مختلف الحديث 42:
بإشراف سيف بن غدير النعيمي
جمع واختصار سيف بن دورة الكعبي
وممن شارك أحمد بن علي
—————————–
قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث (أبلي وأخلقي) وبوب عليه البخاري باب الدعاء لمن لبس ثوباً.
يعارضه حديث (اللهم متعني بأبي بزوجي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبأبي سفيان وبأخي معاوية، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنك دعوت الله لآجال معلومة، وأرزاق مقسومة، وآثار مبلوغة … ) أخرجه أحمد
——————–
جواب أحمد بن علي (مختلف الحديث 42):
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (في مجموع الفتاوى): قال العلماء إن المحو والإثبات في صحف الملائكة، وأما علم الله سبحانه فلا يختلف ولا يبدو له ما لم يكن عالما به فلا محو فيه ولا إثبات. اهـ.
قال العلامة السعدي: يمحو الله ما يشاء من الأقدار ويثبت ما يشاء منها وهذا المحو والتغير في غير ما سبق به علمه، وكتب قلمه، فإن هذا لا يقع فيه تبديل ولا تغير لأن ذلك محال على الله أن يقع في علمه نقص أو خلل، ولهذا قال: (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ). أي اللوح المحفوظ الذي ترجع إليه سائر الأشياء فهو أصلها وهي فروع وشعب، فالتغير والتبديل يقع في الفروع والشعب كأعمال اليوم والليلة التي تكتبها الملائكة، ويجعل الله لثبوتها أسباباً ولمحوها أسباباً لا تتعدى تلك الأسباب ما رسم في اللوح المحفوظ، كما جعل البر والصلة والإحسان من أسباب طول العمر وسعة الرزق، وكما جعل المعاصي سببا لمحق بركة الرزق والعمر، كما جعل أسباب النجاة من المهالك والمعاطب بحسن قدرته وإرادته. وما يدبره منها لا يخالف ما قد علمه وكتبه في اللوح المحفوظ.
– ذهب بعض أهل العلم إلى أن السعادة والشقاوة والحياة والموت يدخلها المحو والإثبات واحتجوا بقول الله تعالى: (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) {الرعد:39}. وحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه. متفق عليه.
ومنها حديث: لا يرد القدر إلا الدعاء. أخرجه الترمذي
قال الإمام النووي: وقد أجاب العلماء على ذلك بأجوبة: الصحيح منها أن هذه الزيادة بالبركة في العمر والتوفيق للطاعة وعمارة أوقاتها بما ينفعه في الآخرة. الثاني: أنه بالنسبة إلى ما يظهر للملائكة وفي اللوح المحفوظ ونحو ذلك فيظهر لهم في اللوح أن عمره ستون سنة إلا أن يصل رحمه، فإن وصلها زِيدَ له أربعون وقد علم سبحانه ما يقع له من ذلك وهو معنى قوله تعالى: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ. فبالنسبة إلى علم الله وما سبق به قدره لا زيادة بل هي مستحيلة، وبالنسبة إلى ما ظهر للمخلوقين تتصور الزيادة وهو مراد الحديث. اهـ. شرح مسلم بتصرف يسير.
قال الحافظ ابن حجر: والحق أن النزاع لفظي وأن الذي يسبق في علم الله لا يتغير ولا يتبدل، وأن الذي يجوز عليه التغيير والتبديل ما يبدو للناس من عمل العامل ولا يبعد أن يتعلق ذلك بما في علم الحفظة والموكلين بالآدمي فيقع فيه المحو والإثبات كالزيادة في العمر والنقص. انتهى. (من الفتح).انتهى منقولاً فتاوى لبعض لجان الفتوى
وفي مشكل الحديث لابن فورك:
قال ورد إن صلة الرحم تزيد في العمر … وقال ابن مسعود رضي الله عنه حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق إن الله تعالى يبعث ملك الأرحام فيكتب أجل المولود في بطن أمه ورزقه وشقاوته وسعادته، أخرجه الإمام أحمد
وكذلك روى ابن عمر وجابر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل هذا وهذه أخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاءت مجيء كتاب الله إن لكل نفس أجلها لا يتقدم أجلها ولا يتأخر
فأما معنى الزيادة في العمر فقد قال بعض أهل العلم
إن معناه السعة والزيادة في الرزق
وقد قيل إن الفقر هو الموت الأكبر …
وقال قائلون: إن معنى ذلك أن يكون السابق في المعلوم أنه إذا وصل رحمه كان عمره أكثر منه إذا لم يصل فيكون كله مما سبق في العلم على الحد الذي يحدث ويوجد في المستأنف فإن قيل فما معنى قوله {وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب}
قيل معنى ذلك لا يعمر من معمر من ابتداء الأمر ولا ينقص من عمره عن الآخر في الإبتداء الأجل ذلك في كتاب قد أبين صحته وأظهر قدره لا أنه يكون زائدا ثم ينقص أو ناقصا ثم يزيد؛ لأنه يؤدي إلى أن لا يكون الله عز وجل عالما بالأشياء قبل كونها على حسب ما يكون ولا يجوز ذلك في وصفه
الكتاب: مشكل الحديث وبيانه
المؤلف: محمد بن الحسن بن فورك الأنصاري الأصبهاني، أبو بكر (المتوفى: 406هـ)
جواب سيف بن دورة الكعبي (مختلف الحديث 42):
هذه نقولات للعلماء أبدأها بالعلماء المعاصرين:
قال ابن عثيمين في اللقاء المفتوح: المهم الآن أن اللوح المحفوظ هو هذا اللوح الذي كتب الله فيه مقادير كل شيء، وهو محفوظ من التغيير، محفوظ من أن يناله أحد، والله سبحانه وتعالى يعلم ما كَتَب فيه، وقلنا: إنه محفوظ لأنه لا يتغير، وما بأيدي الملائكة يتغير، وقلنا: إن الكتابات أربعة: الأولى: كتابة اللوح المحفوظ.
