(٢٦٣٨) فتح ذي النعم بالبدر الأتم شرح صحيح مسلم
شارك محمد البلوشي وأبوعيسى عبدالله البلوشي ، وطارق أبي تيسير وعبدالملك وأحمد بن علي
بالتعاون مع مجموعات السلام 1، 2، 3 والاستفادة والمدارسة
بإشراف سيف بن محمد بن دورة الكعبي
(بحوث شرعية يبحثها طلاب علم إمارتيون بالتعاون مع إخوانهم من بلاد شتى ، نسأل الله أن تكون في ميزان حسنات مؤسس دولة الإمارات زايد الخير آل نهيان صاحب الأيادي البيضاء رحمه الله ورفع درجته في عليين ووالديهم ووالدينا وأن يبارك في ذرياتهم وذرياتنا )
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
——-‘——-‘——–‘
صحيح مسلم
٤٩ – بابُ: الأرْواحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ.
١٥٩ – (٢٦٣٨) حَدَّثَنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنا عَبْدُ العَزِيزِ يَعْنِي ابْنَ مُحَمَّدٍ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، أنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ، قالَ: «الأرْواحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَما تَعارَفَ مِنها ائْتَلَفَ، وما تَناكَرَ مِنها اخْتَلَفَ».
١٦٠ – (٢٦٣٨) حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنا كَثِيرُ بْنُ هِشامٍ، حَدَّثَنا جَعْفَرُ بْنُ بُرْقانَ، حَدَّثَنا يَزِيدُ بْنُ الأصَمِّ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، بِحَدِيثٍ يَرْفَعُهُ، قالَ: «النّاسُ مَعادِنُ كَمَعادِنِ الفِضَّةِ والذَّهَبِ، خِيارُهُمْ فِي الجاهِلِيَّةِ خِيارُهُمْ فِي الإسْلامِ إذا فَقُهُوا، والأرْواحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَما تَعارَفَ مِنها ائْتَلَفَ، وما تَناكَرَ مِنها اخْتَلَفَ».
==========
التمهيد:
“المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل وإن الطيور على أشكالها تقع
فالصالحون يتعارفون ويتعاونون ويتماسكون ويتجالسون ويتحابون وتعارفهم يدوم لأنه لله وفي طاعة الله وما كان لله دام واتصل تعارفهم ليس لفائدة دنيوية ينتهي بانتهائها وليس لغاية شخصية نفعية دنيوية يزول بالحصول عليها أو باليأس من حصولها وإنما تعارفهم على الطاعة الإلهية وعلى أن يبقى هذا التعارف ليوم القيامة يوم تراهم على سرر متقابلين يقبل بعضهم على بعض يتساءلون عن المجرمين فالأرواح جنود مجندة وأهل الخير يميلون إلى أهل الخير وأهل الشر يميلون إلى أهل الشر وما تشاكل من الأرواح تجمع ومن اتفقت ميولهم أو تقاربت يتجمعون ويتآنسون”.
أولاً: شرح الحديث، وبيان مفرداته:
قال الحافظ النووي رحمه الله:
(٤٩) – (باب: الأرْواحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ)
(النّاسُ مَعادِنُ) جمع مَعْدن بكسر الدال.
قال المناويّ رحمه الله: «الناس معادن»، أي: أصولٌ مختلفةٌ، ما بين نفيس، وخسيس، كما أن المعدن كذلك فخيارهم في الجاهلية هم خيارهم في الإسلام، وقوله: (كَمَعادِنِ الفِضَّةِ والذَّهَبِ) قال الرافعيّ رحمه الله: وجه الشبه أن اختلاف الناس في الغرائز والطبائع، كاختلاف المعادن في الجواهر، وأن رسوخ الاختلاف في النفوس، كرسوخ عروق المعادن فيها، وأن المعادن كما أن منه ما لا تتغير صفته، فكذا صفة الشرف لا تتغير في ذاتها، بل من كان شريفًا في الجاهلية فهو بالنسبة إلى أهل الجاهلية رأس، فإن أسلم استمرّ شَرَفه، فكان أشرف ممن أسلم من المشروفين في الجاهلية، وهذا معنى قوله:
(خِيارُهُمْ فِي الجاهِلِيَّةِ، خِيارُهُمْ فِي الإسْلامِ) ثم لمّا أطلق الحكم خصّه بقوله:
(إذا فَقُهُوا) بضم القاف على الأجود، ويجوز كسرها.
وقال الطيبيّ رحمه الله: قوله: «الناس معادن»: يدلّ عليه قوله -ﷺ- في حديث آخر: «فعن معادن العرب تسألوني؟ قالوا: نعم»؛ أي: أصولها التي يُنسبون إليها، ويتفاخرون بها، وإنما جُعلت معادن لها؛ لِما فيها من الاستعدادات المتفاوتة، فمنها قابلة لفيض الله تعالى على مراتب المعادن، ومنها غير قابلة لها.
وقوله: «خيارهم في الجاهليّة خيارهم في الإسلام إذا فقهوا» جملة مبيّنة بعد التفاوت الحاصل بعد فيض الله تعالى عليها من العلم والحكمة؛ قال الله تعالى: ﴿ومَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [البقرة ٢٦٩]، شبّههم بالمعادن في كونها أوعيةً للجواهر النفيسة، والفلزات المنتفعة بها المعنيّ بهما في الإنسان كونه أوعية العلوم والحِكَم، فالتفاوت في الجاهليّة بحسب الأنساب، وشَرَف الآباء، وكَرَم الأصل، وفي الإسلام بحسب العلوم والحِكم، فالشرف الأول موروث، والثاني مكتسب.
[فإن قلت]: ما فائدة التقييد بقوله: «إذا فقُهُوا»؛ لأن كلّ من أسلم، وكان شريفًا في الجاهليّة فهو خير من الذي لم يكن له شرف فيها، سواء فقه، أو لم يفقه؟
[قلت]: ليس كذلك، فإن الإيمان يرفع التفاوت المعتبر في الجاهليّة، فإذا تحلّى الرجل بالعلم والحكمة استجلب النسب الأصليّ، فيجتمع شرف النسب مع شرف الحسب، انظر إلى المنقبة السنيّة، كيف ردّ تيمّنها وبركتها ما رَفَعه الإسلام من الشرف الموروث؟، وفُهم من ذلك أن الوضيع المسلم المتحلّي بالعلم أرفع منزلةً من الشريف المسلم العاطل، ونعم ما قال الأحنف
[من الرمل]:
كُلُّ عِزٍّ لَمْ يُوَطَّدْ بِعِلْمٍ … فَإلى ذُلِّ ما يَصِيرُ
وقال آخر [من الطويل]:
ولا الشَّرَفُ المَوْرُوثُ لا دَرَّ دَرُّهُ … بِمُحْتَسَب إلّا بِآخَرَ مُكْتَسَبْ
وقال آخر [من الكامل]:
إنَّ السَّرِيَّ إذا سَرى فَبِنَفْسِهِ … وابْنُ السَّرِيِّ إذا سَرى أسْراهُما
رُوي أن فزاريًّا شكى إلى عمر بن الخطّاب –رضي الله عنه- من لطمة لطمها جبلة بن
الأيهم، فأمر بالقصاص، فقال جبلة: أيُقتصّ منّي، وأنا ملِكٌ، وهو سوقةٌ؟
فقال عمر: شملك وإياه الإسلام، فما تفضله إلا بالعاقبة. انتهى [«الكاشف عن حقائق السنن» ٢/ ٦٦١ – ٦٦٢].
