بيان الوسيلة في آيات القرآن الكريمة
جمع سيف بن دورة الكعبي
———–
قال تعالى
رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) سورة المؤمنين
قال ابن تيمية:
وأمّا الرُّسُلُ فَقَدْ تَبَيَّنَ أنَّهُمْ هُمْ الوَسائِطُ بَيْنَنا وبَيْنَ اللَّهِ فِي أمْرِهِ ونَهْيِهِ ووَعْدِهِ ووَعِيدِهِ وخَبَرِهِ فَعَلَيْنا أنْ نُصَدِّقَهُمْ فِي كُلِّ ما أخْبَرُوا بِهِ ونُطِيعَهُمْ فِيما أوْجَبُوا وأمَرُوا وعَلَيْنا أنْ نُصَدِّقَ بِجَمِيعِ أنْبِياءِ اللَّهِ؛ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنهُمْ ومَن سَبَّ واحِدًا مِنهُمْ كانَ كافِرًا مُرْتَدًّا مُباحَ الدَّمِ. وإذا تَكَلَّمْنا فِيما يَسْتَحِقُّهُ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالى مِن التَّوْحِيدِ بَيَّنا أنَّ الأنْبِياءَ وغَيْرَهُمْ مِن المَخْلُوقِينَ لا يَسْتَحِقُّونَ ما يَسْتَحِقُّهُ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالى مِن خَصائِصَ: فَلا يُشْرَكُ بِهِمْ ولا يُتَوَكَّلُ عَلَيْهِمْ ولا يُسْتَغاثُ بِهِمْ كَما يُسْتَغاثُ بِاَللَّهِ ولا يُقْسَمُ عَلى اللَّهِ بِهِمْ ولا يُتَوَسَّلُ بِذَواتِهِمْ وإنَّما يُتَوَسَّلُ بِالإيمانِ بِهِمْ وبِمَحَبَّتِهِمْ وطاعَتِهِمْ ومُوالاتِهِمْ وتَعْزِيرِهِمْ وتَوْقِيرِهِمْ ومُعاداةِ مَن عاداهُمْ وطاعَتِهِمْ فِيما أمَرُوا وتَصْدِيقِهِمْ فِيما أخْبَرُوا وتَحْلِيلِ ما حَلَّلُوهُ وتَحْرِيمِ ما حَرَّمُوهُ.
والتَّوَسُّلُ بِذَلِكَ عَلى وجْهَيْنِ:
أحَدُهُما: أنْ يَتَوَسَّلَ بِذَلِكَ إلى إجابَةِ الدُّعاءِ وإعْطاءِ السُّؤالِ كَحَدِيثِ الثَّلاثَةِ الَّذِينَ أوَوْا إلى الغارِ فَإنَّهُمْ تَوَسَّلُوا بِأعْمالِهِمْ الصّالِحَةِ لِيُجِيبَ دُعاءَهُمْ ويُفَرِّجَ كَرْبَتَهُمْ وقَدْ تَقَدَّمَ بَيانُ ذَلِكَ.
والثّانِي: التَّوَسُّلُ بِذَلِكَ إلى حُصُولِ ثَوابِ اللَّهِ وجَنَّتِهِ ورِضْوانِهِ فَإنَّ الأعْمالَ الصّالِحَةَ الَّتِي أمَرَ بِها الرَّسُولُ ? هِيَ الوَسِيلَةُ التّامَّةُ إلى سَعادَةِ الدُّنْيا والآخِرَةِ ومِثْلُ هَذا كَقَوْلِ المُؤْمِنِينَ: {رَبَّنا إنّنا سَمِعْنا مُنادِيًا يُنادِي لِلْإيمانِ أنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنّا رَبَّنا فاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وكَفِّرْ عَنّا سَيِّئاتِنا وتَوَفَّنا مَعَ الأبْرارِ} فَإنَّهُمْ قَدَّمُوا ذِكْرَ الإيمانِ قَبْلَ الدُّعاءِ ومِثْلُ ذَلِكَ ما حَكاهُ اللَّهُ سُبْحانَهُ عَنْ المُؤْمِنِينَ فِي قَوْله تَعالى {إنّهُ كانَ فَرِيقٌ مِن عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنّا فاغْفِرْ لَنا وارْحَمْنا وأنْتَ خَيْرُ الرّاحِمِينَ} وأمْثالُ ذَلِكَ كَثِيرٌ.
مجموع الفتاوى 1/ 309
قال البقاعي:
ولَمّا كانَتِ الشَّماتَةُ أسَرَّ السُّرُورِ لِلشّامِتِ وأخْزى الخِزْيِ لِلْمَشْمُوتِ بِهِ، عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {إنَّهُ كانَ} أيْ كَوْنًا ثابِتًا {فَرِيقٌ} أيْ ناسٌ اسْتَضْعَفْتُمُوهم فَهانَ عَلَيْكم فِراقُهم لَكم وفِراقُكم لَهم وظَنَنْتُمْ أنَّكم تُفَرِّقُونَ شَمْلَهم {مِن عِبادِي} أيِ الَّذِينَ هم أهْلٌ لِلْإضافَةِ إلى جَنابَيْ لِخُلُوصِهِمْ عَنِ الأهْواءِ {يَقُولُونَ} مَعَ الِاسْتِمْرارِ: {رَبَّنا} أيُّها المُحْسِنُ إلَيْنا بِالخَلْقِ والرِّزْقِ {آمَنّا} أيْ أوْقَعْنا الإيمانَ بِجَمِيعِ ما جاءَتْنا بِهِ الرُّسُلُ لِوُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيْنا لِأمْرِكَ لَنا بِهِ.
ولَمّا كانَ عِظَمُ المَقامِ مُوجِبًا لِتَقْصِيرِ العابِدِ، وكانَ الِاعْتِرافُ بِالتَّقْصِيرِ جابِرًا لَهُ قالُوا: {فاغْفِرْ لَنا} أيِ اسْتُرْ بِسَبَبِ إيمانِنا عُيُوبَنا الَّتِي كانَ تَقْصِيرُنا بِها
ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: فَأنْتَ خَيْرُ الغافِرِينَ، فَإنَّكَ إذا سَتَرْتَ ذَنْبًا أنْسَيْتَهُ لِكُلِّ أحَدٍ حَتّى لِلْحَفَظَةِ، عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: {وأنْتَ خَيْرُ الرّاحِمِينَ} لِأنَّكَ تُخَلِّصُ مَن رَحِمْتَهُ مِن كُلِّ شَقاءٍ وهَوانٍ، بِإخْلاصِ الإيمانِ، والخَلاصِ مَن كُلِّ كُفْرانٍ
قال السعدي:
فجمعوا بين الإيمان المقتضي لأعماله الصالحة، والدعاء لربهم بالمغفرة والرحمة، والتوسل إليه بربوبيته، ومنته عليهم بالإيمان، والإخبار بسعة رحمته، وعموم إحسانه، وفي ضمنه، ما يدل على خضوعهم وخشوعهم، وانكسارهم لربهم، وخوفهم ورجائهم