والثانية: كتابة الأجنة.
والثالثة: الكتابة الحولية، تكون في ليلة القدر.
والرابعة: كتابة الأعمال بعد وقوعها، وتكون هذه بأيدي الملائكة، عن اليمين واحد من الملائكة، وعن الشمال واحد.
قال الشيخ مقبل: معنى «ينسئ له في أثره» قال رحمه الله في حديث أنس: «من أحب أن يبسط له في رزقه وينسئ له في أثره فليصل رحمه».
يبارك له في عمره, لقوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَاخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} (الأعراف:34).
يزيد له في عمره ويكون ذلك في علم الملك, قال الله تعالى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} (الرعد:39) , وقال سبحانه وتعالى: {وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (فاطر: 11) وهذا الراجح يصلح الله له ذريته.
قال عبدالمحسن العباد: سابعاً: ما قدره الله وقضاه، وكتبه في اللوح المحفوظ، لابد من وقوعه، ولا تغيير فيه، ولا تبديل، كما قال الله عز وجل: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد:22]، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (رفعت الأقلام، وجفت الصحف). وأما قول الله عز وجل: يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ [الرعد:39]، فقد فسر بأن ذلك يتعلق بالشرائع، فينسخ الله منها ما يشاء، ويثبت ما يشاء، حتى ختمت برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، التي نسخت جميع الشرائع قبلها. وفسر بالأقدار التي هي في غير اللوح المحفوظ، كالذي يكون بأيدي الملائكة، وانظر ((شفاء العليل)) لابن القيم في الأبواب الثاني والرابع والخامس والسادس، فقد ذكر في كل باب تقديراً خاصاً بعد التقدير في اللوح المحفوظ. وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر)، أخرجه الترمذي وحسنه، وهو في السلسلة الصحيحة للألباني، فلا يدل على تغيير ما في اللوح المحفوظ، وإنما يدل على أن الله قدر السلامة من الشرور، وقدر أسباباً لتلك السلامة، والمعنى: أن الله دفع عن العبد شراً، وذلك مقدر بسببٍ يفعله وهو الدعاء، وهو مقدر، وكذلك قدر أن يطول عمر الإنسان، وقدر أن يحصل منه سبب لذلك، وهو البر وصلة الرحم. فالأسباب والمسببات كلها بقضاء الله وقدره، وكذلك يقال في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (من سره أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه) رواه البخاري و مسلم.
وأجل كل إنسان مقدر في اللوح المحفوظ، لا يتقدم عنه ولا يتأخر، كما قال الله عز وجل: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا [المنافقون:11]، وقال تعالى: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَاخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34]، وكل من مات أو قتل فهو بأجله، ولا يقال كما قالت المعتزلة: إن المقتول قطع عليه أجله، وإنه لو لم يقتل لعاش إلى أجل آخر، فإن كل إنسان قدر الله له أجلاً واحداً، وقدر لهذا الأجل أسباباً، فهذا يموت بالمرض، وهذا يموت بالغرق، وهذا يموت بالقتل، وهكذا.
تنبيه (سيف): هذا الحديث ضعفه بعض الباحثين بجهالة عبدالله بن أبي الجعد واحتمال عدم سماعه من ثوبان رضي الله عنه حيث أن أخاه سالم لم يسمع من ثوبان، ولولا ذلك لقواه بحديث سلمان رضي الله عنه. ولم يلتفت آخرون لاحتمال الإنقطاع.
وأنا حسنته بحديث أنس في الدعاء للطبراني 29 وقلت: هو حسن لذاته، وربما حديث أبي سيد أشار إليه الترمذي وورد بلفظ (يعتلجان) ولم أجد ما يشهد لها. (تحقيقي لكشف الأستار 3136)
قال صالح آل الشيخ: فهذا التقدير العمري كتابةً، فتكون بيد الملك، وهو يختلف عن التقدير الذي في اللوح المحفوظ بشيء، وهو أنّه يقبل التغيير، وأما الذي في اللوح المحفوظ فإنه لا يقبل التغيير، … ولهذا كان عمر – رضي الله عنه – يقول في دعائه: “اللهم إن كنت كتبتني شقيا فاكتبني سعيدا”، … وهذا له حكمة بالغة، وهو أن ينشط العبد فيما فيه صلاحه، وأن يعظم الرغب إلى الله جل وعلا، وأن الله سبحانه يعلم ما العباد عاملون، ومما يعلم دعاؤهم ورجاؤهم بالله جل وعلا ووسائلهم إليه سبحانه في تحقيق ما به صلاحهم في الآخرة.
قال ابن أبي العز في شرح الطحاوية: [الدُّعَاءُ الْمَشْرُوعُ وَآثَارُهُ]
فَإِنْ قِيلَ: هَلْ يَلْزَمُ مِنْ تَاثِيرِ صِلَةِ الرَّحِمِ فِي زِيَادَةِ الْعُمُرِ وَنُقْصَانِهِ تَاثِيرُ الدُّعَاءِ فِي ذَلِكَ أَمْ لَا؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمِّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «قَدْ سَأَلَتِ اللَّهَ تَعَالَى لِآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ» مسلم 2663الْحَدِيثَ، كَمَا تَقَدَّمَ. فَعُلِمَ أَنَّ الْأَعْمَارَ مُقَدَّرَةٌ، لَمْ يُشْرَعِ الدُّعَاءُ بِتَغَيُّرِهَا، بِخِلَافِ النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ. فَإِنَّ الدُّعَاءَ مَشْرُوعٌ لَهُ نَافِعٌ فِيهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الدُّعَاءَ بِتَغْيِيرِ الْعُمُرِ لَمَّا تَضَمَّنَ النَّفْعَ الْأُخْرَوِيَّ – شُرِعَ كَمَا فِي الدُّعَاءِ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ وَقُدْرَتِكَ عَلَى الْخَلْقِ، أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي» صححه محققو المسند 30/ 265، إِلَى آخِرِ الدُّعَاءِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلَّا الْبِرُّ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ».
وَفِي الْحَدِيثِ رَدٌّ عَلَى مَنْ يَظُنُّ أَنَّ النَّذْرَ سَبَبٌ فِي دَفْعِ الْبَلَاءِ وَحُصُولِ النَّعْمَاءِ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَّهُ نَهَى عَنِ النَّذْرِ، وَقَالَ: أَنَّهُ لَا يَاتِي بِخَيْرٍ، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ بِهِ مِنَ الْبَخِيلِ».
وَاعْلَمْ أَنَّ الدُّعَاءَ يَكُونُ مَشْرُوعَا نَافِعًا فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ دُونَ … بَعْضٍ، وَكَذَلِكَ هُوَ. وَكَذَلِكَ لَا يُجِيبُ اللَّهُ الْمُعْتَدِينَ فِي الدُّعَاءِ. وَكَانَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَكْرَهُ أَنْ يُدْعَى لَهُ بِطُولِ الْعُمُرِ، وَيَقُولُ: هَذَا أَمْرٌ قَدْ فُرِغَ مِنْهُ.
[تَاوِيلُ قَوْلِهِ تَعَالَى ” يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ “]
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [فاطر: 11] (فَاطِرٍ: 11)، فَقَدْ قِيلَ فِي الضَّمِيرِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ عُمُرِهِ} [فاطر: 11] أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمْ: عِنْدِي دِرْهَمٌ وَنِصْفُهُ، أَيْ: وَنِصْفُ دِرْهَمٍ آخَرَ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِ مُعَمَّرٍ آخَرَ، وَقِيلَ: الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ فِي الصُّحُفِ الَّتِي فِي أَيْدِي الْمَلَائِكَةِ، وَحُمِلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ – يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 38 – 39] (الرَّعْدِ: 38 – 39)، عَلَى أَنَّ الْمَحْوَ وَالْإِثْبَاتَ مِنَ الصُّحُفِ الَّتِي فِي أَيْدِي الْمَلَائِكَةِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]. اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ سِيَاقُ الْآيَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد: 38]، ثُمَّ قَالَ: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39] (الرَّعْدِ: 39)، أَيْ: مِنْ ذَلِكَ الْكِتَابِ، {وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39]، أَيْ: أَصْلُهُ، وَهُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ. وَقِيلَ: يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِنَ الشَّرَائِعِ وَيَنْسَخُهُ وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ فَلَا يَنْسَخُهُ، وَالسِّيَاقُ أَدَلُّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنَ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَاتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد: 38].
فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ الرَّسُولَ لَا يَاتِي بِالْآيَاتِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، بَلْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ – يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 38 – 39] (الرَّعْدِ: 38 – 39)، أَيْ: إِنَّ الشَّرَائِعَ لَهَا أَجَلٌ وَغَايَةٌ تَنْتَهِي إِلَيْهَا، ثُمَّ تُنْسَخُ بِالشَّرِيعَةِ الْأُخْرَى، فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِنَ الشَّرَائِعِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ، وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ. وَفِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ أُخْرَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
قال السمعاني: قَوْله تَعَالَى: {يمحو الله مَا يَشَاء وَيثبت} فِيهِ أَقْوَال: رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه يمحو الله مَا يَشَاء من الشَّرِيعَة، أَي: ينْسَخ. وَيثبت مَا يَشَاء، فَلَا ينْسَخ. وَحكي عَنهُ أَيْضا بِرِوَايَة سعيد بن جُبَير قَالَ: {يمحو الله مَا يَشَاء وَيثبت} إِلَّا الشقاوة والسعادة والحياة وَالْمَوْت، وَعَن عمر وَعبد الله بن مَسْعُود – رَضِي الله عَنْهُم – أَنَّهُمَا قَالَا: يمحو الشقاوة والسعادة أَيْضا، ويمحو الْأَجَل والرزق، وَيثبت مَا يَشَاء. وَكَانَ عمر يَقُول: اللَّهُمَّ إِن كنت كتبتني شقيا فامحه واكتبني مَا تشَاء سعيدا، فَإنَّك قلت: {يمحو الله مَا يَشَاء وَيثبت}. وَفِي بعض الْآثَار أَن الرجل يكون قد بَقِي لَهُ من عمره ثَلَاثُونَ سنة فَيقطع رَحمَه، فَيرد إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام، وَالرجل يكون قد بَقِي لَهُ من عمره ثَلَاثَة أَيَّام فيصل رَحمَه فيمد إِلَى ثَلَاثِينَ سنة. وَقد ورد خبر يُؤَيّد قَول ابْن عَبَّاس فِي أَنه لَا يمحى الشقاوة والسعادة وَالْأَجَل والرزق، روى حُذَيْفَة بن أسيد عَن النَّبِي أَنه قَالَ: ” إِذا وَقعت النُّطْفَة فِي الرَّحِم، وَمضى عَلَيْهَا خمس وَأَرْبَعُونَ لَيْلَة، قَالَ الْملك: يَا رب، أذكر أم أُنْثَى؟ فَيَقْضِي الله، وَيكْتب الْملك، فَيَقُول: يَا رب، أشقي أم سعيد؟ فَيَقْضِي الله تَعَالَى، وَيكْتب الْملك، فَيَقُول: يَا رب مَا الْأَجَل؟ وَمَا الرزق؟ فَيَقْضِي الله تَعَالَى وَيكْتب الْملك ثمَّ لَا يُزَاد فِيهِ وَلَا ينقص. ذكره مُسلم فِي الصَّحِيح.
{وَعِنْده أم الْكتاب (39) وَإِن مَا نرينك بعض الَّذِي نعدهم أَو نتوفينك فَإِنَّمَا عَلَيْك الْبَلَاغ وعلينا الْحساب (40) أولم يرَوا أَنا نأتي الأَرْض ننقصها من أطرافها وَالله}
وَفِي الْآيَة قَول آخر، وَهُوَ قَول الْحسن: {يمحو الله مَا يَشَاء} أَي: يمحو من حضر أَجله وَيثبت مَا يَشَاء من لم يحضر أَجله، وَفِي الْآيَة قَول رَابِع: أَن المُرَاد مِنْهُ أَن الْحفظَة يَكْتُبُونَ جَمِيع أَعمال بني آدم، فَيَمْحُو الله مِنْهَا مَا يَشَاء، وَهُوَ مَا لَا ثَوَاب عَلَيْهِ وَلَا عِقَاب، وَيثبت مَا يَشَاء وَهُوَ الَّذِي يسْتَحق عَلَيْهِ الثَّوَاب وَالْعِقَاب، وَقيل: {يمحو الله مَا يَشَاء} أَي: يمحو مَا يَشَاء لمن عَصَاهُ فختم أمره بِالطَّاعَةِ، وَيثبت بالمعصية لمن أطَاع، وَختم أمره بالمعصية. وَالْمَنْقُول عَن السّلف هِيَ الْأَقْوَال الَّتِي ذَكرنَاهَا قبل هَذَا القَوْل.
انتهى
نقل لكلام ابن كثير، وما بين القوسين من حكم فهو لي: قال ابن كثير: وقوله: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي ذلك، فقال الثوري، ووَكِيع، وهُشَيْم، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُدَبِّرُ أَمْرَ السَّنَةِ، فَيَمْحُو مَا يَشَاءُ، إِلَّا الشَّقَاءَ وَالسَّعَادَةَ، وَالْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ. وَفِي رِوَايَةٍ: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} قَالَ: كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ، وَالشَّقَاءَ وَالسَّعَادَةَ فَإِنَّهُمَا قَدْ فُرِغَ مِنْهُمَا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} إِلَّا الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ، وَالشَّقَاءَ وَالسَّعَادَةَ، فَإِنَّهُمَا لَا يَتَغَيَّرَانِ.
