مختلف الحديث 35
طرحه أحمد بن علي:
بإشراف سيف بن غدير النعيمي
واختصار سيف بن دورة الكعبي
جاء في رواية أنه قال: (كَذَبَتْ يا رسول الله، إني لأنفضها نفض الأديم).
يعارض (حتي يذوق عسيلتك).
يقصد حديث زوجة رفاعة، التي تزوجها بعده عبدالرحمن بن الزَّبِير
———————-
جواب احمد بن علي:
ففي حديث ابن عباس وأخيه {أنها شكت زوجها قبل أن يطلقها، وزعمت أنه لم يصل إليها وطلبت فرقته لذلك، فكذبها وأخبر أنه إنما بها مراجعة الأول وأنها ناشز غير مطيعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان كذلك لم تحلين للأول حتى يذوق عسيلتك، يريد والله أعلم أني قادر على وطئها وجماعها وأن أنفضها نفض الأديم لكنها ناشز لا تمكنني، فإنها تريد رفاعة، فلذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحلين له حتى تذوقي عسيلته، فطلقها ولم تذق العسيلة} أو أنها لما ادعت عدم الوطء كانت معترفة بأنها لم تحل للأول فلم تجعل حلالا بدعوى الزوج أنه وطئها إذا كانت هي معترفة بما يوجب التحريم، لكن حديث مالك عن ولد عبد الرحمن يدل على أنه كان معرضا عنها. وحديث ابن عباس يقتضي دعواه إما التمكين من وطئها أو فعل الوطء فعلى حديث ابن عباس يكون قد جاءت النبي صلى الله عليه وسلم قبل الطلاق ثم جاءته بعده، وعبد الرحمن إما أنه كان معترضا عنها كما أخبرت أو كانت ناشزا عنه كما أخبر.
الفتاوى الكبرى لابن تيمية
قال عياض: وهذا إخبار عما اتفق بعد شكايتها للمصطفى ومباكرة عبد الرحمن لها.
ففي البخاري أنها لما قالت: وإن ما معه مثل الهدبة، قال: كذبت والله إني لأنفضها نفض الأديم (فأراد رفاعة أن ينكحها وهو زوجها الأول الذي كان طلقها) بالثلاث فذكرت ذلك لرسول الله – صلى الله عليه وسلم – (فنهاه عن تزويجها) وفي رواية للبخاري: أن المرأة هي التي ذكرت ولا خلف لجواز أن كلا من الرجل والمرأة ذكر ذلك له – صلى الله عليه وسلم -، ولفظ البخاري عن عائشة: وكان معه مثل الهدبة فلم تصل منه إلى شيء تريده فلم يلبث أن طلقها فأتت النبي – صلى الله عليه وسلم – فقالت: إن زوجي طلقني وإني تزوجت زوجا غيره فدخل بي ولم يكن معه إلا مثل الهدبة فلم يقربني إلا هنة واحدة لم يصل مني إلى شيء، فأحل لزوجي الأول؟ فقال – صلى الله عليه وسلم -: «لا تحلين لزوجك الأول حتى يذوق الآخر عسيلتك وتذوقي عسيلته».
وقولها ” لم يصل مني إلى شيء ” – صريح في أنه لم يطأها لا مرة ولا أزيد، فيحمل قولها ” إلا هنة واحدة ” على أن معناه لم يرد القرب مني بقصد الوطء إلا مرة واحدة، وبهذا لا يخالف رواية الموطأ: فلم يستطع أن يمسه
شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك
تتمة كلام شيخ الاسلام
وبكل حال فهذا يدل على الرغبة التامة في مراجعة الأول فإنها تكون قد جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل الطلاق وبعده مرتين أو أكثر، ثم جاءت الخليفتين ومن يصدر عنها مثل هذه الأحوال يغلب على الظن حرصها على مراجعتها حين العقد. فأقل ما قد كان ينبغي لو كان مؤثرا أن يقال لها إن كنت وقت العقد كنت مريدة له لم يجز أن ترجعي إليه بحال، فلما لم يفصل النبي صلى الله عليه وسلم مع ظهور هذا القرار علم أن الحكم لا يختلف، وأيضا فإنها وإن كانت تحب مراجعة الأول، فالمرء لا يلام على الحب والبغض، وإنما عليها أن تتقي الله سبحانه في زوجها وتحسن معاشرته وتبذل حقه غير متبرمة ولا كارهة، فإذا نوت هذا وقت العقد فقد نوت ما يجب عليها. فإذا نوت فعل ما لا يحل مما لا يوجب طلاقها فسيأتي ذكر هذا.
——————–
جواب سيف بن دورة الكعبي:
قال ابن عبدالبر في التمهيد ج:13 ص:227
وفي قوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ – لامرأة رفاعة أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة دليل على أن إرادة المرأة الرجوع إلى زوجها لا يضر العاقد عليها وأنها ليست بذلك في معنى التحليل المستحق صاحبه اللعنة.
قال ابن تيمية في بيان الدليل على بطلان التحليل وهو في الفتاوى الكبرى 6/ 279 وفيه إشارة لمعنى الحديث وأوجه الإستدلال به، وخلاصة كلامه:
أن أكثر أهل العلم على أنه لا عبرة بقصد المرأة ولا بقصد وليها؛ لأن الذي يقع منه الطلاق هو الزوج، وفي الحديث (لعن المحلل، وفي الحديث (أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة)
وجاء عن الحسن، والنخعي أن النكاح فاسد إذا قصد ذلك المرأة أو وليها.