وقال المناويّ رحمه الله: قوله: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة»:
والحديث ورد على منهج التشبيه في التفاضل في الصفات الوهبية، والكسبية، كالأخلاق الجِبِلّية، والآداب الحاصلة بواسطة الأدلة، وشتان في القياس بين الذهب والفضة، والرصاص والنحاس، فبقدر ما بين ذلك من التفاوت تكون الصفة في الأشخاص
وقال القاضي: ….وذا من جوامع الكلم الذي أوتيها المصطفى -ﷺ-، وأفاد الترغيب في تطبع الأوصاف الجميلة، والتوصل إليها بكل حيلة، والعِرْق دسّاس، وأدب السَّوْء كعِرْق السَّوْء، فعلى العاقل أن يتخير لنطفته.
قال بعضهم: كما أن المعدن في أصله صحيح، لا يخرج عن معدنيته وان اصابه شيء، فكذا المؤمن الحقيقيّ أو الولي الحقيقيّ لا يُخرجه ما جرى على جوارحه من النقائص عن حقيقة إيمانه، أو ولايته.
وقال بعضهم: المراد أن كل من كان أصله عند الله مؤمنًا، فهو يرجع إلى أصله، كالمعدن، ومن كان عنده كافرًا رجع إلى أصله كذلك، وحقيقة الأمر مستورة عنّا الآن؛ لأنه تعالى يفعل ما يشاء، فيقلب التراب ذهبًا، وعكسه، والجماد مائعًا، وعكسه، والنبات حيوانًا، وعكسه. انتهى [«فيض القدير» ٦/ ٢٩٥].
وقوله: (والأرْواحُ)؛ أي: أرواح الناس، (مُجَنَّدَةٌ) منها حزب الله: ﴿ألا إنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ المُفْلِحُونَ﴾ [المجادلة ٢٢]، ومنها حزب الشيطان: ﴿ألا إنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الخاسِرُونَ﴾ [المجادلة ١٩] [«مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح» ١٤/ ٢٩٥].
وقال النوويّ:قال الخطابيّ وغيره: تآلُفها هو ما خلقها الله عليه من السعادة، أو الشقاوة في المبتدأ، وكانت الأرواح قسمين، متقابلين، فإذا تلاقت الأجساد في الدنيا ائتلفت، واختلفت، بحسب ما خُلقت عليه، فيميل الأخيار إلى الأخيار، والأشرار إلى الأشرار، والله أعلم. انتهى [«شرح النوويّ» ١٦/ ١٨٥].
قال أعضاء اللجنة الدائمة:
هذا الحديث بين فيه المصطفى ﷺ أن الأرواح مخلوقة على الائتلاف، والاختلاف كالجنود المجندة إذا تقابلت وتواجهت، وذلك على ما جعلها عليه من السعادة والشقاوة، والأجساد التي فيها الأرواح تلتقي في الدنيا فتأتلف وتختلف على حسب ما جعلت عليه من التشاكل والتناكر، فترى البر الخير يحب مثله ويميل إليه، والفاجر يألف شكله ويميل إليه وينفر كل عن ضده.
ثم نقلوا أول كلام الخطابي الآتي.
وقال في «الفتح»: قال الخطابيّ: يَحْتَمِل أن يكون إشارةً إلى معنى التشاكل في الخير والشر، والصلاح والفساد، وأن الخَيِّرَ من الناس يَحِنّ إلى شكله، والشرير نظير ذلك، يميل إلى نظيره، فتعارُف الأرواح يقع بحَسَب الطباع التي جُبلت عليها من خير وشرّ، فإذا اتفقت تعارفت، وإذا اختلفت تناكرت.
ويَحْتَمِل أن يراد الإخبار عن بدء الخلق في حال الغيب، على ما جاء أن الأرواح خُلقت قبل الأجسام، وكانت تلتقي، فتتشامّ فلمّا حَلّت بالأجسام تعارفت بالأمر الأول، فصار تعارُفها وتناكرها على ما سَبَق من العهد المتقدّم.
وقال غيره: المراد أن الأرواح أول ما خُلقت خُلقت على قسمين، ومعنى تقابُلها؛ أن الأجساد التي فيها الأرواح إذا التقت في الدنيا ائتلفت، أو اختلفت، على حسب ما خُلقت عليه الأرواح في الدنيا إلى غير ذلك بالتعارف.
قال الحافظ: ولا يعكر عليه أن بعض المتنافِرَين ربما ائتلفا؛ لأنه محمول على مبدأ التلاقي، فإنه يتعلق بأصل الخلقة، بغير سبب، وأما في ثاني الحال فيكون مكتسَبًا؛ لتجدد وصْفِ يقتضي الألفة بعد النفرة، كإيمان الكافر، وإحسان المسيء. انتهى [«الفتح» ٥/ ٦١٧، كتاب «بدء الخلق» رقم (٣٣٣٦)].
(وما تَناكَرَ مِنها)؛ أي: في عالم الأرواح، (اخْتَلَفَ»)؛ أي: في عالم الأشباح…. قاله القاري [«مرقاة المفاتيح» ٨/ ٧٣٣ – ٧٣٤].
وقال في «النهاية»: قوله: «جنود مجندة»؛ أي: مجموعة، كما يقال: ألوفٌ مؤلّفة، وقناطيرُ مقنطرةٌ، ومعناه: …. ولهذا ترى الخيِّر يحبّ الأخيار، ويميل إليهم، والشِّرّير يحبّ الأشرار، ويميل إليهم. انتهى [«مرقاة المفاتيح» ٨/ ٧٣٣ – ٧٣٤].
وقال الطيبيّ رحمه الله: …. وهذا التعارف إلهامات من الله تعالى في قلوب العباد من غير إشعار منهم بالسابقة، ولا يمنع من هذا التعارف فَصْله بالأباعد والأجانب، ولا تضمّه شجنة الأرحام والأواصر، قال الشاعر:
[من البسيط]:
كانَتْ مَوَدَّةُ سَلْمانَ لَهُ نَسَبًا … ولَمْ يَكُنْ بَيْنَ نُوحِ وابْنِهِ رَحِمُ
قال حكيم: أقرب القُرْب مودة القلب، وإن تباعَد جسم أحدهما من الثاني، وأبعدُ البُعْد تنافر المتداني، والله تعالى أعلم. انتهى [«الكاشف عن حقائق السنن» ١٠/ ٣١٩٨ – ٣١٩٩].
تنبيه: هذا الحديث أخرجه الحافظ أبو يعلى في «مسنده» من حديث عائشة -رضي الله عنها-، وذكر له قصّة، فقال:
(٤٣٨١) – حدّثنا يحيى بن معين، حدّثنا سعيد بن الحكم، حدّثنا يحيى بن أيوب، قال: حدّثني يحيى بن سعيد، عن عمرة بنت عبد الرحمن، قالت: كان بمكة امرأة مَزّاحة، فنزلت على امرأة مثلِها، فبلغ ذلك عائشة، فقالت: صَدَق حِبِّي، سمعت رسول الله -ﷺ- يقول: «الأرواح جنود مجنّدة، فما تعارف منها ائتَلَف، وما تناكر منها اختَلف»، قال: ولا أعلم إلا قال في الحديث: ولا تُعْرَف تلك المرأة. انتهى [«مسند أبي يعلى» ٧/ ٣٤٤].
