الله المؤمنين
وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْن?ا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا? سَلَام?ا ? (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّد?ا وَقِيَام?ا ? (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ? (65) إِنَّهَا سَا ءَتْ مُسْتَقَرّ?ا وَمُقَام?ا ? (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا? لَمْ يُسْرِفُوا? وَلَمْ يَقْتُرُوا? وَكَانَ بَيْنَ ذَ ا?لِكَ قَوَام?ا ? (67)} [الفرقان (63) – (67)]
قال القرطبي: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ} أَيْ هُمْ مَعَ طَاعَتِهِمْ مُشْفِقُونَ خَائِفُونَ وَجِلُونَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ. ابْنُ عَبَّاسٍ: يَقُولُونَ ذَلِكَ فِي سُجُودِهِمْ وَقِيَامِهِمْ.
(إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) أَيْ لَازِمًا دَائِمًا غَيْرَ مُفَارِقٍ. وَمِنْهُ سُمِّيَ الْغَرِيمُ لِمُلَازَمَتِهِ. وَيُقَالُ: فُلَانٌ مُغْرَمٌ بِكَذَا أَيْ لَازِمٌ لَهُ مُولَعٌ بِهِ
وَهَذَا مَعْنَاهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ وَابْنُ عَرَفَةَ وَغَيْرُهُمَا. وَقَالَ الْأَعْشَى:
إِنْ يُعَاقِبْ يَكُنْ غَرَامًا وَإِنْ … يُعْطِ جَزِيلًا فَإِنَّهُ لَا يُبَالِي
وَقَالَ الْحَسَنُ: قَدْ عَلِمُوا أَنَّ كُلَّ غَرِيمٍ يُفَارِقُ غَرِيمَهُ إِلَّا غَرِيمَ جَهَنَّمَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْغَرَامُ أَشَدُّ الْعَذَابِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْغَرَامُ الشَّرُّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْهَلَاكُ. وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: طَالَبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِثَمَنِ النَّعِيمِ فِي الدُّنْيَا فَلَمْ يَاتُوا بِهِ، فَأَغْرَمَهُمْ ثَمَنَهَا بِإِدْخَالِهِمُ النَّارَ.
(إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) أَيْ بِئْسَ الْمُسْتَقَرُّ وَبِئْسَ الْمُقَامُ أَيْ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ عَنْ عِلْمٍ، وَإِذَا قَالُوهُ عَنْ عِلْمٍ كَانُوا أَعْرَفَ بِعِظَمِ قَدْرِ مَا يَطْلُبُونَ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَقْرَبَ إلى النجح.
قال البقاعي:
ولَمّا ذَكَرَ تَهْذِيبَهم لِأنْفُسِهِمْ لِلْخَلْقِ والخالِقِ، أشارَ إلى أنَّهُ لا إعْجابَ عِنْدَهُمْ، بَلْ هم وجِلُونَ، وأنَّ الحامِلَ لَهم عَلى ذَلِكَ الإيمانُ بِالآخِرَةِ الَّتِي كَذَّبَ بِها الجاهِلُونَ {يُؤْتُونَ ما آتَوْا وقُلُوبُهم وجِلَةٌ أنَّهم إلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ} [المؤمنون: (60)] وقَدَّمُوا الدُّعاءَ بِالنَّجاةِ اهْتِمامًا بِدَرْءِ المَفْسَدَةِ، وإشْعارًا بِأنَّهم مُسْتَحِقُّونَ لِذَلِكَ وإنِ اجْتَهَدُوا، لِتَقْصِيرِهِمْ عَنْ أنْ يُقَدِّرُوهُ سُبْحانَهُ حَقَّ قَدْرِهِ
قال القاسمي:
{والَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا اصْرِفْ عَنّا عَذابَ جَهَنَّمَ إنَّ عَذابَها كانَ غَرامًا} أيْ: هَلاكًا دائِمًا. والمُرادُ مِن قَوْلِهِمْ ذَلِكَ، فَزَعُهم مِنها، ووَجَلُهُمُ الشَّدِيدُ المُسْتَتْبِعُ لِتَمَسُّكِهِمْ بِالتَّقْوى، واعْتِصامُهم بِالسَّبَبِ الأقْوى. لا مُجَرَّدَ قَلْقَلَةِ اللِّسانِ، بِلا تَأثُّرٍ مِنَ الجِنانِ. فَإنَّهم لَمْ يَبْتَهِلُوا إلى المَوْلى، ويَتَعَوَّذُوا بِهِ مِن سَعِيرِها، إلّا لِعِلْمِهِمْ بِسُوءِ حالِها. ومُقْتَضى العِلْمِ بِالشَّيْءِ إيفاؤُهُ حَقَّهُ والعَمَلُ بِمُوجِبِهِ. ولِذا قالَ تَعالى: {إنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا ومُقامًا} [الفرقان: (66)] أيْ: مَوْضِعَ اسْتِقْرارٍ وإقامَةٍ.
قال الآلوسي وذكر قريبا مما ذكره البقاعي، ثم قال:
، والظّاهِرُ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: {إنَّ عَذابَها} إلَخْ، مِن كَلامِ الدّاعِينَ، وهو تَعْلِيلٌ لِاسْتِدْعائِهِمُ المَذْكُورِ بِسُوءِ حالِ عَذابِها. انتهى
وبعض أهل التفسير قال إنه من قول الله تعالى
قال السعدي:
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ} أي: ادفعه عنا بالعصمة من أسبابه ومغفرة ما وقع منا مما هو مقتض للعذاب. {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} أي: ملازما لأهلها بمنزلة ملازمة الغريم لغريمه
جاء في التفسير الوسيط:
وكأنهم على كمال صفاتهم غارقون في المعاصي والآثام، ولا يخفى أهمية الاستعاذة من النار، حيث صدَّروا استعاذتهم بها، لأنها أشد شراً توعد الله به، وفي هذه الدعوات بيان أن الداعي يحسن له أن يذكر سبب ما يدعوه. وأهمية هذا الدعاء أن الله ذكره لناس أثنى عليهم، وأضافهم إلى نفسه في كتاب يُتلى إلى يوم القيامة، وجاء بصيغة الفعل المضارع، الذي يدل على كثرة سؤالهم به، ومداومتهم عليه، وينبغي للداعي أن يجمع في دعائه بين الخوف والرجاء، وأن ذلك أرجى في القبول.