وَقَالَ مَنْصُورٌ: سَأَلْتُ مُجَاهِدًا فَقُلْتُ: أَرَأَيْتَ دُعَاءَ أَحَدِنَا يَقُولُ: اللَّهُمَّ، إِنْ كَانَ اسْمِي فِي السُّعَدَاءِ فَأَثْبِتْهُ فِيهِمْ، وَإِنْ كَانَ فِي الْأَشْقِيَاءِ فَامْحُهُ عَنْهُمْ وَاجْعَلْهُ فِي السُّعَدَاءِ. فَقَالَ: حَسَنٌ. ثُمَّ لَقِيتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِحَوْلٍ أَوْ أَكْثَرَ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: {إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدُّخَانِ: 3، 4] قَالَ: يَقْضِي فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مَا يَكُونُ فِي السَّنة مِنْ رِزْقٍ أَوْ مُصِيبَةٍ، ثُمَّ يُقَدِّمُ مَا يَشَاءُ وَيُؤَخِّرُ مَا يَشَاءُ، فَأَمَّا كِتَابُ الشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ فَهُوَ ثَابِتٌ لَا يُغير.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ شَقِيق بْنِ سَلَمَةَ: إِنَّهُ كَانَ يَكْثُرُ أَنْ يَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ، إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنَا أَشْقِيَاءَ فَامْحُهُ، وَاكْتُبْنَا سُعَدَاءَ، وَإِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنَا سُعَدَاءَ فَأَثْبِتْنَا، فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ وَعِنْدَكَ أُمُّ الْكِتَابِ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ أَيْضًا: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِي حَكِيمَةَ عِصْمَةَ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدي؛ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَهُوَ يَبْكِي: اللَّهُمَّ، إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَ عَلَيَّ شِقْوَةً أَوْ ذَنْبًا فَامْحُهُ، فَإِنَّكَ تَمْحُو مَا تَشَاءُ وَتُثْبِتُ، وَعِنْدَكَ أُمُّ الْكِتَابِ، فَاجْعَلْهُ سَعَادَةً وَمَغْفِرَةً.
وَقَالَ حَمَّادٌ عَنْ خَالِدٍ الحذَّاء، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ أَيْضًا.
وَرَوَاهُ شَرِيكٌ، عَنْ هِلَالِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُكَيْم، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، بِمَثَلِهِ.
وقال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا حجاج، حَدَّثَنَا خِصَافٌ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ؛ أَنَّ كَعْبًا قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَأَنْبَاتُكَ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}.
قلت (سيف):قال أحمد شاكر: فيه أبوحمزة الأعور وراجع تحقيقه لتفسير ابن جرير (نقله باحث)
وَمَعْنَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ: أَنَّ الْأَقْدَارَ يَنْسَخُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِنْهَا، وَيُثْبِتُ مِنْهَا مَا يَشَاءُ، وَقَدْ يُسْتَانَسُ لِهَذَا الْقَوْلِ (9) بِمَا رَوَاهُ الإمام أحمد:
حَدَّثَنَا وَكِيع، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، وَهُوَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الجَعْد، عَنْ ثَوْبَان قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إن الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبه، وَلَا يَرُدُّ القَدَر إِلَّا الدُّعَاءُ، وَلَا يَزِيدُ فِي الْعُمُرِ إِلَّا الْبِرُّ”.
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، بِهِ.
وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: “إِنَّ الدُّعَاءَ وَالْقَضَاءَ لَيَعْتَلِجَانِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ”.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْج، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ لِلَّهِ لَوْحًا مَحْفُوظًا مَسِيرَةَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ لَهَا دَفَّتَان مِنْ يَاقُوتٍ -وَالدَّفَّتَانِ: لَوْحَانِ -لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ [كُلَّ يَوْمٍ ثَلَاثُمِائَةٍ] وَسِتُّونَ لَحْظَةً، يَمْحُو مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ.
وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زِيَادِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرظي، عَنْ فُضَالة بْنِ عُبَيد، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ” [إن الله] يَفْتَحُ الذِّكْرَ فِي ثَلَاثِ سَاعَاتٍ يَبْقَيْنَ مِنَ اللَّيْلِ، فِي السَّاعَةِ الْأُولَى مِنْهَا يَنْظُرُ فِي الذِّكْرِ الَّذِي لَا يَنْظُرُ فِيهِ أَحَدٌ غَيْرُهُ، فَيَمْحُو مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ”. وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ. (زياد منكر الحديث) …
وَقَالَ عِكْرِمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْكِتَابُ كِتَابَانِ: فَكُتَّابٌ يَمْحُو اللَّهُ مِنْهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ. (سليمان التيمي لم يسمع من عكرمة)
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} يقول: هو ….
وَقَالَ الحسن البصري: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ} قَالَ: مَنْ جَاءَ أَجْلُهُ، فَذَهَب، وَيُثْبِتُ الَّذِي هُوَ حَيٌّ يَجْرِي إِلَى أَجْلِهِ.