وذكر ابن تيمية أن نية المرأة مراتب:
الْأُولَى: أَنْ تَنْوِيَ أَنَّ هَذَا الزَّوْجَ الثَّانِيَ إنْ طَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا أَوْ فَارَقَهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ تَزَوَّجَتْ بِالْأَوَّلِ , أَوْ يَنْوِيَ الْمُطَلِّقُ ذَلِكَ أَيْضًا فَيَنْوِيَ أَنَّ هَذَا الثَّانِيَ إنْ طَلَّقَهَا أَوْ فَارَقَهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ تَزَوَّجَهَا , فَهَذَا قَصْدٌ مَحْضٌ لِمَا أَبَاحَهُ اللَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَذَا الْقَصْدِ فِعْلٌ مِنْهَا فِي الْفُرْقَةِ , وَإِنَّمَا نَوَتْ أَنْ تَفْعَلَ مَا أَبَاحَهُ اللَّهُ إذَا أَبَاحَهُ اللَّهُ فَقَدْ قَصَدَتْ فِعْلًا لَهَا مُعَلَّقًا عَلَى وُجُودِ الْفُرْقَةِ , وَصَارَ هَذَا مِثْلَ أَنْ يَنْوِيَ الرَّجُلُ أَنَّ فُلَانًا إنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَوْ مَاتَ عَنْهَا تَزَوَّجَهَا , أَوْ تَنْوِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي لَمْ تَطْلُقْ أَنَّهَا إنْ فَارَقَهَا هَذَا الزَّوْجُ تَزَوَّجَتْ بِفُلَانٍ , أَوْ يَبِيعَ الرَّجُلَ سِلْعَتَهُ لِحَاجَتِهِ إلَيْهَا وَيَنْوِيَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إنْ بَاعَهَا فِيمَا بَعْدُ اشْتَرَاهَا مِنْهُ إنْ قَدَرَ عَلَى ثَمَنِهَا. أَوْ يَنْوِيَ أَنَّهُ إنْ أَعْتَقَ الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ تَزَوَّجَ بِهَا , فَهَذِهِ الصُّوَرُ كُلُّهَا لَمْ تَتَعَلَّقْ بِهَذَا الْعَقْدِ وَلَا بِفَسْخِهِ فَلَمْ تُؤَثِّرْ فِيهِ , …. وَهَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ فِعْلٌ مِنْهَا فِي الْفُرْقَةِ لَمْ تُؤَثِّرْ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ وَلَا الثَّانِي.
الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ: إنْ تَسَبَّبَ إلَى أَنْ يُفَارِقَهَا مِنْ غَيْرِ مَعْصِيَةٍ غَيْرِ الِاخْتِلَاعِ , وَلَا خَدِيعَةٍ تُوجِبُ فِرَاقَهَا مِثْلَ أَنْ تَسْأَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا أَوْ أَنْ يَخْلَعَهَا , وَتَبْذُلَ لَهُ مَالًا عَلَى الْفُرْقَةِ أَوْ تُظْهِرَ لَهُ مَحَبَّتَهَا لِلْأَوَّلِ أَوْ بُغْضَهَا الْمُقَامَ مَعَهُ حَتَّى يُفَارِقَهَا , فَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى الِانْتِزَاعِ وَالِاخْتِلَاعِ مِنْ الرَّجُلِ , فَنَقُولُ إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَخَافُ أَنْ لَا تُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ جَازَ لَهَا الِاخْتِلَاعُ , وَإِلَّا نُهِيَتْ عَنْهُ نَهْيَ تَحْرِيمٍ أَوْ تَنْزِيهٍ , فَإِنْ كَانَتْ لَمْ تَنْوِ هَذَا الْفِعْلَ إلَّا بَعْدَ الْعَقْدِ فَهِيَ كَسَائِرِ الْمُخْتَلِعَاتِ يَصِحُّ الْخُلْعُ وَيُبَاحُ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهِ , هَذَا إذَا كَانَ مَقْصُودُهَا مُجَرَّدَ فُرْقَتِهِ. وَهُنَا مَقْصُودُهَا التَّزَوُّجُ بِغَيْرِهِ فَتَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْأَةِ الَّتِي تَخْتَلِعُ مِنْ زَوْجِهَا لِتَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهِ وَهَذَا أَغْلَظُ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا سَيَاتِي , وَإِنْ كَانَتْ حِينَ الْعَقْدِ تَنْوِي أَنْ تَتَسَبَّبَ إلَى الْفُرْقَةِ بِهَذِهِ الطُّرُقِ فَهَذِهِ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الَّتِي حَدَثَ لَهَا إرَادَةُ الِاخْتِلَاعِ لِتَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهِ , مَعَ اسْتِقَامَةِ الْحَالِ , فَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ {الْمُخْتَلِعَاتُ وَالْمُنْتَزِعَاتُ هُنَّ الْمُنَافِقَاتُ}. فَاَلَّتِي تَخْتَلِعُ لِتَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهِ , لَا لِكَرَاهَتِهِ أَشَدُّ وَأَشَدُّ , وَمَنْ كَانَتْ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ تُرِيدُ أَنْ تَخْتَلِعَ وَتَنْتَزِعَ لِتَتَزَوَّجَ بِغَيْرِهِ , فَهِيَ أَوْلَى بِالذَّمِّ وَالْعُقُوبَةِ ; لِأَنَّ هَذِهِ غَارَّةٌ …..
وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الْخِلَابَةِ بَلْ هُوَ أَقْبَحُ الْخِلَابَةِ , وَلَا تَحِلُّ الْخِلَابَةُ لِمُسْلِمٍ. وَهَذِهِ الصُّورَةُ لَا يَجِبُ إدْخَالُهَا فِي كَلَامِ أَحْمَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , فَإِنَّهُ إنَّمَا رَخَّصَ فِي مُطْلَقِ نِيَّةِ الْمَرْأَةِ وَنِيَّةُ الْمَرْأَةِ الْمُطَلَّقَةِ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِأَنْ تَتَزَوَّجَ الْأَوَّلَ , وَذَلِكَ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ تَنْوِيَ اخْتِلَاعًا مِنْ الثَّانِي لِتَتَزَوَّجَ الْأَوَّلَ , فَإِنَّ هَذَا نِيَّةُ فِعْلٍ مُحَرَّمٍ فِي نَفْسِهِ لَوْ حَدَثَ وَغَايَتُهُ أَنْ يُقَالَ هُوَ نِيَّةٌ مَكْرُوهَةٌ تَسْوِيَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاخْتِلَاعِ الْمُطْلَقِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ فَأَمَّا إذَا قَارَنَ الْعَقْدَ فَتَحْرِيمُهُ ظَاهِرٌ ; لِأَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ رَغْبَتَهَا فِي النِّكَاحِ وَقَصْدَهَا لَهُ , وَالزَّوْجَةُ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ , فَإِذَا قَصَدَتْ بِالْعَقْدِ أَنْ تَسْعَى فِي فَسْخِهِ لَمْ يَكُنْ الْعَقْدُ مَقْصُودًا , بِخِلَافِ مَنْ قَصَدَتْ أَنَّ الْعَقْدَ إذَا انْفَسَخَ تَزَوَّجَتْ الْأَوَّلَ , وَتَحْرِيمُ هَذَا أَشَدُّ مِنْ تَحْرِيمِ نِيَّةِ الرَّجُلِ مِنْ وَجْهٍ , وَذَلِكَ التَّحْرِيمُ أَشَدُّ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ , فَإِنَّ الْمُحَلِّلَ إذَا نَوَى الطَّلَاقَ , فَقَدْ نَوَى شَيْئًا يَمْلِكُهُ , وَالْمَرْأَةُ تَعْلَمُ أَنَّهُ يَمْلِكُ ذَلِكَ , وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ نَوَتْ الِاخْتِلَاعَ وَالِانْتِزَاعَ لِتَعُودَ إلَى غَيْرِهِ , وَكَرَاهَةُ وَالْعَقْدُ الَّذِي يَقْصِدُ رَفْعَهُ لَيْسَ بِعَقْدِ نِكَاحٍ , ….
