[كل معروف صدقة]
الحمدلله وحده، و الصلاة و السلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
فقد شرعت من قبل رمضان أن أعمل سلسلة شرح خمسين حديثاً في الآداب من كلام أهل العلم تذكيراً لنفسي و لغيري، فأليكم باقي السلسلة ..
جاء عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «كل معروفٍ صدقة». أخرجه البخاري.
قال العلامة السعدي رحمه الله: فيالها من كلمة عظيمة جامعة للخيرات، وياله من كلام بليغ محيط بأصناف البر والبركات، فكما دخل في هذا الإحسان الديني يدخل فيه الإحسان الدنيوي، وكما يدخل فيه المعروف بالجاه والمقال، يدخل فيه المعاونات البدنية والإحسان بالمال، ويتناول المعروف إلى الصاحب والقريب، والمعروف إلى العدو والبعيد، فمن علم غيره علما أو أهدى له نصحا فقد تصدق عليه، ومن نبهه على مصلحة دينية أو دنيوية أو حذره من مضرة فقد أحسن إليه. [الفواكه الشهية ((75) – (76))].
و قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: هذه من الكلمات الجامعة: «كل معروف فهو صدقة»، إن قابلت صاحبك بوجه طلقٍ فهو صدقة؛ لأنه معروف، كل يثني على ذلك إن أعطيته شيئًا ولو قليلًا فهو معروف، إن عفوت عنه فهو معروف، إن أنفقت على أهلك، إن أعرت صاحبك فهو معروف؛ إذن كل معروف فإنه صدقة، وكل منكر فإنه ليس بصدقة؛ لأنه منكر ويجب إنكاره.
[فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية (6) / (295)].
من صور المعروف:
قال العلامة السعدي رحمه الله:
ومن المعروف إماطة الأذى عن الطريق، وعزل العظم والشوكة وجميع ما يؤذي.
ومن المعروف هداية الأعمى في المساجد والطرق وهداية الحيران، وأن تسمع الأصم وتطعم الجائع وتسقي الظمآن، وتغيث المكروب واللهفان،
ومن المعروف إعانة أصحاب الحوائج من الأقارب والأباعد والجيران.
والعفو عمن ظلمك ومقابلة الإساءة بالإحسان، ومن المعروف الدعوة إلى طعام أو قهوة أو شراب، للأغنياء والفقراء والبعداء والأقراب، وسماحك لمن ينتفع بشيء من ملكك من ماشية ونخل وأشجار، بلبن أو خوص أو حطب أو ثمار، وإعانة المسلم بكتابة وعمل صنعة ونقل متاع.
ومن المعروف بذل الفضل في المعاملات والمحاباة فيها فما شيء يترك ثوابه ولا يضاع.
ومن المعروف الإحسان إلى المماليك من الآدميين وسائر الحيوانات، ففي كل كبد حراء أجر واكتساب للخيرات.
ومن المعروف أن تبذل لغيرك دواء نافعا أو تباشره بطب أو تصف له حمية أو دواء ناجعا، فكلما أوصلته إلى الخلق من البر والإحسان والتكريم، فأنه داخل في خطاب النبي الكريم، {وما تُقَدِّمُوا لِأنْفُسِكُمْ مِن خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وأعْظَمَ أجْرًا}. [الفواكه الشهية ((75)).
* ومن هذا المعروف أن يتصدق على زوجته بإعفافها كما قال -صلى الله عليه وسلم-: في بضع أحدكم صدقة، يعني على أهله؛ لأنه قد تشتد حاجتها ويعظم فقرها من ذلك إلى ما لا يمكنها الضعف أن تذكره ولا تبدي ما بها من الحاجة إليه. [الإفصاح عن معاني الصحاح (2) / (238)]
و قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر من أفضل الصدقات.
[شرح رياض الصالحين ((2) / (162)).
[المراد بالصدقة في الحديث]
قال ابن رجب: فالصَّدَقَةُ تُطْلَقُ عَلى جَمِيعِ أنْواعِ فِعْلِ المَعْرُوفِ والإحْسانِ، حَتّى إنْ فَضَلَّ اللَّهِ الواصِلَ مِنهُ إلى عِبادِهِ صَدَقَةٌ مِنهُ عَلَيْهِمْ. [جامع العلوم و الحكم ((2) / (58))].