وَقَدِ اخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ جَرِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ. انتهى
قال الصنعاني في السبل وذكر قولين في شرح حديث (من أراد أن يبسط له في رزقه … ) قال ابن التين ظاهر الحديث أي حديث البخاري معارض لقوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَاخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} قال والجمع بينهما من وجهين أحدهما
أحدهما البركة في العمر بسبب الطاعة، والثاني: الزيادة الحقيقية بالنسبة لعلم الملك. قال: والوجه الأول أليق فإن الأثر ما يتبع الشيء فإذا أخر حسن أن يحمل على الذكر الحسن بعد فقد المذكور ورجحه الطيبي وأشار إليه في الفائق. ويؤيده ما أخرجه الطبراني في الصغير بسند ضعيف عن أبي الدرداء قال ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من وصل رحمه أنسئ له في أجله؟ فقال: أنه ليس زيادة في عمره قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَاخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} ولكن الرجل تكون له الذرية الصالحة
يدعون له من بعده وأخرجه في الكبير مرفوعا من طريق أخرى وجزم ابن فورك بأن المراد بزيادة العمر نفي الآفات عن صاحب البر في فهمه وعقله قال غيره في أعم من ذلك وفي علمه ورزقه ولابن القيم في كتاب الداء والدواء كلام يقضي بأن مدة حياة العبد وعمره هي مهما كان قلبه مقبلا على الله ذاكرا له مطيع غير عاص فهذه هي عمره ومتى أعرض القلب عن الله تعالى واشتغل بالمعاصي ضاعت عليه أيام حياة عمره فعلى هذا معنى أنه ينسأ له في أجله أي يعمر الله قلبه بذكره وأوقاته بطاعته ويأتي تحقيق صلة الرحم.
قال في مرقاة المصابيح:
وعين مقاديرهم تعيينا بتا لا يتأتى خلافه بالنسبة لما في علمه القديم المعبر عنه بأم الكتاب أو معلقا كأن يكتب في اللوح المحفوظ فلان يعيش عشرين سنة إن حج وخمسة عشر إن لم يحج وهذا هو الذي يقبل المحو والإثبات المذكورين في قوله تعالى (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) الرعد أي التي لا محو فيها ولا إثبات فلا يقع فيهما إلا ما يوافق ما أبرم فيها كذا ذكره ابن حجر وفي كلامه خفاء إذ المعلق والمبرم كل منهما مثبت في اللوح غير قابل للمحو نعم المعلق في الحقيقة مبرم بالنسبة إلى علمه تعالى فتعبيره بالمحو إنما هو من الترديد الواقع في اللوح إلى تحقيق الأمر المبرم المبهم الذي هو معلوم في أم الكتاب أو محو أحد الشقين الذي ليس في علمه تعالى فتأمل فإنه دقيق وبالتحقيق حقيق
قال المباركفوري:
” رفعت الأقلام وجفت الصحف ” أي: كُتب في اللوح المحفوظ ما كتب من التقديرات، ولا يكتب بعد الفراغ منه شيء آخر.
” تحفة الأحوذي ” (7/ 186).
والكتابة نوعان: نوع لا يتبدل ولا يتغير وهو ما في اللوح المحفوظ، ونوع يتغير ويتبدل وهو ما بأيدي الملائكة، وما يستقر أمره أخيراً
عندهم هو الذي قد كتب في اللوح المحفوظ، وهو أحد معاني قوله تعالى: (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) الرعد / 39
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية:
عن الرزق هل يزيد أو ينقص؟ وهل هو ما أكل أو ما ملكه العبد؟
فأجاب:
الرزق نوعان:
أحدهما: ما علمه الله أنه يرزقه فهذا لا يتغير، والثاني: ما كتبه وأعلم به الملائكة، فهذا يزيد وينقص بحسب الأسباب، فإن العبد يأمر
الله الملائكة أن تكتب له رزقاً، وإن وصل رحمه زاده الله على ذلك، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ” مَن سرَّه أن يبسط له في
رزقه ويُنسأ له في أثره فليصِل رحِمه “، وكذلك عُمُر داود زاد ستين سنة فجعله الله مائة بعد أن كان أربعين، ومِن هذا الباب قول عمر: ” اللهم إن كنت
كتبتَني شقيّاً فامحني واكتبني سعيداً فإنك تمحو ما تشاء وتُثبت “، ومن هذا الباب قوله تعالى عن نوح (أنِ اعبدوا الله واتقوه وأطيعون يغفر لكم من ذنوبكم
و يؤخركم إلى أجلٍ مسمَّى)، وشواهده كثيرة، والأسباب التي يحصل بها الرزق هي من جملة ما قدَّره الله وكتبه، فإن كان قد تقدم بأنه يرزق العبد بسعيه
واكتسابه: ألهمه السعي والاكتساب، وذلك الذي قدره له بالاكتساب لا يحصل بدون الاكتساب، وما قدره له بغير اكتساب كموت موروثه يأتيه به بغير اكتساب.
والسعي سعيان: سعي فيما نصب للرزق كالصناعة والزارعة والتجارة، وسعي بالدعاء والتوكل والإحسان إلى الخلق ومحو ذلك، فإن الله في عون
العبد ما كان العبد في عون أخيه.
” مجموع الفتاوى ” (8/ 540، 541).
قال ابن القيّم في “الجواب الكافي”: “إن هذا المقدور قدّر بأسباب ومن أسبابه الدعاء، فلم يقدر مجردًا عن سببه، ولكن قدر بسببه؛ فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور، ومتى لم يأتِ بالسبب انتفى المقدورُ وهكذا، كما قدِّر الشّبَعُ والرِّيُّ بالأكل والشرب، وقُدِّر الوَلَدُ بالوطء، وقُدر حصول الزرع بالبذر …. وحينئذ فالدعاء من أقوى الأسباب، فإذا قُدر وقوعُ المدعوّ به لم يصحّ أن يقال: لا فائدة في الدعاء، كما لا يقال: لا فائدة في الأكل والشرب” ا. هـ.
