ملاحظة حول كتاب “الكبائر” للإمام الذهبي
كلمتي
ذكر الباحث سبب كتابته للبحث فقال:
وقد بعثني علي هذا الجمع إدعاء بعض علماء بلدي واستدلاله بكتاب الذهبي هذا على ما يريد من ترويج بعض دعاويه حول العمل بالضعيف …. حيث يقرر تجويز العمل بالضعيف: العمل بالضعيف جائز من غير بيان ضعفه ولو اشتد ضعفه …
موضوعنا يتمحور إلي محورين أساسيّين:-
1) نسبة هذه النسخة لهذا الكتاب إلي المؤلف ومدي صحتها.
2) مشكلة “العمل بالضعيف”,والرأي الراجح فيه.
كما لا بد للطالب أن يحيط بهما علما لكني لست أستهدف من خلال هذا البحث إلاَ الأول ألا وهو المدافعة عن ذلك الإمام الجليل ونفض الغبار عن كتابه الكبائر.
ومما يأسفنا كثيرا, أن أجلة العلماء قد اشتد تشنيعهم علي الإمام الذهبي لأجل صنيعه في كتابه الكبائروهو – في دعواهم – خلط الصحيح بالضعيف و أتى بحكايات ونوادر لا أصل لها، كما استغلها بعضهم ممن لا انتباه له بحقيقة الأمرلترويج الأحاديث الضعيفة لإتيانه بها كثيرا في هذا الكتاب.
وهل قصدهما الإمام الذهبي يا تري؟ هل يجعل العاقل نفسه معرضا لمثل هذاالتشنيع والإستغلال؟
أضف إلي ذلك أن مذهب الإمام الذهبي في الرجال معروف. وهو رائد المنصفين في نقد الرجال الذين يرأسهم البخاري وأحمد رحم الله الجميع.
فالحاجة الآن ماسة إلي الإجابة عن هذه الردود وكشف اللثام عن الحقيقة ,قبل أن نعرض للإجابة يجدر بنا أن نبين مذهب الإمام الذهبي في خلط الصحيح بالضعيف.
مذهب الإمام الذهبي في خلط الصحيح بالضعيف
كافة الأئمة النقاد قد شنعوا علي من لم يفرق بين الصحيح و الضعيف وكانوا يسمون من يفعله “حاطب ليل”,ونجد الأمام مسلم يقول: فلولا الذي رأيت من سوء صنيع كثير ممن نصب نفسه محدثا فيما يلزمهم من طرح الأحاديث الضعيفة والروايات المنكرة وتركهم الإقتصار على الأحاديث الصحيحة المشهورة مما نقله الثقات المعروفون بالصدق والأمانة بعد معرفتهم وإقرارهم بألسنتهم أن كثيرا مما يقذفون به إلي الأغبياء من الناس هو مستنكر ومنقول عن قومغير مرضيين ممن ذمَّ الرواية عنهم أئمة أهل الحديث مثل مالك بن أنس وشعبة بن الحجاج سفيان بن عيينة و يحي بن سعيد القطان وعبد الرحمان بن مهديّ وغيرهم من الأئمة لما سهل علينا الإنتصاب لما سألت من التَّمييز والتحصيل ((مسلم بشرح النووي:1/ 57).
ثم تابع قائلا: إعلم – وقفك الله تعالى – أن الواجب علي كل أحد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها وثقات الناقلين لها من المتهمين أن لايروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه والستارة في ناقليه وأن يتقي منها ما كان منها عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع (مسلم بشرح النووي:1/ 57)
ولم يتوقف الذهبي وقفة في قبول هذا الموقف من النقاد ,بل شنع على من فعل ذلك فتجده يقول حين ينصح طلاّب العلم ما معناه: وإياك من خلط الصحيح بالضعيف ,فأيّ منفعة لك به حتى لا تتميز بينهما , وهناك كتب كثيرة حذر الإمام الذهبي من قراءتها ونها عن مطالعتها؛ فماحمله على ذلك إلا لأنها مملوءة بالأكاذيب والأباطيل التي ينسب إلى سلفنا الصالحين لاسيما إلى الرسول صلّى الله عليه وسلم, فكيف يليق به أن يقع في مثل ما حذّر منه وذاد عنه من بعده؟ فهل يتصور منه مثل ذلك الفعلات ….. كلا .. ثم كلا …….
فيطرح سؤال نحوه: ما المبرر للإمام الذهبى في تساهله في الكبائر؟
وهل تراجع عن تشدده في الموقف الذي أنف ذكره؟
فللإجابة عن هذه التسائلات نرجع إلى المحور الأول وهو: نسبة هذه النسخة لهذا الكتاب إلي المؤلف ومدي صحتها.
هذه النسخة الموجوة عندنا ليس بنسخة صحيحة للكبائر ,- حتى يستغلّ به أويشنع عليه – بل هي نسخة دخلتها أيادي الفقهاء الصوفيين غلب عليها تصحيفات الوعاظ القصّاص كما يبدو ذلك جليا لكل من له أدنى إلمام بهذا الكتاب وسأبينها فيما بعد , والنسخة الصحيحة ما زالت باقية حتى الآن في مكتبة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة, وهو يقطع بأن النسخة التى نتداولها اليوم ليس من تصنيفات الإمام الذهبي.
فللّه در الشيخ مستو وقد قام بتحقيق هذه النسخة لهذا الكتاب كما قام بتخريج أحاديثه والتعليق عليه ,وهذه النسخة لم تبتكر في الحاضر. .بل اعتمد عليها الإمام عبدالرؤوف المناوي في كتابه “فيض القدير”.