حديث أبي هريرة : أحمد ٢\٢٩٥، ٥٢٧، ٥٣٩، والبخاري في (الأدب المفرد) (ص ٣٩٢) برقم (٩٠١)، ومسلم (٢٦٣٨) كما في هذا الباب ، وأبو داود ٥\١٦٩ برقم (٤٨٣٤)، وابن حبان ١٤\٤٣ برقم (٦١٦٨)، والبغوي ١٣ \ ٥٧ برقم (٣٤٧١).
وجاء فى تخريج العراقى لأحاديث «إحياء علوم الدين» أن البخارى ذكره تعليقا عن عائشة، وأن مسلما رواه عن أبى هريرة .
قال ابن القيّم فى الطب النبوي :
والعِشْقُ مُرَكَّبٌ مِن أمْرَيْنِ: اسْتِحْسانٍ لِلْمَعْشُوقِ، وطَمَعٍ فِي الوُصُولِ إلَيْهِ، فَمَتى انْتَفى أحَدُهُما انْتَفى العِشْقُ، وقَدْ أعْيَتْ عِلَّةُ العِشْقِ عَلى كَثِيرٍ مِنَ العُقَلاءِ وتَكَلَّمَ فِيها بَعْضُهُمْ بِكَلامٍ يُرْغَبُ عَنْ ذِكْرِهِ إلى الصَّوابِ.
فَنَقُولُ: قَدِ اسْتَقَرَّتْ حِكْمَةُ اللَّهِ- ﷿- فِي خَلْقِهِ وأمْرِهِ عَلى وُقُوعِ التَّناسُبِ والتَّآلُفِ بَيْنَ الأشْباهِ، وانْجِذابِ الشَّيْءِ إلى مُوافِقِهِ ومُجانِسِهِ بِالطَّبْعِ، وهُرُوبِهِ مِن مُخالِفِهِ، ونُفْرَتِهِ عَنْهُ بِالطَّبْعِ، فَسِرُّ التَّمازُجِ والِاتِّصالِ فِي العالَمِ العُلْوِيِّ والسُّفْلِيِّ، إنَّما هُوَ التَّناسُبُ والتَّشاكُلُ، والتَّوافُقُ، وسِرُّ التَّبايُنِ والِانْفِصالِ، إنَّما هُوَ بِعَدَمِ التَّشاكُلِ والتَّناسُبِ، وعَلى ذَلِكَ قامَ الخَلْقُ والأمْرُ، فالمِثْلُ إلى مِثْلِهِ مائِلٌ، وإلَيْهِ صائِرٌ، والضِّدُّ عَنْ ضِدِّهِ هارِبٌ، وعَنْهُ نافِرٌ، وقَدْ قالَ تَعالى «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ وجَعَلَ مِنها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إلَيْها «١» فَجَعَلَ سُبْحانَهُ عِلَّةَ سُكُونِ الرَّجُلِ إلى امْرَأتِهِ كَوْنَها مِن جِنْسِهِ وجَوْهَرِهِ، فَعِلَّةُ السُّكُونِ المَذْكُورِ- وهُوَ الحُبُّ- كَوْنُها مِنهُ، فَدَلَّ عَلى أنَّ العِلَّةَ لَيْسَتْ بِحُسْنِ الصُّورَةِ، ولا المُوافَقَةِ فِي القَصْدِ والإرادَةِ، ولا فِي الخُلُقِ والهَدْيِ، وإنْ كانَتْ هَذِهِ أيْضًا مِن أسْبابِ السُّكُونِ والمَحَبَّةِ.
وقَدْ ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ» عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «الأرْواحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَما تَعارَفَ مِنها ائْتَلَفَ، وما تَناكَرَ مِنها اخْتَلَفَ»
وهَذا كَما أنَّهُ ثابِتٌ فِي الدُّنْيا، فَهُوَ كَذَلِكَ يَوْمَ القِيامَةِ قالَ تَعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وأزْواجَهُمْ وما كانُوا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فاهْدُوهُمْ إلى صِراطِ الجَحِيمِ «١».
قالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ ﵁ وبَعْدَهُ الإمامُ أحْمَدُ ﵀: أزْواجُهُمْ أشْباهُهُمْ ونظراؤهم.
وقال تعالى: وإذا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ «٢»: قَرَنَ كُلَّ صاحِبِ عَمَلٍ بِشَكْلِهِ ونَظِيرِهِ، فَقَرَنَ بَيْنَ المُتَحابَّيْنِ فِي اللَّهِ فِي الجَنَّةِ، وقَرَنَ بين المتحابين فِي طاعَةِ الشَّيْطانِ فِي الجَحِيمِ، فالمَرْءُ مَعَ مَن أحَبَّ شاءَ أوْ أبى ….. الى آخر كلامه رحمه حول مرض العش وعلاجه
فوائد الأحاديث:
١ – (منها): بيان أن الناس معادن كمعادن الذهب والفضّة.
٢ – (ومنها): بيان فضل الفقه في الدين؛ لأن من تحلّى بها كان أفضل من غيره، ولو كان شريف النسب، وقد قال النبيّ -ﷺ-: «من يرد الله به خيرًا يفقّهه في الدين»، فالفقه علامة الخيريّة، وعلامة السعادة في الدنيا والآخرة.
٣ – (ومنها): ذمّ الجهل، وذمّ أهله؛ لأنه وإن كان شريف النسب فجَهْله يجعله وضيعًا، ولقد أحسن من قال، وأجاد في المقال:
العِلْمُ يَرْفَعُ بَيْتًا لا عِمادَ لَهُ … والجَهْلُ يَهْدِمُ بَيْتَ العِزِّ والشَّرَفِ
٤ – (ومنها): بيان أن الأرواح جنود مجنّدة؛ أي: أجناس مجنّسة، أو جموع مجمعة، تتعارف، وتتناكر حسب ما جُبلت عليه، من الخير والشرّ، فأهل الخير يأنسون بأهل الخير، وأهل الشرّ يأنسون بأهل الشرّ.
قال المناويّ رحمه الله: التعارف هو التشاكل المعنويّ الموجب لاتحاد الذوق الذي يُدرك ذوق صاحبه، فذلك علة الائتلاف، كما أن التناكر ضدّه، ولذلك قيل فيه [من الطويل]:
ولا يَصْحَبُ الإنْسانُ إلّا نَظِيرَهُ … وإنْ لَمْ يَكُونُوا مِن قَبِيلٍ ولا بَلَدْ
وقيل: انظر من تصاحب، فقَلَّ من نواة طُرِحت مع حصاة، إلا أشبهتها، ولهذا قال الغزاليّ تبعأ لبعض الحكماء: لا يتفق اثنان في عِشْرة، إلا وفي أحدهما وصْف من الآخر، حتى الطير، ورأى بعضهم مرّة غُرابًا مع حمامة، فاستبعد المناسبة بينهما، ثم تامل، فوجدهما أعرجين، فإذا أردت أن تعرف من غابت عنك خِلالُه بموت، أو غَيبة، أو عدم عِشْرة امتَحِن أخلاق صاحبه، وجليسه بذلك، وذلك يدل على كماله، أو نقصه، كما يدل الدخان على النار، وإذا صاحب الرجل غير شَكْله لم تَدُم صحبته. انتهى [«فيض القدير» ١/ ٥٥٣].
٥ – (ومنها): ما قاله ابن الجوزيّ رحمه الله: ويستفاد من هذا الحديث أن الإنسان إذا وجد من نفسه نَفْرةً ممن له فضيلة، أو صلاح، ينبغي أن يبحث عن المقتضي لذلك؛ ليسعى في إزالته، حتى يتخلص من الوصف المذموم، وكذلك القول في عكسه.
