كلام أهل العلم في التحذير من مشابهة الكفار
قال ابن تيمية -رحمه الله – في” اقتضاءالصراط المستقيم”: ثم إن الصراط المستقيم هو أمور باطنة في القلب من اعتقادات، وإرادات وغير ذلك وأمور ظاهرة: من أقوال، أو أفعال قد تكون عبادات، وقد تكون أيضا عادات في الطعام واللباس، والوهذه الأمور الباطنة والظاهرة بينهما ارتباط ومناسبة، فإن ما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أموراً ظاهرة، وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال يوجب للقلب شعوراً وأحوالاً.
وقد بعث الله محمداً ً صلى الله عليه وسلم بالحكمة التي هي سنته، وهي الشرعة والمنهاج الذي شرعه له فكان من هذه الحكمة أن شرع له من الأعمال والأقوال ما يباين سبيل المغضوب عليهم والضالين، فأمر بمخالفتهم في الهدي الظاهر وإن لم يظهر لكثير في ذلك مفسدة لأمور: منها: أن المشاكة في الهدي الظاهر تورث تناسباً وتشاكلًا بين المتشابهين، يقود إلى موافقة ما في الأخلاق والأعمال، وهذا أمر محسوس؛ فإن اللابس ثياب أهل العلم يجد في نفسه تخلق بأخلاقهم، ويصير طبعه متقاضياً لذلك، إلا أن يمنعه مانع.
ومنها: أن المخالفة في الهدي الظاهر توجب مباينة ومفارقة توجب الانقطاع عن موجبات الغضب وأسباب الضلال، والانعطاف على أهل الهدى والرضوان وتحقق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين.
وكلما كان القلب أتم حياة، وأعرف بالإسلام الذي هو الإسلام -لست أعني مجرد التوسم به ظاهراً أو باطناً بمجرد الاعتقادات من حيث الجملة- كان إحساسه بمفارقة اليهود والنصارى باطناً وظاهراً أتم وبعده عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين أشد.
ومنها: أن مشاركتهم في الهدي الظاهر توجب الاختلاط الظاهر حتى يرتفع التميز ظاهرًا، بين المهديين المرضيين، وبين المغضوب عليهم والظالين، إلى غير ذلك من الأسباب الحكمية.
هذا إذا لم يكن ذلك الهدي الظاهر إلا مباحاً محضاً لو تجرد عن مشابهتهم، فأما إن كان من موجبات كفرهم؛ كان شعبة من شعب الكفر؛ فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع معاصيهم، فهذا أصل ينبغي أن يتفطن له.
نكاح، والمسكن، والاجتماع والافتراق، والسفر والإقامة، والركوب وغير ذلك
وقال شيخ الإسلام: ومما يدل من القرآن على النهي عن مشابهة الكفار قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [البقرة: 104].
فهذا كله يبين أن هذه الكلمة نهى المسلمون عن قولها؛ لأن اليهود كانوا يقولونها، وإن كانت من اليهود قبيحة، ومن المسلمين لم تكن قبيحة، لما كان في مشابهتهم فيها من مشابهة الكفار.
وقال -رحمه الله -: عقب قوله تعالى (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) [المائدة: 55]: والموالاة والمودة، وإن كانت متعلقة بالقلب لكن المخالفة في الظاهر أعون على مقاطعة الكافرين ومباينتهم … ، ولما دل عليه الكتاب جاءت سنة رسول الله < وسنة خلفائه الراشدين التي أجمع الفقهاء عليها، بمخالفتهم وترك التشبه بهم ففي “الصحيحين” عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله <: «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم».
أَمْرٌ بمخالفتهم وذلك يقتضي أن يكون جنس مخالفتهم أمرًا مقصودًا للشارع.
ثم قال شيخ الإسلام بعد المقطع السابق: ويوضح ذلك أنه لو لم يكن لقصد مخالفتهم تأثير في الأمر بالصبغ، لم يكن لذكرهم فائدة ولا حسن تعقيبه به وهذا وإن دل على مخالفتهم أمر مقصود للشرع، فذلك لا ينفي أن يكون في نفس الفعل الذي خولفوا فيه مصلحة مقصودة مع قطع النظر عن مخالفتهم فإن هنا شيئين:
أحدهما: أن نفس المخالفة لهم في الهدي الظاهر مصحلة، لمن تنور قلبه، حتى رأى ما اتصف به المغضوب عليهم، والضالون من المرض الذي ضرره أشد من ضرر أمراض البدن.