لَكِنْ لَمَّا كَانَ مِنْ نِيَّةِ الْمَرْأَةِ التَّسَبُّبُ إلَى الْفُرْقَةِ , صَارَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعَقْدِ الَّذِي حُرِّمَ عَلَى أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِإِضْرَارِهِ بِالْآخَرِ , مِثْلُ بَيْعِ الْمُصَرَّاةِ وَبَيْعِ الْمُدَلَّسِ مِنْ الْمَعِيبِ وَغَيْرِهِ , وَهَذَا النَّوْعُ صَحِيحٌ لِمَجِيءِ السُّنَّةِ بِتَصْحِيحِ بَيْعِ الْمُصَرَّاةِ , وَلَمْ نَعْلَمْ مُخَالِفًا فِي أَنَّ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ إذَا كَانَ مَعِيبًا بِعَيْبٍ مُشْتَرَكٍ كَالْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ أَوْ مُخْتَصٍّ كَالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ أَوْ الرَّتْقِ وَالْفَتْقِ وَلَمْ يَعْلَمْ الْآخَرُ أَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ مَعَ أَنَّ تَدْلِيسَ هَذَا الْعَيْبِ عَلَيْهِ حَرَامٌ , وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ هُوَ الْمُدَلِّسَ , حَتَّى قُلْنَا عَلَى الصَّحِيحِ إنَّهُ يَرْجِعُ بِالْمَهْرِ عَلَى مَنْ غَرَّهُ , فَإِنْ كَانَ الْغُرُورُ مِنْ الزَّوْجَةِ سَقَطَ الْمَهْرُ , مَعَ أَنَّ الْعَقْدَ حَرَامٌ عَلَى الْمُدَلِّسِ بِلَا تَرَدُّدٍ , وَلَكِنَّ التَّدْلِيسَ هُنَاكَ وَقَعَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ , وَهُنَا وَقَعَ فِي نَفْسِ الْعَقْدِ. وَالْخَلَلُ فِي الْعَقْدِ قَدْ يُؤَثِّرُ فِي فَسَادِهِ مَا لَا يُؤَثِّرُ فِي بَعْضِ حِلِّهِ , فَأَمَّا الْمُطَلِّقُ الْأَوَّلُ إذَا طَلَب مِنْهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا أَوْ يَخْلَعَهَا أَوْ دَسَّ إلَيْهِ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ حَدَثَ إرَادَةُ ذَلِكَ لِلْمَرْأَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ , فَإِنَّ الْمُطَلِّقَ لَيْسَ لَهُ سَبَبٌ فِي الْعَقْدِ الثَّانِي.
وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ , فَنُقِلَ هَهُنَا عَنْهُ فِي رَجُلٍ قَالَ لِلرَّجُلِ طَلِّقْ امْرَأَتَك حَتَّى أَتَزَوَّجَهَا وَلَك أَلْفُ دِرْهَمٍ , فَأَخَذَ مِنْهُ الْأَلْفَ ثُمَّ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْت طَالِقٌ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ رَجُلٌ يَقُولُ لِرَجُلٍ طَلِّقْ امْرَأَتَك حَتَّى أَتَزَوَّجَهَا لَا يَحِلُّ هَذَا , فَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ اخْتَلَعَهَا لِيَتَزَوَّجَهَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ , وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِعَهَا لِيَتَخَلَّصَ مِنْ النِّكَاحِ , لَكِنْ إذَا سَمَّى فِي عَقْدِ الْخُلْعِ أَنَّهُ يُرِيدُ التَّزَوُّجَ بِهَا فَهُوَ أَقْبَحُ مِنْ أَنْ يَقْصِدَ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ , وَالصُّورَةُ الْأُولَى هِيَ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا كَلَامُ أَحْمَدَ , فَالْمَرْأَةُ إذَا اخْتَلَعَتْ لَأَنْ تَتَزَوَّجَ أَشَدُّ فَإِنَّ الْأَذَى بِطَلَبِ الْمَرْأَةِ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ الْأَذَى بِطَلَبِ الْأَجْنَبِيِّ , فَإِذَا كَانَ هَذَا الْفِعْلُ حَرَامًا لَوْ حَدَثَ الْقَصْدُ فَكَيْفَ إذَا كَانَ مَقْصُودًا مِنْ حِينِ الْعَقْدِ وَفُعِلَ بَعْدَهُ فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اخْتِلَاعُهَا رَغْبَةً فِي نِكَاحِ غَيْرِهِ , وَلَا الْعَقْدُ بِهَذِهِ النِّيَّةِ , وَلَا يَحِلُّ أَمْرُهَا بِذَلِكَ وَلَا تَعْلِيمُهَا إيَّاهُ , وَلَكِنْ لَوْ فَعَلْته لَمْ يَقْدَحْ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ فِيمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا لِمَا تَقَدَّمَ , فَلَوْ رَجَعَتْ عَنْ هَذِهِ النِّيَّةِ جَازَ لَهَا الْمُقَامُ مَعَهُ , فَإِنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ فَفَارَقَهَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ. وَأَمَّا الْعَقْدُ الثَّانِي فَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ صَحِيحٌ , وَلِأَصْحَابِنَا فِي صِحَّةِ نِكَاحِ الرَّجُلِ إِذَا …
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {لَا يَبِعْ أَحَدُكُمْ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ إلَّا أَنْ يَاذَنَ} مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ , وَهَذَا نَهْيُ تَحْرِيمٍ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ الْمَنْصُوصِ , وَهُوَ قَوْلُ الْجَمَاعَةِ ; لِأَنَّهُ قَدْ جَاءَ مُصَرَّحًا {لَا يَحِلُّ لِمُؤْمِنٍ} كَمَا تَقَدَّمَ , وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ حَمَلَهُ عَلَى أَنَّهُ نَهْيُ تَادِيبٍ لَا تَحْرِيمٍ وَهُوَ بَاطِلٌ ; فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ حَرَامٌ فَهَلْ الْعَقْدُ الثَّانِي صَحِيحٌ أَوْ فَاسِدٌ؟ ذَكَرَ الْقَاضِي فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ وَجَمَاعَةٌ مَعَ الْمَسْأَلَةِ عَلَى رِوَايَتَيْنِ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَحْكِيهَا عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَاطِلٌ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ فِي الْخِلَافِ وَرَوَاهُ عَنْ أَحْمَدَ فِي مَسَائِلِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ فِي الْبَيْعِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ , وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي مُوسَى أَيْضًا. وَالثَّانِيَةُ: أَنَّهُ صَحِيحٌ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ سَعِيدٍ لَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَلَا يَسْتَامُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ , هَذَا لِلْمُسْلِمِينَ. قِيلَ لَهُ فَإِنْ خَطَبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ فَتَزَوَّجَهَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: لَا.
وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي حَفْصٍ , لَكِنْ بَنَاهُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ تَادِيبٌ , وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي وَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِمَا , وَقَدْ خَرَّجَ الْقَاضِي جَوَابَ أَحْمَدَ فِي مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ إلَى مَسْأَلَةِ الْخِطْبَةِ فَجَعَلَهُمَا عَلَى رِوَايَتَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْهُ , وَيَتَوَجَّهُ إقْرَارُ النَّصَّيْنِ مَكَانَهُمَا كَمَا سَنَذْكُرُهُ , وَالْقَوْلُ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ , وَالْقَوْلُ بِفَسَادِهِ مَحْكِيٌّ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ , وَحُكِيَ عَنْهُ الصِّحَّةُ , وَدَلِيلُ هَذَا النَّهْيُ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ عَلَى قَاعِدَةِ الْفُقَهَاءِ الْمُقَرَّرَةِ فِي مَوْضِعِهَا كَسَائِرِ عُقُودِ الْأَنْكِحَةِ وَالْبِيَاعَات
وفصل إلى أن قال:
وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جُمْلَةِ مَا نَهَى عَنْهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ {أَنْ تَسْأَلَ الْمَرْأَةُ طَلَاقَ أُخْتِهَا , لِتَكْتَفِئَ مَا فِي صَحْفَتِهَا} , فَمَسْأَلَةُ الْبَائِعِ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُقِيلَهُ الْبَيْعَ لِيَبِيعَهَا الْبَائِعُ لِغَيْرِهِ كَذَلِكَ , وَقَوْلُ الرَّجُلِ الْبَائِعِ اسْتَقِلْ الْمُشْتَرِي هَذَا الْبَيْعَ لِتَبِيعَهُ لِهَذَا.
كَمَا يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ سَلِي هَذَا الْخَاطِبَ أَنْ يُطَلِّقَ تِلْكَ لِيَتَزَوَّجَك , إذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَتَقُولُ إذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَرَّمَ أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَأَنْ يَسْتَامَ عَلَى سَوْمِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُزَاحَمَةِ الْمُخْرِجَةِ لَهُ عَمَّا قَدْ وَعَدَ بِهِ ; فَكَيْفَ بِمَنْ نَكَحَ عَلَى نِكَاحِ أَخِيهِ , بِأَنْ يَقُولَ لِلْمَرْأَةِ طَلِّقِي هَذَا الرَّجُلَ وَأَنَا أَتَزَوَّجُك ; أَوْ أُزَوِّجُك فُلَانًا , إنْ أَمْكَنَهَا أَنْ تَفْسَخَ النِّكَاحَ بِأَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ قَدْ جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِهَا , أَوْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِأَمْرٍ يُمْكِنُهَا فِعْلُهُ , فَهَذِهِ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ , وَإِلَّا فَاخْتِلَاعُهَا مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ اسْتِقَالَةِ الْمُشْتَرِي , وَهَذَا أَعْظَمُ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا قَدْ تُسِيءُ عِشْرَتَهُ إسَاءَةً تَحْمِلُهُ عَلَى طَلَاقِهَا ; بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ لَا تَنْقَضِي بِالتَّقَابُضِ مِنْهُمَا فَكُلُّ مَنْ قَالَ إنَّ ابْتِيَاعَ الْإِنْسَانِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ بَاطِلٌ قَالَ: هُنَا إنَّ نِكَاحَ الثَّانِي بَاطِلٌ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ; وَمَنْ قَالَ بِالصِّحَّةِ هُنَاكَ فَقَدْ يَقُولُ هُنَا بِالْبُطْلَانِ ; لِأَنَّ الزَّوْجَ خُدِعَ حِينَ الْعَقْدِ وَتُسُبِّبَ فِي إزَالَةِ نِكَاحِهِ , وَزَوَالُ النِّكَاحِ أَشَدُّ ضَرَرًا مِنْ الْإِقَالَةِ فِي بَيْعٍ أَوْ فَسْخِهِ , وَلَوْ أَنَّ الرَّجُلَ طَلَبَ مِنْ الرَّجُلِ أَنْ يَبِيعَهُ سِلْعَةً لَجَازَ ; وَلَوْ طَلَب أَنْ يَخْلَعَ امْرَأَتَهُ لِيَتَزَوَّجَهَا لَكَانَ مِنْ الْقَبِيحِ الْمُنْكَرِ , وَقَدْ نَصَّ أَحْمَدُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ , وَاعْلَمْ أَنَّهُ إذَا قِيلَ لَا
يَصِحُّ الْبَيْعُ الثَّانِي وَلَا نِكَاحُ الثَّانِي لَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي فَسْخِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ , وَلَكِنْ تَعُودُ السِّلْعَةُ إلَى صَاحِبِهَا , وَالْمَرْأَةُ إلَى يَدِ نَفْسِهَا. وَيُعَاقَبُ الثَّانِي بِأَنْ يَبْطُلَ عَقْدُهُ مُنَاقَضَةً لِقَصْدِهِ , وَهَذَا نَظِيرُ مَنْعِ الْقَاتِلِ الْمِيرَاثَ , وَنَظِيرُ تَوْرِيثِ الْمَبْتُوتَةِ فِي الْمَرَضِ , فَإِنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ وَالْمَالِ زَالَ حَقِيقَةً عَنْ الْمَيِّتِ وَالْمُطَلِّقِ , وَلَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي انْتِقَالِ الْمَالِ إلَى الْقَاتِلِ , وَمَنْعِ مِيرَاثِ الْمُطَلِّقَةِ , وَهُوَ نَظِيرُ الْمَسَائِلِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي أَثْنَاءِ أَقْسَامِ الْحِيَلِ , مِثْلَ أَنْ يَقْتُلَ الرَّجُلُ رَجُلًا لِيَتَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ وَبَيَّنَّا وَجْهَ تَحْرِيمِهَا عَلَى هَذَا الْقَاتِلِ مَعَ حِلِّهَا لِغَيْرِهِ , وَكَذَلِكَ ذَبِيحَةُ الْغَاصِبِ وَالسَّارِقِ كَذَلِكَ هُنَا يَحْرُمُ شِرَاءُ الْعَيْنِ بَعْدَ الْفَسْخِ عَلَى هَذَا الْمُتَسَبِّبِ فِي ذَلِكَ مَعَ حِلِّهِ لِغَيْرِهِ , وَقَدْ يَضُرُّ هَذَا بِاَلَّذِي فَسَخَ الْبَيْعَ , لَكِنَّ هَذَا جَزَاءُ فِعْلِهِ فَإِنَّهُ وَإِنْ جَازَ لَهُ الْفَسْخُ ابْتِدَاءً , لَكِنْ مَا كَانَ لَهُ أَنْ يُعِينَ هَذَا عَلَى مَا طَلَبَهُ فَإِنَّ الْإِعَانَةَ عَلَى الْحَرَامِ حَرَامٌ , فَإِذَا كَانَ هَذَا فِيمَنْ يَجُوزُ لَهُ الِاسْتِقَالَةُ فَكَيْفَ الْمَرْأَةُ الْمَنْهِيَّةُ عَنْ الِانْتِزَاعِ وَالِاخْتِلَاعِ.