وقال القرطبيّ رحمه الله: معنى «أجناد مجندة»: أصناف مصنّفة، وقيل: أجناس مختلفة، ويعني بذلك أن الأرواح، وإن اتفقت في كونها أرواحًا، لكنها تتمايز بأمور وأحوال مختلفة، تتنوع بها، فتتشاكل أشخاص النوع الواحد، وتتناسب بسبب ما اجتمعت فيه من المعنى الخاصّ لذلك النوع للمناسبة، ولذلك نشاهد أشخاص كلِّ نوع تأْلَف نوعها، وتنفُر من مخالفها، ثم إنا نجد بعض أشخاص النوع الواحد يتآلف، وبعضها يتنافر، وذلك بحسب أمور تتشاكل فيها، وأمور تتباعد فيها، كالأرواح المجبولة على الخير، والرحمة، والشفقة، والعدل، فتجد من جُبل على الرحمة يميل بطبعه لكل من كان فيه ذلك المعنى، ويألفه، وسكن إليه، وينفر ممن اتّصف بنقيضه، وهكذا في الجفاء والقسوة، ولذلك قد شاع في كلام الناس قولهم: المناسبة تؤلِّف بين الأشخاص، والشكل يألف شَكْله، والمِثْل يجذب مثله، وهذا المعنى هو أحد ما حُمل عليه قوله -ﷺ-: «فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف»،
وعلى هذا فيكون معنى «تعارف»: تناسب، وقيل: إن معنى ذلك هو ما تعرّف الله به إليها من صفاته، ودلّها عليه من لطفه، وأفعاله، فكل رُوح عَرَف من الآخر أنه تعرّف إلى الله بمثل ما تعرّف هو به إليه، وقال الخطابيّ: هو ما خلقها الله تعالى عليه من السعادة والشقاوة في المبدأ الأول.
قال القرطبيّ: وهذان القولان راجعان إلى القول الأول، فتدبّرهما.
ويُستفاد من هذا الحديث أن الإنسان إذا وجَد من نفسه نفرة ممن له فضيلة، أو صلاح فَتَّش عن الموجب لتلك النفرة، وبَحَث عنه بنور العلم، فإنّه ينكشف له، فيتعيّن عليه أن يسعى في إزالة ذلك، أو في تضييقه بالرياضة السياسية، والمجاهدة الشرعية، حتى يتخلّص من ذلك الوصف المذموم، فيميل لأهل الفضائل والعلوم، وكذلك القول فيما إذا وجَد ميلًا لمن فيه شرّ، أو وصف مذموم. انتهى كلام القرطبيّ ﵀ [«المفهم» ٦/ ٦٤٤ – ٦٤٦]، وهو بحث نفيسٌ، والله تعالى أعلم.
٦ – (ومنها): ما قاله في»شرح السُّنَّة«: فيه دليل على أن الأرواح ليست بأعراض، وعلى أنها كانت موجودة قبل الأجساد في الخلقة. انتهى [«الكاشف عن حقائق السنن» ١٠/ ٣١٩٨].
[البحر المحيط الثجاج، بتصرف].
٧- (ومنها): ضرب الأمثال في التعليم، وقد ألف في هذا أمثال الحديث لأبي الشيخ الأصبهاني، وذكر جملة من الروايات قريبة من حديث الباب.
٨- من تأمل ما يشاع في هذا الزمن من العامة وبعض الخاصة من نحو ما في السؤال يجد قوة تأثير العقائد البوذية وعقائد الإلحاد على ما يعتقدونه نافعًا صوابًا، ابتداء بالبرمجة اللغوية العصبية، إلى تغيير العقل، إلى العلاج بالطاقة، في قائمة تطول، كلها تقوم على الخرافة والوهم، وهي تصلح لبعض المرضى النفسيين لا أكثر، وما نحن فيه الآن – وهو الخروج من الجسد – من يتأمله يجد أهله الذين يعتقدونه لا يدينون بالإسلام، ولا يعترفون بالله تعالى ربًّا، وكلها أمور غيبية نأسف أن يتلقفها المسلمون من مثل أولئك الملحدين، ومن ينظر في المنتديات التي تنشر ترهات الخروج من الجسد يجد الأمر أشبه ما يكون بالرسوم المتحركة الفضائية، والخيالية.
وها نحن نرى ما جاءت الشريعة الإسلامية المطهرة بمحاربته، والحكم عليه بالشرك والوثنية: أصبح الآن «علمًا»! تُعقد له الدورات، وتُعطى فيه الألقاب والشهادات، وتُدفع له أعلى الأثمان لحضوره، وتعلمه! وتجد هذا المسلم يحكم على من ينظر في «فنجان القهوة» ليخبرك بمستقبلك وحقيقة شخصيتك بأنه كاهن، دجال – وهو كذلك -، لكنه في الوقت نفسه يعطيك من المعلومات الغيبية عنك أضعافًا مضاعفة من ذلك الكاهن الدجال بالنظر في «توقيعك»!
ومن خرافاتهم خرافة «الخروج من الجسد»، أو «السفر بالجسد»، ويطلق عليه «الإسقاط النجمي»: هو من هذا الباب، فأصحابه يوهمونك أنك باستطاعتك السفر بجسدك «الأثيري» إلى عوالم مختلفة، كعالم الملائكة، وعالم الجن، وعالم البرزخ! فترى الأموات وأرواحهم، بل وتتنقل في أزمنة مختلفة، فلك أن ترجع للماضي، ولك أن تذهب للمستقبل! لترى من سيولد! ويزعمون أنك تنتقل بوعيك وأنت نائم، يعني: أن الجسد فقط يكون نائمًا، بينما يكون عقلك في حالة يقظة تامة! ويعتقدون أنك تنتقل إلى تلك العوالم والأزمنة بجسد «أثيري» – وهو جسم من الطاقة – وهو ينفصل عن الجسم المادي النائم، ويبقى بقربه أثناء النوم، ويكون هذان الجسمان متصلان بـ «حبل فضي» يربط بينهما!.
٩ – تكلمنا على هذا معنى حديث الباب في شرحنا للصحيح المسند 1272 – قال أبو داود رحمه الله (١٧٩/١٣) : ﺣﺪﺛﻨﺎ اﺑﻦ ﺑﺸﺎﺭ، ﺣﺪﺛﻨﺎ ﺃﺑﻮ ﻋﺎﻣﺮ، ﻭﺃﺑﻮ ﺩاﻭﺩ، ﻗﺎﻻ: ﺣﺪﺛﻨﺎ ﺯﻫﻴﺮ ﺑﻦ ﻣﺤﻤﺪ، ﻗﺎﻝ: ﺣﺪﺛﻨﻲ ﻣﻮﺳﻰ ﺑﻦ ﻭﺭﺩاﻥ، ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ، ﺃﻥ اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ، ﻗﺎﻝ: (( اﻟﺮﺟﻞ ﻋﻠﻰ ﺩﻳﻦ ﺧﻠﻴﻠﻪ، ﻓﻠﻴﻨﻈﺮ ﺃﺣﺪﻛﻢ ﻣﻦ ﻳﺨﺎﻟﻞ )) .
١٠- تبويبات الأئمة :
بوب البخاري في صحيحه 3336 بَابٌ: الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، وأورد تحته حديث الباب من مسند عائشة رضي الله عنها.