وقال السندي في شرحه على سُنن ابن ماجه: قال الغزالي: “فإن قيل: ما فائدةُ الدعاء مع أنَّ القضاءَ لا مَرَدَّ له؟ فاعلمْ أنَّ مِنْ جملة القضاء ردَّ البلاء بالدعاء؛ فإنَّ الدُّعاءَ سببُ ردّ البلاء، ووجود الرحمة، كما أنَّ البذْرَ سببٌ لخروج النبات من الأرض، وكما أنَّ التّرس يدفع السهم، كذلك الدعاء يرد البلاء” ا. هـ.
وقد تكلم عنه المازري (تـ536 هـ) في المعلم بفوائد مسلم بكلام (3/ 184 – 186) فانظر: إكمال المعلم للقاضي عياض (8/ 153 – 156)، والمفهم للقرطبي (6/ 681 – 682) وشرح النووي (8/ 452 – 454)،
تنبيه1: ما في هذا الكتاب هو تقدير عام لكل ما هو كائن إلى يوم القيامة، وهناك تقديرات خاصة منها ما يختص بآدم وذريته كما جاء في حديث احتجاج آدم وموسى، حيث قال آدم: “أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء، وقربك نجياً، فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال موسى: بأربعين عاماً”. صحيح البخاري (3409)، وصحيح مسلم (2652).
ومنها ما يختص بكل فرد من بني آدم كالتقدير الذي يكون عند نفخ الروح في الجنين، وهذه التقديرات لا تتعارض مع التقدير العام،
تنبيه 2: أثر عمر -رضي الله عنه- هذا الدعاء:”اللهم، إن كنت كتبتني عندك من الأشقياء، فأسألك بقدرتك أن تمحو ذلك، وتكتبني من السعداء”،ذكره في اعتقاد أهل السنة (1206 – 1207)، وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (8/ 540)، وابن القيم في شفاء العليل (1/ 90).
-وسأل بعض أهل العلم:
هل يجوز مثل هذا الدعاء أن يطلب من الله المحو والكتابة؟.
الجواب
أن القدر قدران:
أحدهما: القدر المثبت، أو المطلق، أو المبرم: وهو ما في أم الكتاب – اللوح المحفوظ- فهذا ثابت لا يتغير، ولا يتبدل.
وثانيهما: القدر المعلق، أو المقيد: وهو ما في كتب الملائكة؛ فهذا هو الذي يقع فيه المحو والإثبات، والزيادة، والنقص.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله-: (والأجل أجلان: أجل مطلق يعلمه الله، وأجل مقيد، وبهذا يتبيَّن معنى قوله – صلى الله عليه وسلم-: “من سره أن يبسط له في رزقه، أو ينسأ له في أثره – فليصل رحمه” رواه البخاري (2067)، ومسلم (2557)، عن أنس -رضي الله عنه-.
فإن الله أمر الملك أن يكتب له أجلاً، وقال: (إن وصل رحمه زدته كذا وكذا، والملك لا يعلم أيزداد أم لا لكن الله يعلم ما يستقر عليه الأمر، فإذا جاء الأجل لا يتقدم ولا يتأخر) مجموع الفتاوى (8/ 517)
قال ابن حجر- رحمه الله -: (قال ابن التين: ظاهر الحديث يعارض قوله تعالى: “فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَاخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ” [الأعراف:34].
والجمع بينهما من وجهين:
أحدهما: أن هذه الزيادة كناية عن البركة في العمر، بسبب التوفيق إلى الطاعة
ثانيهما: أن الزيادة على حقيقتها؛ وذلك بالنسبة إلى علم الملك المؤكل بالعمر، وأما الأول الذي دلت عليه الآية، فبالنسبة إلى علم الله تعالى، كأن يقال للمَلَكِ مثلاً – إن عُمْرَ فلان مائة عامٍ- مثلاً- إن وصل رحمه، وستون إن قطعها، وقد سبق في علم الله أنه يصل أو يقطع، فالذي في علم الله لا يتقدم ولا يتأخر، والذي في علم الملك هو الذي يمكن فيه الزيادة والنقص، وإليه الإشارة بقوله: “يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ” [الرعد:39]،فالمحو والإثبات بالنسبة لما في علم الملك.
(وما في أم الكتاب هو الذي في علم الله – تعالى- فلا محو فيه البتة، ويقال له: القضاء المبرم، ويقال للأول: القضاء المعلق) فتح الباري (10/ 430).
وإذا أردت مزيد بيان لهذه المسألة فارجع إلى تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة (ص89)، وإلى شرح صحيح مسلم للنووي
(16/ 114)، وإلى مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (8/ 540 – 541)، وعلى إفادة الخبر بنصه في زيادة العمر، ونقصه للسيوطي، وإلى تنبيه الأفاضل على ما ورد في زيادة العمر ونقصانه من الدلائل للشوكاني، وإلى أقوال المفسرين في قوله – تعالى-: “يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ” [الرعد:39].