وَمِمَّا هُوَ كَالْبَيْعِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى إجَارَتُهُ عَلَى إجَارَةِ أَخِيهِ , مِثْلُ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ مُسْتَقِلًّا فِي دَارِهِ حَانُوتٌ أَوْ مُزْدَرَعٌ , وَأَهْلُهُ قَدْ رَكَنُوا إلَى أَنْ يُؤَجِّرُوهُ السَّنَةَ الثَّانِيَةَ فَيَجِيءُ الرَّجُلُ فَيَسْتَاجِرُ عَلَى إجَارَتِهِ , فَإِنَّ ضَرَرَهُ بِذَلِكَ أَشَدُّ مِنْ ضَرَرِ الْبَيْعِ غَالِبًا , وَأَقْبَحُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ مُتَوَلِّيًا وِلَايَةً أَوْ مَنْزِلًا فِي مَكَان يَاوِي إلَيْهِ أَوْ يَرْتَزِقُ مِنْهُ , فَيَطْلُبُ آخَرُ مَكَانَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
المرتبة الثَّالِثَةُ: أَنْ تَتَسَبَّبَ إلَى فُرْقَتِهِ مِثْلَ أَنْ تُبَالِغَ فِي اسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ مِنْهُ , وَالِامْتِنَاعِ مِنْ الْإِحْسَانِ إلَيْهِ لَسْت أَعْنِي أَنَّهَا تَتْرُكُ وَاجِبًا تَعْتَقِدُ وُجُوبَهُ , أَوْ تَفْعَلُ مُحَرَّمًا تَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ , لَكِنْ غَيْرَ ذَلِكَ مِثْلَ أَنْ تُطَالِبَهُ بِالصَّدَاقِ جَمِيعِهِ , لِيَفْسَخَ أَوْ يَحْبِسَ أَوْ لِتَمْتَنِعَ مِنْهُ , أَوْ تَبْذُلَ لَهُ فِي خُصُومَتِهَا , وَذَلِكَ يَشُقُّ عَلَيْهَا مِثْلُ أَنْ تُطَالِبَهُ بِفَرْضِ النَّفَقَةِ , أَوْ إفْرَادِهَا بِمَسْكَنٍ يَلِيقُ بِهَا وَخَادِمٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْحُقُوقِ الَّتِي عَلَيْهِ , أَوْ تَمْنَعَ مِنْ إعَانَتِهِ فِي الْمَنْزِلِ بِطَبْخٍ أَوْ فَرْشٍ أَوْ لُبْسٍ أَوْ غَسْلٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ , كُلُّ ذَلِكَ لِيُفَارِقَهَا فَإِنْ قِيلَ فَهَذِهِ الْأُمُورُ مِنْهَا مَا قَدْ يَخْتَلِفُ فِي وُجُوبِهِ , فَإِذَا قِيلَ بِوُجُوبِهِ فَتَقْدِيرُهُ إلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ , وَهُوَ أَمْرٌ يَدْخُلُهُ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ , وَلَا يَكَادُ يَنْقُلُ غَالِبًا مَنْ عَاشَرَتْ زَوْجَهَا بِمِثْلِ هَذَا عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ , وَنَحْنُ نَتَكَلَّمُ عَلَى تَقْدِيرِ خُلُوِّهِ مِنْ الْمَعْصِيَةِ فَنَقُولُ: إذَا فَعَلْت الْمُبَاحَ لِغَرَضٍ مُبَاحٍ فَلَا بَاسَ بِهِ , أَمَّا إذَا قَصَدْت بِهِ ضَرَرًا غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ , مِثْلُ مَنْ يَقْصِدُ حِرْمَانَ وَرَثَتِهِ بِالْإِسْرَافِ فِي النَّفَقَةِ فِي مَرَضِهِ , فَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ لَا تُرِيدُ اسْتِيفَاءَ الصَّدَاقِ وَلَا فَرْضَ النَّفَقَةِ وَهِيَ طَيِّبَةُ النَّفْسِ بِالْخِدْمَةِ الْمُعْتَادَةِ , وَإِنَّمَا تَجَشَّمَ ذَلِكَ لِتُضَيِّقَ عَلَى الزَّوْجِ لِيُطَلِّقَهَا ,
فَإِلْجَاؤُهُ إلَى الطَّلَاقِ غَيْرُ جَائِزٍ ; لِأَنَّهُ إلْجَاءٌ إلَى فِعْلِ مَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَلَا يُسْتَحَبُّ لَهُ وَهُوَ يَضُرُّهُ , وَهِيَ آثِمَةٌ بِهَذَا الْفِعْلِ إذَا كَانَ مُمْسِكًا لَهَا بِالْمَعْرُوفِ , وَإِنَّمَا الَّذِي تَسْتَحِقُّهُ بِالشَّرْعِ الْمُطَالَبَةُ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ إمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ , أَمَّا إذَا قَصَدَتْ التَّسْرِيحَ فَقَطْ , وَإِنَّمَا تُطَالِبُهُ بِمُوجَبَاتِ الْعَقْدِ لِتَضْطَرَّهُ بِعُسْرِهَا عَلَيْهِ إلَى التَّسْرِيحِ , فَهَذِهِ لَيْسَتْ طَالِبَةً أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ وَإِنَّمَا هِيَ طَالِبَةٌ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ , وَهِيَ لَا تَمْلِكُ ذَلِكَ شَرْعًا , فَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ تَلْحَقُ بِاَلَّتِي بَعْدَهَا كَمَا قَدَّمْنَا نَظَائِرَ ذَلِكَ فِي أَقْسَامِ الْحِيَلِ , لَكِنَّ هَذَا الْفِعْلَ إنَّمَا حُرِّمَ بِالْقَصْدِ , وَهَذَا أَمْرٌ لَا يُمْكِنُ الْحُكْمُ عَلَيْهِ ظَاهِرًا بِخِلَافِ الَّذِي بَعْدَهُ , وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ التَّحْرِيمُ لِجِنْسِ الْفِعْلِ أَوْ لِقَصْدٍ يَقْتَرِنُ بِالْفِعْلِ , وَلَا يُقَالُ فَقَدْ يُبَاحُ لَهَا الِاخْتِلَاعُ إذَا كَانَتْ تَخَافُ أَنْ لَا تُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ مَعَهُ.