بوَّب أبو داود في سننه على هذا الحديث : باب : مَنْ يُؤمَر أن يُجالِس؟
قال الشيخ العباد : أي : من يُؤمر الإنسان أن يُجالسه.
وذكر أبوداود تحت هذا الباب أربعة أحاديث :
١- حديث (( ﻣﺜﻞ اﻟﺠﻠﻴﺲ اﻟﺼﺎﻟﺢ ﻭاﻟﺴﻮء، ﻛﺤﺎﻣﻞ اﻟﻤﺴﻚ ﻭﻧﺎﻓﺦ اﻟﻜﻴﺮ، ﻓﺤﺎﻣﻞ اﻟﻤﺴﻚ: ﺇﻣﺎ ﺃﻥ ﻳﺤﺬﻳﻚ، ﻭﺇﻣﺎ ﺃﻥ ﺗﺒﺘﺎﻉ ﻣﻨﻪ، ﻭﺇﻣﺎ ﺃﻥ ﺗﺠﺪ ﻣﻨﻪ ﺭﻳﺤﺎ ﻃﻴﺒﺔ، ﻭﻧﺎﻓﺦ اﻟﻜﻴﺮ: ﺇﻣﺎ ﺃﻥ ﻳﺤﺮﻕ ﺛﻴﺎﺑﻚ، ﻭﺇﻣﺎ ﺃﻥ ﺗﺠﺪ ﺭﻳﺤﺎ ﺧﺒﻴﺜﺔ )) أخرجه البخاري ٥٥٣٥ ومسلم ٢٦٢٨.
٢- وحديث (( لا تصاحب إلا مؤمنا ولا يأكل طعامك إلا تقي )) حسنه الألباني.
٣- حديث الباب.
٤- حديث (( الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف )) البخاري ٣٣٣٦ ومسلم ٢٦٣٨ .
* وكذلك بوَّب البيهقي في كتابه ” الآداب ” : باب : مَن يجالس ومن يصاحبه؟ ثم ذكر الأربعة أحاديث التي ذكرها أبو داود.
* في الحديث : النهي عن مجالسة أهل البدع وخلطتهم, وعليه بوب ابن وضاح في كتابه ” البدع ” على هذا الحديث , وذكر آثاراً كثيرةً في هذا الباب.
* قوله : (( فلينظر أحدكم من يخالل )) : قال الشيخ عبدالمحسن العباد : لأنَّ البلاء الذي يحصل لكثير من الناس إنما يأتي من مخالطة الأشرار, واختيار الأخلاء والأصدقاء المستقيمين هو الذي ينفع.
* الآيات والأحاديث الواردة في الإخاء كثيرة جداً ; ذكر صاحب كتاب ” نضرة النعيم ” ٢٤ آيةً, و٥٥ حديثاً, و٤٧ أثراً عن الإخاء والمؤاخاة فلتراجع.
* لابن أبي الدنيا كتاب عنوانه ” الإخوان ” .
* بوب ابن حبان في صحيحه 6168 باب ذِكْر الْإِخْبَارِ عَنْ سَبَبِ ائْتِلَافِ النَّاسِ وَافْتِرَاقِهِمْ.
* بوب الهيثمي في المقصد العلي في زوائد أبي يعلى الموصلي باب الأرواح جنود مجندة وأورد تحته عن عمرة بنت عبد الرحمن قالت: كانت امرأة بمكة مزاحة…. الحديث
* بوب ابن الأثير في جامع الأصول في الفصل الخامس من كتاب الصحبة فصل في التحاب والتواد الفرع السابع في تعارف الأرواح.
* بوب النووي في رياض الصالحين باب زيارة أهل الخير ومجالستهم وصحبتهم ومحبتهم وطلب زيارتهم والدعاء منهم وزيارة المواضع الفاضلة، وأورد تحته بعض الآيات والأحاديث:
– قَالَ الله تَعَالَى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً } إِلَى قوله تَعَالَى : { قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً ؟ } [ الكهف : 60 – 66 ].
– وَقالَ تَعَالَى : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } [ الكهف : 28 ] .
وأورد تحته عدة أحاديث
١١- تكلمنا على المحبة واسبابها واثار الألفة في شرحنا الصحيح المسند (ج2/ رقم 1143):
قال أبو داود رحمه الله : حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن ثور قال حدثني حبيب بن عبيد عن المقدام بن معدي كرب وقد كان أدركه
عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه)).
هذا حديث صحيح رجاله رجال الصحيح.
وكذلك في شرحنا على الصحيح المسند (54)، و(505) مع الأحاديث الملحقة، و(719)، و(1107) فيه تطبيق النبي صلى الله عليه وسلم في قوله ذلك لمعاذ رضي الله عنه، و(1433) مع الأحاديث الملحقة.
وسبق الإشارة إلى ذلك في الصحيح المسند (ج2/ رقم 1110).
وكذلك في شرحنا لصحيح مسلم كتاب البر والصلة باب فضل الحب في الله
١٢ – الأدلة على مجانبة أهل البدع كثيرة، وكتب العقيدة مليئة بها، وأفردت في رسالة، أقتصر على بعضها :
قال تعالى:( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي ءَايَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[الأنعام:68]
قال ابن كثير عند الآية السالفة:والمراد بذلك كل فرد من آحاد الأمة أن لا يجلس مع المكذبين الذين يحرفون آيات الله, ويضعونَها على غير موضعها.أهـ.
وراجع كتب التفسير
وقال تعالى:( وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءَايَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا[النساء:140]
عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلُ يُحِبُّ الْقَوْمَ وَلَمَّا يَلْحَقْ بِهِمْ, قَالَ: الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ.[البخاري رقم (6170) ومسلم رقم(2640)]
وجاء نحوه عن أنس وابن مسعود في الصحيحين وفي خارجهما.
وأخرج مسلم في مقدمة صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ( سَيَكُونُ فِي آخِر أُمَّتِي أُنَاسٌ يُحَدِّثُونَكُمْ مَا لَمْ تَسْمَعُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ فَإِيَّاكُمْ وَإِيَّاهُمْ)وفي رواية( لا يُضِلُّونَكُمْ وَلا يَفْتِنُونَكُمْ)
وقال تعالى:( وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[الأنعام:153] وأخرج الإمام أحمد والنسائي والمروزي في السنة والبغوي وغيرهم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم ” أنه خط للصحابة خطاً ثم قال: هذا سبيل الله ثم خط عن يمينه وشماله خطوطاً ثم قال: هذا سبل متفرقة على كل سبيل منها شيطان يدعوا إليه ثم قرأ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ…)
وورد في الحديث أنهم (دعاة على أبواب جهنم من أجابَهم إليها قذفوه فيها)
وورد في الحديث( من سمع الدجال فلْينأ عنه)
وأخرج الإمام ابن بطة في كتابه الإبانة( بسند صحيح عن عبدالرحمن بن أبي زناد أنه قال: أدركنا أهل الفضل والفقه من خيار أولية الناس يعيبون أهل الجدال والتنقيب والأخذ بالرأي أشد العيب, وينهون عن لقائهم, ومجالستهم, وحذرنا مقاربتهم أشد التحذير)اهـ.