وهناك توجيه آخر مفاده؛ أن الله يبقي أثر واصل الرحم في الدنيا طويلاً فلا يضمحل سريعاً، كما يضمحل أثر قاطع الرحم.
وورد في تفسيره وجه رابع؛ أخرج الطبراني في الصغير بسند ضعيف عن أبي الدرداء قال: ذكر عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من وصل رحمه أنسيء له في أجله، فقال: “إنه ليس زيادة في عمره، قال الله تعالى: “فإذا جاء أجلهم … ” الآية، ولكن الرجل تكون له الذرية الصالحة يدعون له من بعده”، وله في الكبير من حديث أبي مشجعة الجهني رفعه: “إن الله لا يؤخر نفساً إذا جاء أجلها، وإنما زيادة العمر ذرية صالحة” راجع فتح الباري
الراجح من الأقوال: رجح بعض الباحثين بأن الزيادة في الرزق والعمر على حقيقتها وذلك لعدة أسباب:
1 – الدَّلالة اللغوية لمعنى كلمة “نسأ ” فالنسأ التأخير، يقال: نسأت الشيء أنسأ , وأنسأنه إذا أخرته، والنَّساء الاسم، ويكون في العمر والدين والأثر والأجل ويسمّى به لأنه يتبع العمر
فلذلك كانت الزيادة على حقيقتها , ومن القائلين بذلك القول (أي الزيادة الحقيقية)
2 – ابن عباس _رضي الله عنه_ عندما سئل عن حديث ” من أحب أن يمد الله في عمره وأجله ويبسط له في رزقه فليتق الله وليصل رحمه ” كيف يزاد في العمر والأجل فقال: قال الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} الأنعام2. فالأجل الأول أجل العبد من حين ولادته إلى حين موته , والأجل الثاني يعني المسمى عنده من حين وفاته إلى يوم يلقاه في البرزخ , لا يعلمه إلا الله , فإذا اتقى العبد ربه , ووصل رحمه زاده الله في أجل عمره الأول من أجل البرزخ ما شاء , وإذا عصى وقطع رحمه نقصه الله من أجل عمره في الدنيا ما شاء فيزيده في أجل البرزخ فإذا تحتم الأجل في علمه السابق امتنع الزيادة والنقصان لقوله تعالى: {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَاخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} الأعراف34 فتوافق الخبر والآية وهذه زيادة في نفس العمر وذات الأجل على ظاهر اللفظ في اختيار حبر الأمة والله أعلم”
– قال الإمام الشوكاني -رحمه الله – في تنبيه الأفاضل ” أن الله تعالى كما علم أن العبد يكون له في العمر كذا وكذا ومن الرزق كذا وكذا وهو من أهل السعادة والشقاوة قد علم أنه إذا وصل رحمه له في الأجل كذا وبسط له من الرزق كذا وصار في أهل السعادة بعد أن كان في أهل الشقاوة أو صار في أهل الشقاوة بعد أن كان في أهل السعادة وهكذا قد علم ما ينقصه للعبد كما علم أنه إذا دعاه واستغاث به والتجأ إليه صرف عنه الشر ودفع عنه المكروه وليس في ذلك خلف ولامخالفة لسبق العلم بل فيه تقييد المسببات بأسبابها كما قدر الشبع والروي بالأكل والشرب”
5 – الشيخ السعدي في كتابه” بهجة قلوب الأبرار ” في الانتصار للقول الأول وأنه مراد الحديث حيث قال:
هذا الحديث فيه: الحث على صلة الرحم … وأنه وسبب لطول العمر. وذلك حق على حقيقته ; فإنه تعالى هو الخالق للأسباب ومسبباتها.
و الجزاء من جنس العمل، فكما وصل رحمه بالبر وصل الله عمره، ووصل رزقه، وفتح له من أبواب الرزق وبركاته، ما لا يحصل له بدون هذا السبب الجليل.
قال الفوزان
الحديث معناه أن الله سبحانه وتعالى وعد من يصل رحمه أن يُثِيبَه , وأن يجزيه بأن يطيل في عمره، وأن يوسع له في رزقه جزاءً له على إحسانه … فهذا الحديث يدل على أن الإحسان وصلة الرحم سبب لطول الأجل وسبب لسعة الرزق،
**ومن ذلك دعاء النبي صلى الله علة وسلم لام قيس ,ولأنس -رضي الله عنهم- بطول العمر. فكان الدعاء يزيد في العمر على الحقيقة ولا لما دعاء النبي صلى الله علية وسلم لهؤلاء.
انتهى باختصار
تنبيه: حديث أم قيس ورد عند أحمد 26999أبي الحسن مولى أم قيس ابنة محصن عن أم قيس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لها ما قالت طال عمرها ولا نعلم امرأة عمرت ما عمرت.
وقلنا: أبو الحسن مولى أم قيس لم يوثقه معتبر.