فَكَذَلِكَ يُبَاحُ لَهَا الِاسْتِقْصَاءُ فِي الْحُقُوقِ حَتَّى تُفَارِقَ ; لِأَنَّا نَقُولُ الِاخْتِلَاعُ يَتَضَمَّنُ تَعْوِيضَهُ عَنْ الطَّلَاقِ بِرَدِّ الصَّدَاقِ إلَيْهِ , أَوْ رَدِّ مَا يَرْضَى بِهِ وَهُوَ شَبِيهٌ بِالْإِقَالَةِ فِي الْبَيْعِ , وَهَذِهِ تَلْجِئَةٌ إلَى الطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ فَلَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ الْمُخْتَلِعَةِ , وَإِذَا كَانَتْ لَا تَسْتَحِقُّ أَنْ يُطَلِّقَهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ , وَفِي ذَلِكَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ فَإِذَا قَصَدَتْ إيقَاعَ هَذَا الضَّرَرِ بِهِ بِفِعْلٍ هُوَ مُبَاحٌ , أَوْ خَلَا عَنْ هَذَا الْقَصْدِ دَخَلَتْ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مَنْ ضَارَّ ضَارَّ اللَّهُ بِهِ وَمَنْ شَقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ} وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ , وَهَذَا لَيْسَ مُخْتَصًّا بِحُقُوقِ النِّكَاحِ بَلْ هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ قَصَدَ إضْرَارَ غَيْرِهِ بِشَيْءٍ هُوَ مُبَاحٌ فِي نَفْسِهِ.
بَقِيَ أَنْ يُقَالَ: فَهِيَ لَا تَقْصِدُ إضْرَارَهُ وَإِنَّمَا تَقْصِدُ نَفْعَ نَفْسِهَا بِالْخَلَاصِ مِنْهُ , فَيُقَالُ الشَّارِعُ لَمْ يَجْعَلْ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ بِيَدِهَا , وَلَوْ كَانَ انْتِفَاعُهَا بِالْأَخَصِّ حَقًّا لَهَا لَمَلَّكَهَا الشَّارِعُ ذَلِكَ وَحَيْثُ احْتَاجَتْ إلَيْهِ أَمَرَهَا أَنْ تَفْتَدِيَ مِنْهُ كَافْتِدَاءِ الْعَبْدِ وَالْأَسِيرِ , أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْصِدَ مُضَارَّةً سَيِّدِهِ لِيَعْتِقَهُ , إذَا لَمْ يَكُنْ السَّيِّدُ مُتَسَبِّبًا إلَيْهِ , ثُمَّ , إنْ كَانَتْ نَوَتْ هَذَا حِينَ الْعَقْدِ فَقَدْ دَخَلَتْ عَلَى مَا تُضَارُّهُ بِهِ مَعَ غِنَاهَا عَنْهُ , فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَوَصَّلَ إلَى بَعْضِ أَغْرَاضِهَا الَّتِي لَا تَجِبُ لَهَا بِمَا فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى غَيْرِهَا , فَكَيْفَ إذَا قَصَدَتْ أَنْ تَحِلَّ لِنَفْسِهَا مَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِأَضْرَارِ الْغَيْرِ , فَهَذَا الضَّرْبُ قَرِيبٌ مِمَّا ذُكِرَ بَعْدَهُ , وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ.
الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ: أَنْ تَتَسَبَّبَ إلَى فُرْقَتِهِ بِمَعْصِيَةٍ مِثْلَ أَنْ تَنْشُزَ عَلَيْهِ أَوْ تُسِيءَ الْعَشَرَةَ بِإِظْهَارِ الْكَرَاهَةِ فِي بَذْلِ حُقُوقِهِ , أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَضَمَّنُ تَرْكَ وَاجِبٍ أَوْ فِعْلَ مُحَرَّمٍ , مِثْلَ طُولِ اللِّسَانِ وَنَحْوِهِ فَإِنَّ هَذَا لَا رَيْبَ أَنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ , وَكُلُّ مَا دَلَّ عَلَى تَحْرِيمِ النُّشُوزِ وَعَلَى وُجُوبِ حُقُوقِ الرَّجُلِ , فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ هَذَا ; وَهَذَا حَرَامٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مُحَرَّمٌ ; وَمِنْ جِهَةِ أَنَّهَا تَقْصِدُ بِهِ أَنْ تُزِيلَ مِلْكَهُ عَنْهَا بِفِعْلٍ هُوَ فِيهِ مُكْرَهٌ إذَا طَلَّقَ أَوْ خَلَعَ مُفَادِيًا مِنْ شَرِّهَا ; وَالِاحْتِيَالُ عَلَى إبْطَالِ الْحُقُوقِ الثَّابِتَةِ حَرَامٌ بِالِاتِّفَاقِ , وَإِنَّمَا اُخْتُلِفَ فِي إبْطَالِ مَا انْعَقَدَ سَبَبُهُ وَلَمْ يَجِبْ كَحَقِّ الشُّفْعَةِ ; وَإِنْ كَانَ الصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ الِاحْتِيَالُ عَلَى إبْطَالِ حَقِّ مُسْلِمٍ بِحَالٍ , وَمِنْ جِهَةِ أَنَّ مَقْصُودَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ لَا مُجَرَّدُ التَّخَلُّصِ مِنْهُ , وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا أَنْ تُظْهِرَ مَعْصِيَةً تُنَفِّرُهُ عَنْهَا لِيُطَلِّقَهَا , مِثْلَ أَنْ تُرِيَهُ أَنَّهَا تَتَبَرَّجُ لِلرِّجَالِ الْأَجَانِبِ ; وَيَكُونُوا فِي الْبَاطِنِ ذَوِي مَحَارِمِهَا فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا ; فَإِنَّ هَذَا الْفِعْلَ حَرَامٌ فِي نَفْسِهِ ; إذْ لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُرِيَ زَوْجَهَا أَنَّهَا فَاجِرَةٌ ; كَمَا لَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَفْجُرَ ; فَإِنَّ هَذَا أَشَدُّ إيذَاءً لَهُ مِنْ نُشُوزِهَا عَنْهُ ; فَهَذَا أَشَدُّ تَحْرِيمًا وَأَظْهَرُ إبْطَالًا لِلْعَقْد
الثَّانِي مِنْ خِطْبَةِ الرَّجُلِ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ. وَهَذَا نَظِيرُ أَنْ يُخَبِّبَ الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ لِيَتَزَوَّجَهَا فَإِنَّ السَّعْيَ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ مِنْ أَعْظَمِ الْمُحَرَّمَاتِ ; بَلْ هُوَ فِعْلُ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَفِعْلُ الشَّيْطَانِ الْمَحْظِيِّ عِنْدَ إبْلِيسَ ; كَمَا جَاءَ بِهِ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ. وَلَا رَيْب أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ تَزَوَّجَهَا ; ثُمَّ بُطْلَانُ عَقْدِ الثَّانِي هُنَا أَقْوَى مِنْ بُطْلَانِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى , وَأَقْوَى مِنْ بُطْلَانِ بَيْعِهِ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ وَشِرَائِهِ عَلَى شِرَائِهِ. فَإِنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ هُنَا حَصَلَ بِفِعْلِ مُبَاحٍ فِي الْأَوَّلِ لَوْ تَجَرَّدَ عَنْ قَصْدِ مُزَاحِمَةِ الْمُسْلِمِ , وَهُنَا فِيهِ قَصْدُ الْمُزَاحِمَةِ , وَإِنَّ الْفِعْلَ فِي نَفْسِهِ مُحَرَّمٌ وَمَعَ هَذَا فَقَدْ صَحَّحَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْعَقْدَ الثَّانِيَ , وَإِنَّمَا صَارَ فِي صِحَّةِ مِثْلِ هَذَا خِلَافٌ ; لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لِحَقِّ آدَمِيٍّ.
وَلِأَنَّ الْمُحَرَّمَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعَقْدِ الثَّانِي , وَالِاعْتِقَادُ أَنَّ التَّحْرِيمَ هُنَا لَا لِمَعْنًى فِي الْعَقْدِ الثَّانِي وَلَكِنْ لِشَيْءٍ خَارِجٍ عَنْهُ ; وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَى هَذَا ; لَكِنْ إنْ تَزَوَّجَتْ بِنِيَّةِ أَنْ تَفْعَلَ هَذَا بِأَنْ تَنْوِيَ أَنَّهَا تَخْلَعُ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ تَطْلُقْ وَإِلَّا نَشَزَتْ عَنْهُ , وَأَنْ تَحْتَالَ عَلَيْهِ لِتَطْلُقَ ” فَهَذَا الْعَقْدُ الْأَوَّلُ أَيْضًا حَرَامٌ ; وَإِذَا كَانَ مَنْ تَزَوَّجَ بِصَدَاقٍ يَنْوِي أَنْ لَا يُؤَدِّيَهُ زَانِيًا أَوْ مَنْ أَدَّانِ دَيْنًا يَنْوِي أَنْ لَا يَقْضِيَهُ سَارِقًا فَمَنْ تَزَوَّجَتْ تَنْوِي أَنْ لَا تُقِيمَ حُقُوقَ الزَّوْجِ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ عَاصِيَةً , فَإِنَّهَا مَعَ أَنَّهَا قَصَدَتْ أَنْ لَا تَفِيَ بِمُوجَبِ الْعَقْدِ قَدْ قَصَدَتْ أَنْ تُفَارِقَهُ لِتَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ , فَصَارَتْ قَاصِدَةً لِعَدَمِ هَذَا الْعَقْدِ وَلِوُجُودِ غَيْرِهِ بِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ , وَتَحْرِيمُ هَذَا لَا رَيْبَ فِيهِ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} وَهَذِهِ تَنْوِي أَنْ لَا تُقِيمَ حُدُودَ اللَّهِ فَهِيَ أَبْلَغُ مِنْ الَّتِي لَا تَظُنُّ إقَامَةَ حُدُودِ اللَّهِ , وَهَذَا مِثْلُ أَنْ يَبِيعَ سِلْعَةً وَبِنِيَّتِهِ أَنْ لَا يُسَلِّمَهَا إلَى الْمُشْتَرِي أَوْ يُؤَجِّرَ دَارًا بِنِيَّةِ أَنْ يَمْنَعَ الْمُسْتَاجِرَ مِنْ سُكْنَاهَا , بَلْ هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهَا تَقْصِدُ بِمَنْعِ الْحُقُوقِ حَمْلَهُ عَلَى الْفُرْقَةِ , فَتَقْصِدُ مَنْعَ حُقُوقِ الْعَقْدِ , وَإِزَالَةَ الْمِلْكِ , وَمِثْلُ هَذَا الْعَقْدِ يُطْلِقُ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ صِحَّتَهُ ; لِأَنَّ الْعَاقِدَ الْآخَرَ لَمْ يَفْعَلْ مُحَرَّمًا , فَفِي الْحُكْمِ بِبُطْلَانِ الْعَقْدِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ , وَالْإِبْطَالُ إنَّمَا كَانَ لِحَقِّهِ فَلَا يُزَالُ عَنْهُ ضَرَرٌ قَلِيلٌ بِضَرَرٍ كَثِيرٍ , وَلَيْسَ الْعَقْدُ حَرَامًا مِنْ الطَّرَفَيْنِ حَتَّى يَحْكُمَ بِفَسَادِهِ , وَمَتَى حُكِمَ بِالصِّحَّةِ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ حُكِمَ بِحِلِّ الْعِوَضَ الْأَوَّلَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ , وَلَزِمَ مِنْ هَذَا اسْتِحْقَاقُهُ لِذَلِكَ الْمَالِ بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ.
فَصِحَّةُ الْعَقْدِ تُوجِبُ الِاسْتِحْقَاقَ مِنْ الطَّرَفَيْنِ , وَحَدُّ الِانْتِقَاعِ مَشْرُوطٌ بِبَذْلِ الْعِوَضِ فَإِنْ مَنَعَتْ الْمَرْأَةُ مَا يَجِبُ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا حَقٌّ عَلَى الزَّوْجِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ بِفَسَادِ مِثْلِ هَذَا الْعَقْدِ حَتَّى قَالُوا مِثْلَ ذَلِكَ فِي النَّجْشِ , وَتَلَقِّي الرُّكْبَانِ وَالْمُتَوَجِّهُ أَنْ يُقَالَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الِانْتِفَاعُ بِمَا حَصَلَ لَهُ فِي هَذَا الْعَقْدِ مَعَ حِلِّ الِانْتِفَاعِ لِلْآخَرِ , كَمَا تَقُولُ فِي الرَّجُلِ يَحُولُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ مَالِهِ فَعَلَيْهِ بَدَلُهُ يَنْتَفِعُ بِهِ مَالِكُ الْمَالِ حَلَالًا مَعَ أَنَّ الْحَائِلَ لَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِمَا فِي يَدَيْهِ مِنْ الْمَالِ الَّذِي حَالَ بَيْنَ مَالِكِهِ وَبَيْنَهُ , فَكَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا بِالنِّسْبَةِ إلَى أَحَدِهِمَا فَاسِدًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآخَرِ , وَمَعْنَى التَّصْحِيحِ مَا حَصَلَ الْعِوَضُ الْمَقْصُودُ بِهِ وَهَذَا مِمَّا يُمْكِنُ تَنْوِيعُهُ , وَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا أَنْ تَخْدَعَهُ بِأَنْ تَسْتَحْلِفَهُ يَمِينًا بِالطَّلَاقِ. ثُمَّ تَحُثُّهُ فِيهَا بِأَنْ تَقُولَ أَقَارِبِي يُرِيدُونَ أَنْ أَذْهَبَ إلَيْهِمْ وَأَنَا أَكْرَهُ ذَلِكَ , فَاحْلِفْ عَلَى أَنْ لَا أَخْرُجَ إلَيْهِمْ بِالطَّلَاقِ الثَّلَاثِ , فَيَحْلِفُ ثُمَّ تَذْهَبُ إلَيْهِمْ وَنَحْوُ ذَلِكَ , فَهَذَا أَيْضًا لَا رَيْبَ فِي تَحْرِيمِهِ فَإِنَّ هَذِهِ عَصَتْهُ بِأَنْ فَعَلَتْ مَا نَهَاهَا عَنْهُ مِنْ الْخُرُوجِ وَنَحْوِهِ , وَخَدَعَتْهُ بِأَنْ احْتَالَتْ عَلَى أَنْ طَلَّقَ , وَمِثْلُ هَذِهِ الْحِيلَةُ حَرَامٌ بِالِاتِّفَاقِ وَهَذِهِ مِثْلُ مَا قَبْلَهَا.
الْمَرْتَبَةُ الْخَامِسَةُ: أَنْ تَفْعَلَ هِيَ مَا يُوجِبُ فُرْقَتَهَا مِثْلَ أَنْ تَرْتَدَّ أَوْ تُرْضِعَ امْرَأَةً صَغِيرَةً حَتَّى تَصِيرَ مِنْ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ , أَوْ تُبَاشِرَ أَبَاهُ أَوْ ابْنَهُ , وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمُرْتَدَّةِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَنْفَسِخَ نِكَاحُهَا , فَأَمَّا الْإِرْضَاعُ وَالْمُبَاشَرَةُ فَيَنْفَسِخُ بِهِمَا النِّكَاحُ فَهَذَا أَيْضًا تَحْرِيمُهُ مَقْطُوعٌ بِهِ , وَهَذَا قَدْ أُزِيلَ نِكَاحُهُ بِغَيْرِ فِعْلٍ مِنْهُ , كَمَا صُرِفَ الْخَاطِبُ بِغَيْرِ فِعْلٍ مِنْهُ , ثُمَّ إزَالَةُ النِّكَاحِ الَّذِي قَدْ حَصَلَ لَيْسَ مِثْلَ مَنْعِ الْمُنْتَظِرِ , فَإِذَا كَانَتْ قَدْ قَصَدَتْ هَذَا حِينَ الْعَقْدِ فَقَدْ تَعَدَّدَتْ الْمُحَرَّمَاتُ , وَفَسَادُ الْعَقْدِ الثَّانِي هَذَا أَظْهَرُ مِنْ فَسَادِ عَقْدِ الْخَاطِبِ الثَّانِي بِكَثِيرٍ , وَفَسَادُ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ هُنَا مُحْتَمَلٌ , فَإِنَّ هَذِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُحَلِّلِ حَيْثُ نَوَتْ أَنْ تَفْعَلَ مَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ , كَمَا نَوَى الرَّجُلُ الْفُرْقَةَ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ نِيَّةِ الْفُرْقَةِ وَنِيَّةِ سَبَبِ الْفُرْقَةِ , فَإِنَّ نِيَّةَ الْمَرْأَةِ وَالْمُطَلِّقِ بَيْعُ الزَّوْجِ الْعَبْدَ لَهَا لَمَّا كَانَ سَبَبًا لِلْفُرْقَةِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ نِيَّةِ الزَّوْجِ وَحْدَهُ الْفُرْقَةَ , لَكِنْ يُقَالُ إنَّهَا قَدْ لَا تَتَمَكَّنُ مِنْ الْإِرْضَاعِ وَالْمُبَاشَرَةِ , كَتَمَكُّنِ الزَّوْجِ مِنْ الطَّلَاقِ , وَتَمَكُّنِ الْمُطَلِّقِ مِنْ بَيْعِ الْعَبْدِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَنْوِيَّ هُنَا فِعْلٌ مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ , فَقَدْ لَا يَفْعَلُهُ بِخِلَافِ مَا كَانَ مُبَاحَ الْأَصْلِ , وَأَيْضًا فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَمْ …
وَبِالْجَمَلَةِ فَهَذِهِ قَصَدَتْ الْفَسْخَ بِفِعْلٍ مُحَرَّمٍ , فَالْوَاجِبُ أَنْ تَلْحَقَ بِاَلَّتِي قَبْلَهَا , إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ الْمُحَرَّمُ يُوجِبُ الْفَسْخَ مُبَاشَرَةً أَوْ بِطَرِيقِ التَّسَبُّبِ الْمُفْضِي إلَيْهِ غَالِبًا , أَوْ السَّبَبِ الْمُغَلَّبِ بِالْمُبَاشَرَةِ
وقال: فهذه المراتب التي ذكرناها في نية المرأة لا بد من ملاحظتها، ولا تحسبن أن كلام الإمام أحمد أو غيره من الإئمة أن (نية المرأة ليست بشئ) يعم ما إذا نوت أن تفارقه بطريق تملكه؛ فإنهم عللوا ذلك بأنها لا تملك الفرقة، وهذه العلة منتفية في هذه الصورة. انتهى.
باختصار