وقال الإمام أبو عثمان الصابوني في كتابه عقيدة السلف وأهل الحديث: ( ويبغضون – يعني أهل الحديث من السلف – أهلَ البدع, والذين أحدثوا في الدين ما ليس منه, ولا يحبونهم ولا يصحبونَهم, ولا يسمعون كلامهم, ولا يجالسونَهم, ولا يجادلونَهم في الدين ولا يناظرونَهم, ويرون صون آذانِهم عن سماع أباطيلهم, التي إذا مرّت بالآذان وقرّت في القلوب ضرّت وجرت إليها الوساوس والخطرات الفاسدة ما جرت, وفيهم أنزل الله عز وجل قوله وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا..الآية)اهـ.
وكلام الأئمة كثير في مجانبة أهل البدع
وقد حذر الله ورسوله من أهل البدع، فقد ورد في القرآن أنهم هم الذين يتبعون ما تشابه من القرآن.
وبين الكتاب والسنة تحريم تكثير سواد أهل الفتن، والعقاب ينزل على فاعل المنكر وعلى من لم ينكر، وأن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.
ولأهل الأهواء الذين يجيزون الخلطة بأهل البدع شبه، فنَّدها العلماء وبينوا أنها لا تصلح للاستدلال، بل تساهل بعض العلماء في مخالطة أهل البدع فتأثروا بهم.
١٣ – بعض الطرق المعلة :
العلل للدارقطني (4/ 188)
س 499- وسئل عن حديث أبي الطفيل ، عن علي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منا اختلف.
فقال : يرويه حبيب بن أبي ثابت ، عن أبي الطفيل ، واختلف عنه ؛ فوقفه الثوري ، عن حبيب.
وأسنده قيس بن الربيع عنه ، ورفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
والصحيح موقوف.
ثانيًا: ملحقات:
(المسألة الأولى): ثلاثة خصال يعرف بها الرجال
قال الأوزاعي- رحمه الله -:
“يعرف الرجل في ثلاثة مواطن: بأُلفته، ويعرف في مجلسه، ويعرف في منطقه” الإبانة لابن بطة (480/2).
الموطن الاول: الألفة.
قال تعالى: { وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } ال عمران آية 103
وأحاديث الباب.
ذَكَرَ الإمام الحافظ أبو عبد الله عبيد الله بن محمد بن محمد بن حمدان بن بطة المتوفى (387هـ) في كتابه “الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة” في “باب التحذير من صحبة قوم يمرضون القلوب ويفسدون الإيمان” نصوصاً كثيرة جدا من رقم (359) إلى (524)، منها:
434- “حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الدَّقَّاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَيَّاطُ , قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ يَزِيدَ الصَّائِغُ , مَرْدَوَيْهِ قَالَ: سَمِعْتُ الْفُضَيْلَ ابْنَ عِيَاضٍ, يَقُولُ: الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ, فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ, وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ, وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ سُنَّةٍ يُمَالِي صَاحِبَ بِدْعَةٍ إِلَّا مِنَ النِّفَاقِ.
قَالَ الشَّيْخُ –أي: ابن بطة-: صَدَقَ الْفُضَيْلُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ , فَإِنَّا نَرَى ذَلِكَ عِيَانًا”. انتهى.
قال النووي رحمه الله تحت – قوله صلى الله عليه وسلم (مثل الجليس الصالح…)-: “وَفِيهِ فَضِيلَةُ مُجَالَسَةِ الصَّالِحِينَ وَأَهْلِ الْخَيْرِ وَالْمُرُوءَةِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالْوَرَعِ وَالْعِلْمِ وَالْأَدَبِ وَالنَّهْيُ عَنْ مُجَالَسَةِ أَهْلِ الشَّرِّ وَأَهْلِ الْبِدَعِ وَمَنْ يَغْتَابُ النَّاسَ أَوْ يَكْثُرُ فُجْرُهُ وَبَطَالَتُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْأَنْوَاعِ الْمَذْمُومَةِ”.اهــ شرح النووي على مسلم (16/ 178).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وأما الرافضي فلا يعاشر أحدا إلا استعمل معه النفاق، فإن دينه الذي في قلبه دين فاسد، يحمله على الكذب والخيانة، وغش الناس، وإرادة السوء بهم، فهو لا يألوهم خبالا، ولا يترك شرا يقدر عليه إلا فعله بهم ، وهو ممقوت عند من لا يعرفه، وإن لم يعرف أنه رافضي تظهر على وجهه سيما النفاق وفي لحن القول، ولهذا تجده ينافق ضعفاء الناس ومن لا حاجة به إليه، لما في قلبه من النفاق الذي يضعف قلبه.
والمؤمن معه عزة الإيمان ، فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين. ثم هم يدّعون الإيمان دون الناس، والذلة فيهم أكثر منها في سائر الطوائف من المسلمين.
وقد قال تعالى: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} [سورة غافر: 51] . وهم أبعد طوائف أهل الإسلام عن النصرة، وأولاهم بالخذلان. فعلم أنهم أقرب طوائف [أهل] الإسلام إلى النفاق، وأبعدهم عن الإيمان.
وآية ذلك أن المنافقين حقيقة، الذين ليس فيهم إيمان من الملاحدة، يميلون إلى الرافضة، والرافضة تميل إليهم أكثر من سائر الطوائف.
وقد قال – صلى الله عليه وسلم -: «الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف». وقال ابن مسعود – رضي الله عنه -: اعتبروا الناس بأخدانهم.
فعلم أن بين أرواح الرافضة وأرواح المنافقين اتفاقا محضا: قدرا مشتركا وتشابها، وهذا لما في الرافضة من النفاق، فإن النفاق شعب.
كما في الصحيحين عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه شعبة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» اهـ من منهاج السنة (6/ 425-427).
وقال رحمه الله: فالمصاحبة والمصاهرة والمؤاخاة لا تجوز إلا مع أهل طاعة الله تعالى على مراد الله ويدل على ذلك الحديث الذي في السنن: (لا تصاحب إلا مؤمنًا ولا يأكل طعامك إلا تقي) ، وفيها: (المرء على دين خليله؛ فلينظر أحدكم من يخالل).اهـ من مجموع الفتاوى (15/327).
قال ابن الجوزي :
ويستفاد من هذا الحديث أن الإنسان إذا وجد من نفسه نفرة ممن له فضيلة أو صلاح فينبغي أن يبحث عن المقتضي لذلك ليسعى في إزالته حتى يتخلص من الوصف المذموم، و كذلك القول في عكسه.
* ومن ذلك معرفة أسباب الألفة، ومنها:
وحدة المنهج والعقيدة ففيها يكون الحب والبغض :
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: (أي عرى الإيمان أوثق؟) قال: الله ورسوله أعلم، قال: (الموالاة في الله، والمعاداة في الله، والحب في الله، والبغض في الله) رواه أحمد وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَن أحبَّ في الله وأبغض في الله وأعطى لله ومنع لله، فقد استكمل الإيمان)). أخرجه أحمد والنسائي وصححه الألباني.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تصاحب إلا مؤمناً، ولا يأكل طعامك إلا تقي)). رواه أبو داود وصححه الألباني.
ومن أسباب الألفة:
التخلق بأخلاق السلف:
أن يكون المرء ذو أخلاق تكسب محبة الأخرين، فالمرء لا يكسب الناس بماله فقط بل بإحسانه ومعاملته، فقد كان صلى الله عليه وسلم يتعامل مع خادمه كما يتعامل مع أكابر الصحابة لا يفرق بينهم، لذلك ملك قلوب الجميع.
فقد كان صلى الله عليه وسلم يسلم على الصغير والكبير، و كان صلى الله عليه وسلم لين الجانب رؤوف رحيم؛ كما وصفه الله تعالى بقوله: { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }(التوبة: 28 ).