والثاني: أن نفس ما هم عليه من الهدي، والخلق قد يكون مضرًا أو منقصاً فينهى عنه، ويؤمر بضده لما في من المنفعة والكمال، وليس شيء من أمورهم إلا وهو إما مضر أو ناقص.
ثم قال: فقد تبين أن نفس مخالفتهم أمر مقصود للشارع في الجملة، ثم ذكر حديث: «غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود».
ثم قال: وهذا اللفظ دل على الأمر بمخالفتهم والنهي عن مشابهتهم؛ فإنه إذ نهى عن التشبه بهم في بقاء بيض الشيب الذي ليس من فعلنا؛ فَلَأَنْ ينهى عن إحداث التشبه بهم أولى؛ ولهذا كان هذا التشبه يكون محرماً …….
وذكر الحديث المتفق عليه «خالفوا المشركين احفوا الشوارب وأوفوا اللحى» وحديث «لا يزال الدين ظاهراً ما عجل الناس الفطر لأن اليهود والنصارى يؤخرون» وحديث ابن عمر عند أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من تشبه بقوم فهو منهم». وقال: سنده جيد.
– ثم قال: وهذا الحديث أقل أحواله أن يقتضي تحريم التشبه بهم، وإن كان ظاهره، يقتضي كفر المتشبه بهم كما في قوله تعالى (وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) [المائدة:51]. وبكل حال يقتضي تحريم التشبه بعلة كونه تشبهًا، والتشبه يعم من فعل الشيء لأجل أنهم فعلوه وهو نادر، ومن تبع غيره في فعل لغرض له في ذلك إذا كان أصل الفعل مأخوذًا عن ذلك الغير.
فأما من فعل الشيء واتفق أن الغير فعله أيضًا ولم يأخذه أحدهما عن صاحبه، ففي كون هذا تشبهًا نظر، لكن قد ينهى عن هذا؛ لئلا يكون ذريعة إلى التشبه، ولما فيه من المخالفة
ولهذا أيضا كره أحمد: لباس أشياء كانت شعار الظلمة في وقته من السواد ونحوه، وكره هو وغيره تغميض العين في الصلاة وقال: هو من فعل اليهود.
ثم ذكر شيخ الإسلام -رحمه الله- أشياء من التشبه بالكفار، وأن أصل الشرك الذي نقل إلى العرب هو من التشبه بالكفار نقله عمرو بن لحي مُحرِّم البحيرة والسائمة والوصيلة، ثم قال: وإنما فعله -يعني عمرو بن لحي – متشبهًا فيه بغيره من أهل الأرض،
ثم ذكر -رحمه الله- أحاديث الأذان ومخالفة النبي صلى الله عليه وسلم فيها لليهود والنصارى.
قال شيخ الإسلام ممثلًا على هذا: وهذا المشابهة لليهود والنصارى، وللأعاجم من الروم والفرس لما غلبت على ملوك المشرق هي وأمثالها مما خالفوا به هدي المسلمين، ودخلوا فيما كرهه الله ورسوله سلط عليهم الترك الكافرون الموعود بقتالهم حتى فعلوا في العباد والبلاد ما لم يجر في دولة الإسلام مثله، وذلك تصديق قوله «لتركبن سنن من كان قبلكم».
ثم قال شيخ الإسلام -رحمه الله -: وأما الإجماع -يعني إجماع الصحابة ومن بعدهم فمن وجوه: من ذلك: أن أمير المؤمنين عمر، في الصحابة رضي الله عنهم، ثم عامة الأئمة بعده، وسائر الفقهاء، جعلوا في الشروط المشروطة على أهل الذمة من النصارى وغيرهم، فيما شرطوه على أنفسهم: ” أن نوقر المسلمين، ونقوم لهم من مجالسنا، إذا أرادوا الجلوس، ولا نتشبه بهم في شيء من لباسهم: قلنسوة، أو عمامة، أو نعلين، أو فرق شعر، ولا نتكلم بكلامهم، ولا نكتنى بكناهم، ولا نركب السروج، ولا نتقلد السيوف، ولا نتخذ شيئا من السلاح، ولا نحمله، ولا ننقش خواتيمنا بالعربية، ولا نبيع الخمور، وأن نجز مقادم رءوسنا، وأن نلزم زينا حيثما كان، وأن نشد الزنانير على أوساطنا، وأن لا نظهر الصليب على كنائسنا، ولا نظهر صليبًا، ولا كتبًا، في شيء من طرق المسلمين، ولا أسواقهم، ولا نضرب بنواقيسنا في كنائسنا إلا ضربًا خفيًا، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا، ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين” رواه حرب بإسناد جيد.
وتكلم شيخ الإسلام -رحمه الله – عن عدم جواز مشابهتهم في الأعياد.
وذكر أن:
الآدمي إذا عاشر نوعًا من الحيوان اكتسب بعض أخلاقه، ولهذا صار الخيلاء والفخر في أهل الإبل، وصارت السكينة في أهل الغنم،
فالمشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة، توجب مشابهة ومشاكلة في الأمور الباطنة على وجه المسارقة والتدريج الخفي.
وقد رأينا اليهود والنصارى الذين عاشروا المسلمين، هم أقل كفرًا من غيرهم، كما رأينا المسلمين الذين أكثروا من معاشرة اليهود والنصارى، هم أقل إيمانًا من غيرهم ممن جرد الإسلام، والمشاركة في الهدي الظاهر توجب أيضًا مناسبة وائتلافًا، وإن بعد المكان والزمان، فهذا أيضًا أمر محسوس، فمشابهتهم في أعيادهم -ولو بالقليل- هو سبب لنوع ما من اكتساب أخلاقهم التي هي ملعونة انتهى من بحث لأحد الباحثين باختصار
قلت سيف: ودليل التفرق الموجب للتنافر حديث (لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم …. ) فكون المسلم يفارق الكافر، ولا يشابهه هذا أدعى لعدم الميل لهم.
————-
مسألة: هل شرع من قبلنا شرع لنا:
شرع من قبلنا قسمان:
القسم الأول: ما لا تختلف فيه الشرائع وهو التوحيد وأصول الإيمان فهذا يكون فيه شرع من قبلنا شرع لنا باتفاق قال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمةٍ رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} وقال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون}
وفي الصحيحين عن أبي هريرة 1 – رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ – أن رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ – قال: ” نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد ”
القسم الثاني: ما تختلف فيه الشرائع وهذا له ست صور (قلت سيف: ساذكر ثلاث صور فقط والمحذوف صور لم تثبت أنها من دينهم إما بتكذيب ديننا لها وما شابه ذلك):
الصورة الأولى: ما ثبت في شرع من قبلنا وثبت في شرعنا ما يوافقه فهنا يكون شرع من قبلنا شرع لنا مثل القصاص ورجم الزاني والطهارة ونحوها فهذا يكون شرعاً لنا باتفاق وإن كان هذا في الحقيقة العمدة فيه هو الدليل الوارد في شرعنا لا شرعهم فقط.
الصورة الثانية: ما ثبت أنه شرع لمن قبلنا وثبت في شرعنا خلافه فهنا العبرة بما جاء في شرعنا
الصورة السادسة: ما ثبت في شرعنا أنه شرع لمن قبلنا ولم يثبت في شرعنا موافقته أو مخالفته أي ان شرعنا أورده وسكت عنه فهذا هو محل النزاع وقد اختلف فيه على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه يكون شرعاً لنا وهو قول الجمهور من الحنفية والمالكية وجمهور الشافعية والحنابلة وهو إحدى الروايتين عن أحمد أومأ إليها في رواية أبي الحارث وحنبل والفضل بن زياد وعبد الصمد والأثرم في مسألة القرعة وقد وردت في موضعين في القرآن في قصة مريم وقصة يونس عليه السلام، وكذا في رواية صالح في مسألة القصاص، واختاره مالك كما في كتاب الديات من الموطأ ونص عليه الشافعي في كتاب الأم في كتاب الطعمة والإجارة.
واختار هذا القول القاضي أبو يعلى وأبو الخطاب وابن قدامة وابن تيمية وابن القيم من الحنابلة والباجي والقرافي وابن الحاجب من المالكية والدبوسي والبزدوي من الحنفية.
القول الثاني: انه ليس شرعاً لنا وهو قول بعض الشافعية كالغزالي والآمدي والشيرازي في كتاب اللمع أما في كتاب التبصرة فقد وافق الجمهور وقال بهذا القول ابن حزم وصححه النووي وهو رواية عن أحمد أومأ إليها في رواية أبي طالب في القصاص وهو قول المعتزلة والأشاعرة
المطلب الرابع
أدلة الأقوال في المسألة
أدلة الأقوال في المسألة
أدلة القول الأول:
1 – قوله تعالى:? … أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه
واعتُرض على الآية:” أَنَّهُ إِنَّمَا أَمَرَهُ بِاتِّبَاعِ هُدًى مُضَافٍ إِلَى جَمِيعِهِمْ، مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ دُونَ مَا وَقَعَ بِهِ الْخِلَافُ فِيمَا بَيْنَهُم أو تحمل على أصول الدين
“و جوابه: إن ألفاظ تلك الآيات عامة وشاملة لأصول الدين وفروعه، فيجب حملها على هذا العموم
2 – “عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: َقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَنَسُ كِتَابُ اللَّهِ القِصَاصُ»
ووجه الدلالة:”أنه ليس في القرآن قصاص السن إلا ما حكي عن التوراة في قوله تعالى: ?والسن بالسن.
واعترض ذلك:”بأنه موجود في القران قال الله:?فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم.
3 – عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ يَهُودِيًّا وَقَالَ: ” اللهُمَّ إِنِّي أُشْهِدُكَ، أَنِّي أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا سُنَّةً قَدْ أَمَاتُوهَا ” ().وفي الصحيح عن ابن عمر
ووجه الدلالة من الحديث أن النبي رجم اليهودي عملا بشرعهم وإحياءً لسنة قد أماتوها، قبل أن ينزل فيها وحي في شرعنا.
واعترض على ذلك: أن “مُرَاجَعَةُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ التَّوْرَاةَ فَإِنَّمَا كَانَ لِإِظْهَارِ صِدْقِهِ.
والجواب لو كان المراد إظهار صدقه لكتفى بوجوده في التوراة دون أن يقول:” اللهُمَّ إِنِّي أُشْهِدُكَ، أَنِّي أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا سُنَّةً قَدْ أَمَاتُوهَا”. وهذا ظاهر البيان.
8 – عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” مَنْ نَسِيَ صَلاَةً فَلْيُصَلِّ إِذَا ذَكَرَهَا، لاَ كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ.?وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي () ” ().
“ووجه الدلالة: أن الآية خطاب مع موسى – عليه السلام – فلو لم يكن نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – متعبداً بما كان عليه موسى – عليه السلام – لما صح استدلاله بتلك الآية” ().
واعترض ذلك:” ما ذكره – صلى الله عليه وسلم – تعليلا للإيجاب، لكن أوجب بما أوحي إليه ونبه على أنهم أمروا كما أمر موسى وقوله:?لذكري أي: لذكر إيجابي للصلاة، ولولا الخبر لكان السابق إلى الفهم أنه لذكر الله تعالى بالقلب أو لذكر الصلاة بالإيجاب” ().
والجواب لو كان بما أوحى الله لاستدل عليه الصلاة والسلام بما أوحي إليه.
9 – “أن اللَّه تعالى إذا شرع حكما شرعيا فى حق أُمَّة من الأمم السابقة فإن هذا يدل على أمرين:
أولهما: أن اللَّه سبحانه لم يشرعه إلا لأن مصلحة هذه الأُمَّة قد اقتضت هذا الحكم.
ثانيهما: أنه لم يشرعه إلا لأنه قد اعتبره لكل زمان، ولكل مكان، ولكل مكلَّف … فإن الحكم الذي أنزله اللَّه تعالى في أي شريعة يجب أن يستمر من حين نزوله إلى أن ينسخ، وبناء على ذلك فيجب العمل بما جاء في الشرائع السابقة حتى يرد دليل على نسخه وإبطاله” ().
أدلة القول الثاني:
1 – قوله تعالى:?لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا (.
والجواب: أن الشرائع قد تتفق ف اشياء
2 – عَنْ جَابِرٍ: ” أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَصَبْتُ كِتَابًا حَسَنًا مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ، قَالَ: فَغَضِبَ وَقَالَ:”أَمُتَهَوِّكُونَ ….
ووجه الدلالة: أن النبي نهى عمر أن يرجع للتوراة وهي شرع من قبلنا فنهيه دلالة على عدم اتباعه شرع من قبله.
“والجواب أنه إنما أنكر عليه، لأن التوراة مبدلة مغيرة، وأكثرها منسوخ ثم الحديث ضعيف
3 – “عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى اليَمَنِ: «إِنَّكَ سَتَاتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٌ … “.
ووجه الدلالة ما قاله الرازي:” ولم يذكر التوراة والإنجيل وشرع من قبلنا فزكاه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وصوبه.
ولو كان ذلك من مدارك الأحكام لما جاز العدول إلى الاجتهاد إلا بعد العجز عنه”.
والجواب:” إنما لم يذكر التوراة والإنجيل؛ لأن في الكتاب آيات تدل على الرجوع إليهما إنه لو كانت تلك الشرائع السابقة قد وصلتنا بطريق يوثق به بدون تغيير لرجع إليها الصحابة”
4 – “عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْأَنْصَارِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي، كَانَ كُلُّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً … .
ووجه الدلالة:”دل على أنهم لم يكونوا مبعوثين إلينا، فلا يكون شرعهم لازماً لنا”.
“والجواب: أن قوله: “بعث” يعني: متبوعاً مقصوداً إلى قومه، وغير قومه تبع له”.
5 – “أن شرع من قبلنا لو كان شرعاً لنا لم يتوقف عن الجواب في الحادثة حتى ينزل الوحي
والجواب: أنه توقف؛ لأنه لم يكن عنده الحكم، ولا ثبت عنده الحكم في شرع غيره
6 – “أنه لو وجب علينا اتباع شرعهم لوجب أن نتتبع أدلتهم ونعرفها، كما يجب ذلك في حكم الإسلام، ولوجب علينا حفظ شريعتهم ودراستها.
والجواب: أنه لا يمتنع أن يقال: إنه ثبت عندنا صحة بعض الأدلة بالأوجه التي ذكرناها، فوجب المصير إلى موجبه والعمل به،
المطلب الخامس:
الموازنة والترجيح.
والراجح والله أعلم القول الأول لقوة أدلتها وصراحة دلالتها، فشرع من قبلنا شرع لنا متى ما ثبت نقله ولم ينسخه شرعنا أو ينهانا عنه أو يخالف شرعنا والله تعالى أعلم بالصواب.
قلت سيف بن دورة: والمسألة تحتاج مزيد بحث
المطلب السادس:
نوع الخلاف وأثره
نوع الخلاف و أثره
“لقد اختلف في نوع الخلاف في هذه المسألة هل هو لفظي أو معنوي؟
على قولين:
القول الأول: أن الخلاف معنوي له ثمرة وهو الصواب؛ حيث إن أصحاب المذهب الأول قد استدلوا بشرع من قبلنا وجعلوه من أدلتهم في إثبات أحكام شرعية، منها:
1 – أنهم استدلوا به على قتل الرجل بالمرأة، حيث إن قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ .. ) يدل على ذلك مع أنه خطاب من قبلنا.
2 – كذلك استدلوا به على جواز الجعالة – وهي: الإجارة على منفعة مظنون حصولها مثل مشارطة المعلم – على حذق المتعلم – وقالوا: إن قوله تعالى: (ولمن جاء به حمل بعير .. ) يدل على ذلك مع أنه وارد في شرع من قبلنا.
3 – وكذلك استدلوا به على ضمان ما تفسده الدواب المرسلة في الليل؛ حيث إن قوله تعالى: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) والنفش عند أهل اللغة لا يكون إلا في الليل.
والقائلون بأنه لا ثمرة من الخلاف قالوا كل مسألة لها دليل من شرعنا فالسن بالسن دليله (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه) وهكذا وأجاب الآخرون انهم يستدلون بشرع من قبلنا كتقوية لم ترجح لهم فهو دليل معتبر