والمناوى رحمه الله يستدلّ بتصحيح حديث ورد في فضل صلاة الجماعة بما نصّ الإمام الذهبى في الكبائر ويقول: قال الذهبي: وإسناده جيّد , حينما نجد هذه العبارة فيها ولا نجدها في الكتاب الذي نداولها اليوم. وكذلك وجدها عديد من العلماء المعاصرين عندما قاموا بتحقيق هذا الكتاب ولكنهم وجدوا هذه النسخة تختلف مع الأخرى فى الشكل وتتحد في الموضوع وكل نسب إلي الإمام الذهبي فتحيروا وبدؤوا المحاولة في الجمع بينهما, ومما زاد إلي تحيرهم أنهم وجدوا هذه النسخة حجمها لا يبلغ الثلث بالنسبة إلي البقية , فأصبحت المسألة معقدة لديهم حتى اضطرّوا إلى أن سمّوها بالصغرى والأخرى بالكبرى,
وهذا القائل لم أجد له سلفا تقدمه بهذا القول , رغم أنه تبعه فيه أكثر المعاصرين ,فهذا قول أحدهم: وكتاب الكبائر وهو للذهبي وهو جزآن، يبررموقفه بأنه ملأ الكبرى بالضعيف ثم نقحه فصنّف الصغرى, فهذا إدعاء محض لا يخلو من تكلف فما أراه إلا اضطر إلى ذلك لما قدمنا.
ويمكن الإجابة عن هذه الدعاوي بما قال الشيخ مستو فيقول: كل من ترجم للإمام الذهبي عدّ كتابه الكبائر في تصانيفه ولم يفصِّل أحد أن له جزآن، الصغرى و الكبرى.
ثانيا:- دعوى أنه اختصره من الكبرى غير صحيح لأن الصغرى – قد ضمن زيادات ليست فى الكبرى وحذف لبعض الأبواب التى لابد أن يحتويها المختصَر.
قلت: وثالثا:- لوكان اختصارا لبينه ذلك في مقدمته أو أشار إليه فى أي كتبه كما هو عادته ,
والواقع أن المقدمة لكلا الكتابين واحدة الا بعض الألفاظ اليسيرة ليس لها كبير أثر في تغيير المعنى. أضف إلي ذلك أن هذه النسخة الأصلية تتفق تماما مع تصانيفه الأخري مثل “التلخيص لمستدرك الحاكم” وغيره.
ولقد حاول العلماء للتوجيه والتبرير لموقف الذهبي في كتابه الكبائر حيث قالوا: إنه كان من باكورة تآليفه في ميدان التأليف. إلا أن الأستاذ مستو لم يرض ذلك ويقول: وهذا ليس بصحيح لأنه لم يعرف انّ الأئمة قد تراجعوا عن أوائل تآليفهم.
إلا أني أخالف مع الأستاذ مستو في ذلك ,لأن للأئمة عادة التراجع عن أوائل تآليفهم. فهذا الإمام الذهبي يشير إلي ذلك في كتابه سير أعلام النبلاء (7/ 243) عندما ترجم عن الحاكم النيسابوري يقول: كتابه المستدرك و اختصرته فإنه يعوز عملا وتحريراً.
فهذا يدلّ على أنه لم ينقح ذلك تنقيحا حسنا. ومن الجدير بالذكر أنه لا يحسن لأحد أن يستدلّ بحديث رواه الحاكم لمجرد موافقة الذهبي له في التلخيص وإن كان الإستدلال به شائعا عند العلماء لا سيما المعاصرين.
وكذلك كتابه الكبائر كان من أوائل مصنفاته، يدلّ عليه وجود بعض الأحكام الحديثيّة مخالفة لما في كتبه الأخرى علم بالتاريخ أنها ألفت في أواخر عمره.
وبعد أن قررنا أن هناك نسختين أن الصغرى – على حد من قال به – هي الصحيحة, لابد لنا القيام بالمقارنة بين هاتين النسختين مقارنة عاجلة لكي يتميز أهم الفروق بينهما حتى تستقرّ النفس وتقبل ما قدمنا.
- النسخة الصحيحة تتضمن ستة وسبعين كبيرة على حين أنّ غير الأصليّة تشتمل سبعين كبيرة على صورة مستعجلة
2) النسخة غير الأصليّة أسلوبها أسلوب واعظ صوفيّ والنسخة الصحيحة أسلوبها أسلوب محدث فطن.
3) النسخة الصحيحة فيها تعقيبات علميّة وفوائد حديثيّة تظهر فيه ملكة الذهبي كناقد جهبذ ريثما النسخة غير الأصليّة خلية عنه بتمام. وهناك فروق غير ما ذكرتها ولكني أكتفي بها لأن المقام قد يطول باستقصائها.
ولأجل خفاء هذه الحقيقة شن العلماء الإغارة علي الذهبى ومن جملتهم الشيخ ابن حجر الهيتمى في مقدمة كتابه”الزواجر”. فوالله هو براء من كلّ ما قالوا براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام. إلا أن ابن حجر رحمه الله لم يجزم بنسبة الكتاب إليه فعبر عنه وقال: لم أرى في هذا الموضوع كتابا حافلا إلا أني وجدته في كتاب منسوب إلي إمام دهره شمس الدين الذهبي …………. (الخ بتصرف).
فهذا التشكيك أيضا ينبهنا إلى إعادة الفكرة حوله حسب ما قدمنا.