بيان الوسيلة في آيات القرآن الكريمة
سورة المائدة الآية 25: قال تعالى:
(قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ)
[سورة المائدة 25]
توسل بضعفهم وقلتهم والبراءة من الشرك وأهله.
قال ابن جزي:
{لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي} قاله موسى عليه السلام؛ ليتبرأ إلى الله من قول بني إسرائيل، ويبذل جهده في طاعة الله ويعتذر إلى الله. وإعراب أخي عطف على نفسي لأنه أخاه هارون كان يطيعه، وقيل: عطف على الضمير في لا أملك: أي لا أملك أنا إلا نفسي ولا يملك أخي إلا نفسه، وقيل: مبتدأ، وخبره محذوف أي أخي لا يملك إلا نفسه {فَافْرُقْ بَيْنَنَا} أي فارق بيننا وبينهم فهو من الفرقة، وقيل: افصل بيننا وبينهم بحكم.
قال أبوحيان:
{قالَ رَبِّ إنِّي لا أمْلِكُ إلّا نَفْسِي وأخِي} لَمّا عَصَوْا أمْرَ اللَّهِ وتَمَرَّدُوا عَلى مُوسى وسَمِعَ مِنهم ما سَمِعَ مِن كَلِمَةِ الكُفْرِ وسُوءِ الأدَبِ مَعَ اللَّهِ ولَمْ يَبْقَ مَعَهُ مَن يَثِقُ بِهِ إلّا هارُونَ قالَ ذَلِكَ، وهَذا مِنَ الكَلامِ المُنْطَوِي صاحِبُهُ عَلى الِالتِجاءِ إلى اللَّهِ والشَّكْوى إلَيْهِ ورِقَّةِ القَلْبِ الَّتِي تَسْتَجْلِبُ الرَّحْمَةَ وتَسْتَنْزِلُ النُّصْرَةَ، ونَحْوُهُ قَوْلُ يَعْقُوبَ: {إنَّما أشْكُو بَثِّي وحُزْنِي إلى اللَّهِ} [يوسف: (86)]
قال الآلوسي:
{قالَ} مُوسى – عَلَيْهِ السَّلامُ – لَمّا رَأى مِنهم ما رَأى مِنَ العِنادِ عَلى طَرِيقِ البَثِّ والحُزْنِ والشَّكْوى إلى اللَّهِ تَعالى مَعَ رِقَّةِ القَلْبِ الَّتِي بِمِثْلِها تُسْتَجْلَبُ الرَّحْمَةُ، وتُسْتَنْزَلُ النُّصْرَةُ، فَلَيْسَ القَصْدُ إلى الإخْبارِ، وكَذا كُلُّ خَبَرٍ يُخاطَبُ بِهِ عَلّامُ الغُيُوبِ يُقْصَدُ بِهِ مَعْنًى سِوى إفادَةِ الحُكْمِ أوْ لازِمِهِ، فَلَيْسَ قَوْلُهُ رَدًّا لِما أمَرَ اللَّهُ تَعالى بِهِ، ولا اعْتِذارًا عَنْ عَدَمِ الدُّخُولِ {رَبِّ إنِّي لا أمْلِكُ إلا نَفْسِي وأخِي} هارُونَ – عَلَيْهِ السَّلامُ – وهو عَطْفٌ عَلى (نَفْسِي) أيْ: لا يُجِيبُنِي إلى طاعَتِكَ، ويُوافِقُنِي عَلى تَنْفِيذِ أمْرِكَ سِوى نَفْسِي وأخِي، ولَمْ يَذْكُرِ الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ أنْعَمَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِما – وإنْ كانا يُوافِقانِهِ إذا دَعا – لِما رَأى مِن تَلَوُّنِ القَوْمِ، وتَقَلُّبِ آرائِهِمْ، فَكَأنَّهُ لم يَثِقُ بِهِما، ولَمْ يَعْتَمِدْ عَلَيْهِما.
وقِيلَ: لَيْسَ القَصْدُ إلى القَصْرِ، بَلْ إلى بَيانِ قِلَّةِ مَن يُوافِقُهُ، تَشْبِيهًا لِحالِهِ بِحالِ مَن لا يَمْلِكُ إلّا نَفْسَهُ وأخاهُ
معنى (فافرق)
قال ابن عطية:
وقَوْلُهُ: “فافْرُقْ بَيْنَنا”؛ دُعاءُ حَرَجٍ؛ قالَ السُدِّيُّ: هي عَجَلَةٌ عَجِلَها مُوسى – عَلَيْهِ السَلامُ -؛ وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ؛ والضَحّاكُ؛ وغَيْرُهُما: اَلْمَعْنى: “اِفْصِلْ بَيْنَنا وبَيْنَهم بِحُكْمٍ؛ وافْتَحْ”؛ فالمَعْنى: “اُحْكم بِحُكْمٍ يُفَرِّقُ هَذا الِاخْتِلافَ؛ ويَلُمُّ الشَعَثَ”.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ – رَحِمَهُ اللهُ -: وعَلى هَذا التَاوِيلِ فَلَيْسَ في الدُعاءِ عَجَلَةٌ؛ وقالَ قَوْمٌ: اَلْمَعْنى: “فافْرُقْ بَيْنَنا وبَيْنَهم في الآخِرَةِ؛ حَتّى تَكُونَ مَنزِلَةُ المُطِيعِ مُفارِقَةً لِمَنزِلَةِ العاصِي الفاسِقِ”؛ ويَحْتَمِلُ الدُعاءُ أنْ يَكُونَ مَعْناهُ: “فُرِّقَ بَيْنَنا وبَيْنَهُمْ”؛ بِمَعْنى أنْ يَقُولَ: “فَقَدْنا وُجُوهَهُمْ؛ وفُرِّقَ بَيْنَنا وبَيْنَهم حَتّى لا نَشْقى بِفِسْقِهِمْ”؛ وبِهَذا الوَجْهِ تَجِيءُ العَجَلَةُ في الدُعاءِ؛ وقَرَأ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: “فافْرِقْ” بِكَسْرِ الراءِ.
قال ابن عاشور:
ومَعْنى {فافْرُقْ بَيْنَنا وبَيْنَ القَوْمِ الفاسِقِينَ} أنْ لا تُؤاخِذَنا بِجُرْمِهِمْ، لِأنَّهُ خَشِيَ أنْ يُصِيبَهم عَذابٌ في الدُّنْيا فَيُهْلِكَ الجَمِيعَ فَطَلَبَ النَّجاةَ، ولا يَصِحُّ أنْ يُرِيدَ الفَرْقَ بَيْنَهم في الآخِرَةِ، لِأنَّهُ مَعْلُومٌ أنَّ اللَّهَ لا يُؤاخِذُ البَرِيءَ بِذَنْبِ المُجْرِمِ، ولِأنَّ بَراءَةَ مُوسى وأخِيهِ مِنَ الرِّضا بِما فَعَلَهُ قَوْمُهم أمْرٌ يَعْلَمُهُ اللَّهُ، ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِالفَرْقِ بَيْنَهُمُ الحُكْمُ بَيْنَهم وإيقافُ الضّالِّينَ عَلى غَلَطِهِمْ.
قال القرطبي في تفسيره قوله تعالى:” قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض” استجاب الله دعاءه وعاقبهم في التيه أربعين سنة