وكذلك من أسباب الألفة: الهدية؛
قال صلى الله عليه وسلم: ((تهادوا تحابوا)). حسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد.
فالهدية سنة نبوية، تزيد الحب والألفة بين الناس، وتذهب الأحقاد وتصل بها الإخوان والأرحام وتذهب الأحزان.
وسبق الحديث عن أسباب الألفة.
الموطن الثاني:
ويعرف الرجل في مجلسه.
سبق إيراد ما يتعلق بهذا الموطن عند قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَثَلُ الجليس الصالح وجليس السوء؛ كحامل المسك ونافخ الكِير، فحامل المسك: إما أن يُحْذِيَك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة، ونافح الكِير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة))؛ متفقٌ عليه.
قال النووي رحمه الله في الكلام على هذا الحديث:
“فيه فضيلة مجالسة الصالحين وأهل الخير، والمروءة ومكارم الأخلاق، والورع والعلم والأدب، والنهي عن مجالسة أهل الشر وأهل البدع، ومن يغتاب الناس أو يكثر فُجره وبطالته, ونحو ذلك من الأنواع المذمومة”. شرح صحيح مسلم (16/178).
وقال ابن بطة -رحمه الله- في “الإبانة الكبرى” (1/390): “بَابُ تَرْكِ السُّؤَالِ عَمَّا لَا يُغْنِي وَالْبَحْثِ وَالتَّنْقِيرِ عَمَّا لَا يَضُرُّ جَهْلُهُ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ قَوْمٍ يَتَعَمَّقُونَ فِي الْمَسَائِلِ وَيَتَعَمَّدُونَ إِدْخَالَ الشُّكُوكِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، قَالَ الشَّيْخُ -أي: ابن بطة-: “اعْلَمُوا إِخْوَانِي أَنِّي فَكَّرْتُ فِي السَّبَبِ الَّذِي أَخْرَجَ أَقْوَامًا مِنَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَاضْطَرَّهُمْ إِلَى الْبِدْعَةِ وَالشَّنَاعَةِ، وَفَتَحَ بَابَ الْبَلِيَّةِ عَلَى أَفْئِدَتِهِمْ وَحَجَبَ نُورَ الْحَقِّ عَنْ بَصِيرَتِهِمْ، فَوَجَدْتُ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْبَحْثُ وَالتَّنْقِيرُ، وَكَثْرَةُ السُّؤَالِ عَمَّا لَا يُغْنِي، وَلَا يَضُرُّ الْعَاقِلَ جَهْلُهُ، وَلَا يَنْفَعُ الْمُؤْمِنَ فَهْمُهُ.
وَالْآخَرُ: مُجَالَسَةُ مَنْ لَا تُؤْمَنُ فِتْنَتُهُ، وَتُفْسِدُ الْقُلُوبَ صُحْبَتُهُ”.
وقال -رحمه الله- أيضًا، : “فانظروا رحمكم الله من تصحبون والى من تجلسون واعرفوا كل إنسان بخدنه، وكل أحد بصاحبه، أعاذنا الله وإياكم من صحبة المفتونين” الإبانة (1/206).
” قيل للأوزاعي رحمه الله: “إن رجلا يقول : أنا أجالس أهل السنة، وأجالس أهل البدع، فقـــال الأوزاعي : هذا رجل يريد أن يساوي بين الحق والباطل”. الإبانة لابن بطة (2 / 465).
الموطن الثالث:
ويعرف الرجل في منطقه.
قال الشاطبي-رحمه الله-بعد أن ذكر آثارا في التحذير من أهل البدع-:
وَعَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ ; قَالَ: ” إِذَا لَقِيتَ صَاحِبَ بِدْعَةٍ فِي طَرِيقٍ; فَخُذْ فِي طَرِيقٍ آخَرَ “. وَعَنْ أَبِي قِلَابَةَ ; قَالَ: ” لَا تُجَالِسُوا أَهْلَ الْأَهْوَاءِ، وَلَا تُجَادِلُوهُمْ; فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَغْمُرُوكُمْ فِي ضَلَالَتِهِمْ، وَيُلَبِّسُوا عَلَيْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ “.
وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ ; قَالَ: ” لَا تُجَالِسُوا أَصْحَابَ الْأَهْوَاءِ، وَلَا تُكَلِّمُوهُمْ; فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ تَرْتَدَّ قُلُوبُكُمْ “، وَالْآثَارُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَيُعَضِّدُهَا مَا رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ، فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ».
وَوَجْهُ ذَلِكَ ظَاهِرٌ مُنَبَّهٌ عَلَيْهِ فِي كَلَامِ أَبِي قِلَابَةَ: إِذْ قَدْ يَكُونُ الْمَرْءُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ السُّنَّةِ، فَيُلْقِي لَهُ صَاحِبُ الْهَوَى فِيهِ هَوًى مِمَّا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ لَا أَصْلَ لَهُ، أَوْ يَزِيدُ لَهُ فِيهِ قَيْدًا مِنْ رَأْيِهِ، فَيَقْبَلُهُ قَلْبُهُ، فَإِذَا رَجَعَ إِلَى مَا كَانَ يَعْرِفُهُ; وَجَدَهُ مُظْلِمًا; فَإِمَّا أَنْ يَشْعُرَ بِهِ; فَيَرُدَّهُ بِالْعِلْمِ، أَوْ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَشْعُرَ بِهِ; فَيَمْضِيَ مَعَ مَنْ هَلَكَ. اهــ من الاعتصام للشاطبي ت الهلالي (1/ 172-173)
قال علي رضي الله تعالى عنه: “مَا أَضْمَرَ أحدٌ شيئاً إلَّا ظَهَرَ في فَلَتَاتِ لِسَانه وصَفَحاتِ وَجْهِهِ”. [كتاب المستطرف في كل فن مستطرف]
فمن مدح أهل البدع وعظمهم وقدرهم، وطعن على أهل السنة، فهو مبتدع وإن أظهر السنة والسلفية.
قال الإمام السجزي –رحمه الله-: ((وها هنا بمكة معنا من شغله برواية الحديث أكثر وقته ويصيح أنه ليس بأشعري، ثم يقول: رأيت منهم أفاضل، ومَن التراب تحت رجله أفضل من خلق، وإذا قدم البلد رجل منهم قصده قاضياً لحقّه، وإذا دخله رجل من أصحابنا جانبه وحذر منه. وكلما ذكر بين يديه شيخ من شيوخ الحنابلة وقع فيه، وقال: أحمد نبيل لكنه بُلي بمن يكذب، وهذا مكر منه لا يحيق إلا به)).[رسالة الإمام السجزي إلى أهل زبيد في الرد على من أنكر الحرف والصوت(ص:232)]
وقال الشيخ عبد السلام بن برجس العبد الكريم -رحمه الله-: “فأهل السنة مهما اندس بينهم مندس، ومهما تزيا بزيهم ماكر فإن الله سوف يهتك ستره ويفضح أمره، فما أسر عبد سريرة إلا أخرجها الله سبحانه وتعالى على فلتات لسانه وقسمات وجهه”.