[الصدقة بغير المال نوعان]
قال ابن رجب رحمه الله: والصَّدَقَةُ بِغَيْرِ المالِ نَوْعانِ: أحَدُهُما: ما فِيهِ تَعْدِيَةُ الإحْسانِ إلى الخَلْقِ، فَيَكُونُ صَدَقَةً عَلَيْهِمْ، ورُبَّما كانَ أفْضَلَ مِنَ الصَّدَقَةِ بِالمالِ، وهَذا كالأمْرِ بِالمَعْرُوفِ، والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، فَإنَّهُ دُعاءٌ إلى طاعَةِ اللَّهِ، وكَفٌّ عَنْ مَعاصِيهِ، وذَلِكَ خَيْرٌ مِنَ النَّفْعِ بِالمالِ، وكَذَلِكَ تَعْلِيمُ العِلْمِ النّافِعِ، وإقْراءُ القُرْآنِ، وإزالَةُ الأذى عَنِ الطَّرِيقِ، والسَّعْيُ فِي جَلْبِ النَّفْعِ لِلنّاسِ، ودَفْعُ الأذى عَنْهُمْ. وكَذَلِكَ الدُّعاءُ لِلْمُسْلِمِينَ والِاسْتِغْفارُ لَهُمْ.
[جامع العلوم والحكم ((2) / (59))].
الصدقة أنواع:
قال العلامة العباد حفظه الله:
الصدقة أنواع: منها ما هو صدقة من الإنسان على نفسه، ومنها ما هو صدقة منه على نفسه وغيره، فكون الإنسان يصلي صدقة منه على نفسه؛ لأن الصلاة نفعها مقصور على الإنسان، وليس متعديًا، وهناك صدقات يحصل تعدي النفع بها، كأن يسلم الإنسان على غيره، فهذه صدقة متعدية؛ لأنه يتصدق على نفسه وعلى غيره؛ لأن السلام دعاء، ويتطلب جوابًا وهو دعاء.
فكون الإنسان يسلم على غيره هو صدقة منه على نفسه وعلى غيره؛ لأنهما يحصلان أجرًا، والذي يبدأ بالسلام أفضل والذي يسلم عليه -أيضًا- يدعى له وهو يجيب بالدعاء، فهي صدقة متعدية.
قوله: [(تسليمه على من لقي صدقة، وأمره بالمعروف صدقة)].
هذا فيه أن الإنسان يسلم على من لقي ممن يعرف ومن لا يعرف، فقوله: [(من لقي)] عام، يشمل من يعرف ومن لا يعرف، وليس السلام خاصًا بالمعرفة، وإنما هو على من يعرف ومن لا يعرف، ولهذا قال: [(من لقي)]، وقد جاء في الحديث: (وأن تسلم على من عرفت ومن لم تعرف) يعني أنه للعامة وليس لأحد أن يميز ويخص به.
قوله: [(أمره بالمعروف صدقة ونهيه عن المنكر صدقة)].
وذلك حين تأمر غيرك بمعروف فتدله على خير، وتحذره من شر، تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر، فهي صدقة منك عليه، وهي صدقة منك على نفسك أيضًا؛ لأن الإنسان يؤجر على أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر.
وسواءٌ استجيب له أو لم يستجب فهو مأجور، فإذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فقد حصل أجرًا، لكن المأمور إن حصل أنه انتفع واستفاد فإنه يحصل أيضًا أجرًا، فكون الإنسان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر هو صدقة منه على نفسه وعلى غيره.
[(وإماطته الأذى عن الطريق صدقة)].
أي: كون الإنسان يجد شيئًا في الطريق يؤذي الناس -سواءٌ المشاة أو السيارات-، أو يجد شيئًا يسبب الانزلاق إذا وطئ عليه، فيحصل بذلك ضرر فيرفعه فإماطته الأذى عن الطريق صدقة، والأذى هو أي شيء يؤذي الناس من شوك أو زجاج أو حديد أو حصى أو قشر موز أو غير ذلك من الأشياء التي يحصل بسببها أذى.
قوله: [(وبضعة أهله صدقة)].
يعني: كون الإنسان يجامع أهله صدقة منه على نفسه وعلى غيره؛ لأنه يعف نفسه ويعف أهله، ويتصدق على نفسه وعلى غيره.
قوله: [(ويجزئ من ذلك كله ركعتان من الضحى)].
يعني: إذا فعل في كل يوم هاتين الركعتين من الضحى فإنهما تجزئان عن هذه الصدقة التي هي على الأعضاء، وذلك: أن الإنسان إذا ركع الركعتين تتحرك أعضاؤه ومفاصله، فيكون بذلك قد تصدق على نفسه بهذه الصلاة، وهذا يدلنا على فضل هذه الصلاة؛ لأنها تعتبر مجزئة عن هذه الصدقة التي هي على كل سلامى من جسم الإنسان في كل يوم من الأيام.
شرح سنن أبي داود للعباد (158) / (12)]
و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين