مختلف الحديث رقم (34)
جمع واختصار سيف بن دورة الكعبي
بإشراف سيف بن غدير النعيمي
كيف التوفيق بين هذا الحديث:
روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك قال: «أن ناسا، اجتووا في المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يلحقوا براعيه ـ يعني الإبل ـ فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فانطلقوا، فلما صحوا، قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم، واستاقوا النعم، فجاء الخبر في أول النهار، فبعث في آثارهم، فلما ارتفع النهار جيء بهم، «فأمر فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمرت أعينهم، وألقوا في الحرة، يستسقون فلا يسقون)
وفي مختصر البخاري للشيخ الألباني برقم (137) تحت باب: أبواب الإبل والدواب والغنم ومرابضها.
*وبين حديث النهي عن المثلة؟
—————
جواب أبي سيف علي النقبي:
ذكر النووي رحمه الله تعالى في شرحه لصحيح مسلم …. قال القاضي عياض رحمه الله: و اختلف العلماء في حديث العرنيين هذا فقال بعض السلف
1 – كان هذا قبل نزول الحدود و آية المحاربة و النهي عن المثلة فهو منسوخ
2 – و قيل ليس منسوخا و فيهم نزلت آية المحاربة و إنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بهم ما فعله قصاصا ?نهم فعلوا بالرعاة مثل ذلك.
شرح صحيح مسلم 1671
—————–
جواب احمد بن علي:
قال الطحاوي: وكان من حجتنا لمن احتج لأبي حنيفة رحمه الله بما ذكرنا على مخالفته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان منه ما كان منه في أولئك القوم الذي كان منه فيهم ما كان , قبل نهي الله عز وجل إياه عن المثلة بمن حل له قتله … لا لأنه حد كان عليهم في أيديهم وأرجلهم ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم قد سمل أعينهم إرادة منه به قتلهم لا ما سوى ذلك من حد عليهم فيما دون أنفسهم يكون عليهم في أعضائهم , ثم منع من مثل ذلك بنهيه صلى الله عليه وسلم , عن المثلة
شرح مشكل الآثار
قال ابن رجب:
وقد اختلف العلماء في وجه عقوبة هؤلاء، فمنهم من قال: من فعل مثل فعلهم فارتد، وحارب، وأخذ المال، صنع به كما صنع بهؤلاء، وروي هذا عن طائفة، منهم أبو قلابة، وهو رواية عن أحمد.
ومنهم من قال: بل هذا يدل على جواز التمثيل ممن تغلظت جرائمه في الجملة، وإنما نهي عن التمثيل في القصاص، وهو قول ابن عقيل من أصحابنا. ومنهم من قال: بل نسخ ما فعل بالعرنيين بالنهي عن المثلة.
ومنهم من قال: كان قبل نزول الحدود وآية المحاربة، ثم نسخ بذلك، وهذا قول جماعة منهم الأوزاعي وأبو عبيد.
ومنهم من قال: بل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بهم إنما كان بآية المحاربة، ولم ينسخ شيء من ذلك؛ وقالوا: إنما قتلهم النبي صلى الله عليه وسلم وقطع أيديهم، لأنهم أخذوا المال؛ ومن أخذ المال وقتل، قطع وقتل، وصلب حتما؛ فيقتل لقتله ويقطع لأخذه المال يده ورجله من خلاف، ويصلب لجمعه بين الجنايتين وهما القتل وأخذ المال، وهذا قول الحسن، ورواية عن أحمد. وإنما سمل أعينهم، لأنهم سملوا أعين الرعاة كذا خرجه مسلم من حديث أنس، وذكر ابن شهاب أنهم قتلوا الراعي، ومثلوا به، وذكر ابن سعد أنهم قطعوا يده ورجله، وغرسوا الشوك في لسانه وعينيه حتى مات، وحينئذ، فقد يكون قطعهم، وسمل أعينهم، وتعطيشهم قصاصا، وهذا يتخرج على قول من يقول: إن المحارب إذا جنى جناية توجب القصاص استوفيت منه قبل قتله، وهو مذهب أحمد.
جامع العلوم والحكم
قال ابن حجر:
زاد وهيب والأوزاعي (حتى ماتوا) وفي رواية أبي رجاء (ثم نبذهم في الشمس حتى ماتوا) وفي رواية شعبة عن قتادة (يعضون الحجارة) وفي الطب من رواية ثابت قال أنس (فرأيت الرجل منهم يكدم الأرض بلسانه حتى يموت) ولأبي عوانة من هذا الوجه (يعض الأرض ليجد بردها مما يجد من الحر والشدة) وزعم الواقدي أنهم صلبوا والروايات الصحيحة ترده لكن عند أبي عوانة من رواية أبي عقيل عن أنس (فصلب اثنين وقطع اثنين وسمل اثنين) كذا ذكر ستة فقط فإن كان محفوظا فعقوبتهم كانت موزعة.
ومال جماعة منهم بن الجوزي إلى أن ذلك وقع عليهم على سبيل القصاص لما عند مسلم من حديث سليمان التيمي عن أنس إنما سمل النبي صلى الله عليه و سلم أعينهم؛ لأنهم سملوا أعين الرعاة وقصر من اقتصر في عزوه للترمذى والنسائي وتعقبه ابن دقيق العيد بأن المثلة في حقهم وقعت من جهات، وليس في الحديث الا السمل فيحتاج إلى ثبوت البقية.
قلت: كأنهم تمسكوا بما نقله أهل المغازي إنهم مثلوا بالراعي.
وذهب آخرون إلى أن ذلك منسوخ قال بن شاهين عقب حديث عمران بن حصين في النهي عن المثلة: هذا الحديث ينسخ كل مثلة، وتعقبه بن الجوزي بأن ادعاء النسخ يحتاج إلى تاريخ، قلت: يدل عليه ما رواه البخاري في الجهاد من حديث أبي هريرة في النهى عن التعذيب بالنار، بعد الإذن فيه، وقصة العرنيين قبل إسلام أبي هريرة وقد حضر الإذن ثم النهي وروى قتادة عن ابن سيرين أن قصتهم كانت قبل أن تنزل الحدود، ولموسى بن عقبة في المغازي وذكروا أن النبي صلى الله عليه و سلم نهى بعد ذلك عن المثلة بالآية التي في سورة المائدة وإلى هذا مال البخاري وحكاه أمام الحرمين في النهاية عن الشافعي واستشكل القاضي عياض عدم سقيهم الماء للاجماع على أن من وجب عليه القتل فاستسقى لا يمنع وأجاب بأن ذلك لم يقع عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم ولا وقع منه نهى عن سقيهم انتهى وهو ضعيف جدا؛ لأن النبي صلى الله عليه و سلم اطلع على ذلك وسكوته كاف في ثبوت الحكم …
فتح الباري
قال ابن الجوزي: وقد اختلف العلماء في وجه هذا الفعل بهؤلاء على قولين: أحدهما: أنه اقتص منهم على مثال فعلهم، فقال أنس: إنما سمل أعينهم لأنهم سملوا أعين الرعاء. قال ابن جرير: وقد ذهب بعض العلماء إلى أن هذا الحكم ثابت في نظرائهم لم ينسخ.
والثاني: أن هذا الفعل كان قبل أن تنزل الحدود. قال أبو الزناد: لما فعل هذا وعظه الله عز وجل ونهى عن المثلة وأنزل الحدود. وقال ابن سيرين: هذا قبل أن تنزل الحدود. وقال قتادة: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى بعد ذلك عن المثلة.
وقال ابن جرير الطبري: قد ذهب بعضهم إلى أن هذا الحكم منسوخ بالنهي عن المثلة. قال: وقالوا: إنما نزل قوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله} [المائدة: 33] فيما فعل بالعرنيين.
كشف المشكل من حديث الصحيحين لابن الجوزي
قال الألباني:
والسياق لمسلم وزاد في رواية قال أنس: إنما سمل النبي (صلى الله عليه وسلم) أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاة “. وزاد أبو داود في رواية: ” فانزل الله تبارك وتعالى في ذلك (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا) الآية. وإسناده صحيح. وزاد في رواية: ” ثم نهى عن المثلة ” لكن بين البخاري في إحدى رواياته أن هذا من رواية قتادة قال: بلغنا. . . فالزيادة الثانية مرسلة.
إرواء الغليل 177، 2230
قال عبدالمحسن العباد:
وهذا يدل على أن القتل يكون على هيئة القتل في القصاص، بمعنى: أنه إذا قتل بطريقة ما فإنه يقتل بتلك الطريقة، إلا إذا كانت الطريقة فيها أمر منكر لا يسوغ فعله، فإنه لا يقتل بالطريقة المحرمة التي لا يجوز الإقدام عليها في أي حال من الأحوال، ومن أمثلة ذلك قصة الجارية التي رض اليهودي رأسها بين حجرين، فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر بأن يفعل باليهودي مثل ما فعل بها، حيث إن الذي قتلها هو من اليهود وقد رض رأسها بين حجرين، فإن القتل يكون على الهيئة التي يكون عليها القتل من الجاني، وهذا هو الذي يدل عليه لفظ القصاص، والله تعالى يقول: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ [البقرة:179]؛ لأن لفظ القصاص يشعر بالمقاصة، وأنه يكون على الهيئة التي حصل بها القتل، فإذا كان بتمثيل فإنه يعمل به كما عمل بغيره، ويجازى عند العقوبة كما فعل هو بغيره: جَزَاءً وِفَاقًا [النبأ:26]، وجاء في بعض الألفاظ: (سمر)، وفي بعض الألفاظ: (سمل أعينهم)، قيل: فقأها، وقيل: سمرها بالمخراز أو الإبر التي أحميت في النار، ثم وضعت على العيون حتى تفقأت. قوله: [قال أبو قلابة: فهؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم، وحاربوا الله ورسوله]. قال أبو قلابة وهو أحد الرواة: (فهؤلاء قوم كفروا) يعني: ارتدوا عن الإسلام، وسرقوا، وقتلوا، وحاربوا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
شرح سنن أبي داود للعباد
————
جواب: سيف بن دورة الكعبي:
منقول عن بعض لجان الفتوى:
الأسباب التي أدت إلى قطع أيدي وأرجل وسمل أعين العرنيين
[السُّؤَالُ]
ـ[شخص عرف أن الرسول صلى الله عليه و سلم قد سمل أعين العرنيين بالحديد المحمى. فوجد في صدره حرجا من هذا الأمر وأحس في نفسه كرها لهذا الفعل فلجأ إلى تكذيب الرواية، وقال بأنه لا يصدق أن يقدم الرسول على هذا الفعل. فهل يكفر بذلك؟ و هل لنا أيضا أن نعلم لماذا فعل الرسول صلى الله عليه و سلم ذلك بهؤلاء؟ و من هم العرنيون أصلا؟]ـ
[الفَتْوَى]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالعرنيون أناس من قبيلة عرينة، وخلاصة قصتهم ـ وهي ثابتة في الصحيحين ـ أنهم أتوا المدينة فأسلموا وآواهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطعمهم، فأصابهم داء في بطونهم -داء الاستسقاء- واستوخموا المدينة، فأنزلهم صلى الله عليه وسلم الحرة في طائفة من إبل الصدقة وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها، فلما صحوا وسمنوا، ارتدوا عن الإسلام وقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا الإبل، فبعث في آثارهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم.
وبهذا يتبين أن هؤلاء جمعوا بين أنواع من الجرائم فأعظمها أنهم ارتدوا، ثم القتل والحرابة والسرقة، ولذلك قال أبو قلابة راوي الحديث عن أنس: هؤلاء قوم سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله. رواه البخاري.
ومع هذا فلم يكتفوا بقتل الراعي بل سملوا عينه، ولذلك اقتص منهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقد روى مسلم في صحيحه عن أنس قال: إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين أولئك لأنهم سملوا أعين الرعاء. وراجع الفتوى رقم: 8358.
ومن المعلوم أن القصاص هو عين العدل. وقد قال الله تعالى: الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ. {البقرة:194}. وقال عز وجل: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا. {الشورى: 40}. وقال سبحانه: وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ. {المائدة: 45} وقد سبق معنى القصاص في الفتوى رقم: 23034.
فما فعله النبي صلى الله عليه وسلم هو عين العدل، وأضف إلى ذلك أن مثل هذا الفعل القبيح من هؤلاء المجرمين لو تعامل النبي صلى الله عليه وسلم معه باللين والرفق والعفو لتجرأ أناس غيرهم على ذلك، في وقت كان المسلمون فيه محارَبين من عدة جهات.
فمن وجد في صدره حرجا من هذا الأمر، فالغالب أنه قد سمع فقط بالعقوبة دون أن يدرك حجم الجريمة، وليس هذا بإنصاف.
وعلى أية حال فمن أنكر وقوع هذه القصة وكذب هذه الرواية وقال: إنه لا يصدق أن يقدم الرسول على هذا الفعل. فلا يكفر بذلك؛ لأنه إنما ردها وكذبها متأولا، بل مدافعا ونافيا عن النبي صلى الله عليه وسلم ما ظنه ظلما وقبحا. وإنما الذي يكفر هو من أنكر السنة النبوية كمصدر للتشريع، وأما إنكار ما سوى ذلك بغير تأويل معتبر فضلال وليس بكفر، كما سبق بيانه في الفتويين: 39084، 25570.
وعلى أية حال فالواجب على كل من آمن بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم التصديق والانقياد لما جاء عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من الوحي، فمتى صحت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يجوز ردها أو الاعتراض عليها، كما أنه لا يجوز إخضاع السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأهواء، والعقول السقيمة التي ترد ما تجهله، أو تجهل الحكمة منه، كما سبق التنبيه عليه في الفتوى رقم: 12472.
والله أعلم.
[تَارِيخُ الْفَتْوَى]
02 رجب 1430