تنبيه:
“المُوَازَنَةُ بَيْنَ الحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ عِنْدِ النَّقْدِ”
مقال من مجلة “الأصالة” 15 شوال 1420هـ – العدد الرابع والعشرون / السنة الرابعة
بقلم: فضيلة الشيخ زيد بن محمد بن هادي المدخلي
إن القائلين بوجوب الموازنة بين المحاسن والمساوئ عند الرد على أهل الأهواء والبدع، وعند بيان الأخطاء والأغلاط التي وقع فيها بعض الرجال أو الطوائف –في التصريحات والمؤلفات- لا يملكون على إطلاق قاعدتهم هذه دليلا من كتاب ولا سنة بالفهم الصحيح، إذ إنها ليست قاعدة مطردة عند علماء السلف وأتباعهم، وليست منهجا ومسلوكا لعلماء الجرح والتعديل –كما هو موضح في كتبهم- رحمهم الله-، وليست هديا معتبرا يجب الالتزام به باطراد عند من سلف من أئمة السلف وأتباعهم؛ ممن قام بالرد على أصحاب البدع المضلة والأهواء التي تهوي بأصحابها في مكان سحيق… “. انتهى.
(المسألة الثانية): بعض الآثار في الباب :
الأثر الأول: عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف». وهو حديث الباب
الأثر الثاني: قال الأوزاعي رحمه الله تعالى كما في كتاب الإبانة لابن بطة : ((من ستر علينا بدعته لم تخُف علينا ألفته)).
الأثر الثالث: لما قُدم سفيان الثوري البصرة جعل ينظر إلى أمر الربيع يعني ابن صُبيح وقدره عند الناس سأل : أي شيء مذهبه ؟ . قالوا ما مذهبه إلا السنة، قال: من بطانًته ؟ . قالوا : أهل القدر قال : هو قدَري.
الأثر الرابع: قال محمد بن عبيد الغلابي : ((يتكاتم أهل الأهواء كل شيء إلا التآلف والصحبة)).
الأثر الخامس: وقال الإمام المبجل أبو عبد الله أحمد بن حنبل :((إذا سلّم الرجل على المبتدع فهو يحبّه)).
الأثر السادس: وقال ابن مسعود رضي الله عنه : (( إنما يماشي الرجل ويُصاحب من يحبه ومن هو مثله)).
الأثر السابع: قال الإمام ابن بطة العكبري بعد أن نقل بسنده حديث النبي صلى الله عليه وسلّم : «من سَمع منكم بخروج الدجال فلينأ عنه ما استطاع، فإن الرجل يأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فلا يزال به حتى يتبعه لما يرى من الشبهات ». قال رحمه الله هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلّم وهو الصادق المصدوق، فالله – الله معشر المسلمين لا يحملنَّ أحدا منكم حسن ظنه بنفسه وما عهده من معرفته بصحة مذهبه على المخاطرة بدينه في مجالسة بعض هذه الأهواء، فيقول : أُداخله لأناظره أو لأستخرج منه مذهبه فإنهم أشد فتنة من الدجال، وكلامهم ألصق من الجرب وأحرق للقلوب من اللهب، ولقد رأيت جماعة من الناس كانوا يلعنونهم ويسبونهم فجالسوهم على سبيل الإنكار والرد عليهم ولا زالت بهم المباسطة وخفي المكر ودقيق الكفر حتى صبوا إليهم.
الأثر الثامن: شيخ ، قال ابن القيم رحمه الله تعالى كما في إغاثة اللهفان : (( ومن أنواع مكايده ومكره (أي الشيطان) أن يدعو العبد بحسن خلقه وطلاقته وبشره إلى أنواع من الآثام والفجور فيلقاه من لا يخلصه من شره إلا تجهمه والتعبيس في وجهه حتى يصيب حاجته فيدخل على العبد بكيده من باب حسن الخلق وطلاقة الوجه، ومن ههنا وصى أطباء القلوب بالإعراض عن أهل البدع وألا يسلم عليهم وألا يريهم طلاقة وجهه ولا يلقاهم إلا بالعبوس والإعراض )).
الأثر التاسع: قال أبو داود السجستاني رحمه الله : ((قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: أرى رجلا من أهل البيت مع رجل من أهل البدع أترك كلامه ؟ . قال : لا، أو تعلمه الذي رأيته معه صاحب بدعة، فإن ترك كلامه وإلا ألحقه به )).
الأثر العاشر: قال العلامة الشيخ ابن إبراهيم القبطي المعروف بابن الحاج رحمه الله : فبين سبحانه بقوله : ﴿وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ﴾ . [النساء:140] ، ما أمرهم به من قوله في السورة المكية : ﴿فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾. [الأنعام:68]، ثم بين في هذه السورة المدنية أن مجالسة من هذه صفته لحوقٌ به في اعتقاده، وقد ذهب قوم من أئمة هذه الأمة إلى هذا المذهب وحكم بموجب هذه الآيات في مجالس أهل البدع على المعاشرة والمخالطة منهم أحمد بن حنبل والأوزاعي وابن المبارك فإنهم قالوا في رجل شأنه مجالسة أهل البدع ، قالوا: (( يُنهى عن مجالستهم فإن انتهى وإلا أُلحق به) ) ، يعنون في الحكم .
قال الإمام ابن بطة العكبري رحمه الله : ((ومن السنة مجانبة كل من اعتقد شيئاً مما ذكرناه من البدع، وهجرانه المقت له، وهجران من والاه ونصره وذبّ عنه وصاحبه وإن كان الفاعل لذلك يُظهر السنة
[الدُرَرُ السَّنيَّة بشرحِ بعض الآثار السَّلفيَّة / للعلامة النجمي – رحمه الله -، شبكة الآجري].
(المسألة: الثالثة): الفتاوى:
[1] [معنى حديث “الأرواح جنود مجندة..”؟]
س: في حديث أبي هريرة، ما المقصود بـ الأرواح جنودٌ مُجنَّدةٌ؟
“يقصد أنها أصناف، فما تعارف منها ائتلف، ما تعارف منها بالتقوى والإيمان أو بالرفق ائتلف، وما تناكر منها اختلف.
فالواجب على أهل الإيمان أن يكونوا إخوةً متحابين في الله، متعاونين على البر والتَّقوى، متعاونين على كل خيرٍ، ضد الباطل وأهله”. [الموقع الرسمي لسماحة الإمام ابن باز رحمه الله].
[2] هل يشترط إقامة الحجة في إطلاق كلمة إخواني على من انخرط في حزبهم؟
“والله إذا انخرط في حزبهم فهو منهم، المرء مع من أحب، و”الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف”
[شريط بعنوان: الرد على أهل البدع جهاد] [الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ ربيع بن هادي المدخلي].
[3] حكم زيارة أهل البدع من أجل دعوتهم
السؤال:
فزيارة أهل العلم والإيمان من أهل السنة والجماعة وزيارة الإخوان في الله قربة وطاعة، أما زيارة أهل البدع فلا تجوز زيارتهم على سبيل المؤانسة والمحبة ونحو ذلك.
أما إذا زارهم طالب العلم للموعظة والتذكير والتحذير من البدعة؛ هذا مشكور ومأجور؛ لأن هذا من باب الدعوة إلى الله، من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا زرت هؤلاء الذين عندهم شيء من البدع زرتهم للدعوة إلى الله والنصيحة والتوجيه فأنت مأجور، وينبغي أن لا تدع ذلك إذا كان فيه فائدة، أما إذا أصروا ولم يستجيبوا فدعهم”.[ حكم زيارة أهل البدع من أجل دعوتهم، نور على الدرب، لسماحة الشيخ الإمام ابن باز، الموقع الرسمي لفضيلته رحمه الله]