سُورَةِ الزُّخْرُفِ تفسير آيات 65 – 57 تهذيب تفسير ابن كثير
(بالتعاون مع الإخوة بمجموعات؛ السلام،1،2،3 والمدارسة، والاستفادة، والسلف الصالح، وأهل الحديث همو أهل النبي) تهذيب سيف بن دورة الكعبي وأحمد بن علي وبعض طلاب العلم (من لديه تعقيب أو فائدة من تفاسير أخرى فليفدنا)
………………………
{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلأبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65)}
……………………………….
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ تَعَنُّتِ قُرَيْشٍ فِي كُفْرِهِمْ وَتَعَمُّدِهِمُ الْعِنَادَ وَالْجَدَلَ: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالضَّحَّاكِ، وَالسُّدِّيِّ: يَضْحَكُونَ (1)، أَيْ: أُعْجِبُوا بِذَلِكَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: يَجْزَعُونَ وَيَضْحَكُونَ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: يُعْرِضُونَ.
وَروى الْإِمَامُ أَحْمَدُ: عن ابْنُ عَبَّاسٍ: ( … أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لِقُرَيْشٍ: “يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِيهِ خَيْرٌ”، وَقَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ النَّصَارَى تَعْبُدُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، وَمَا تَقُولُ فِي مُحَمَّدٍ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّ عِيسَى كَانَ نَبِيًّا وَعَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ صَالِحًا، فَإِنْ كُنْتَ صَادِقًا كَانَ آلِهَتُهُمْ كَمَا تَقُولُونَ؟ قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ}
قُلْتُ: مَا يَصِدون؟ قَالَ: يَضْحَكُونَ (1)، {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} قَالَ: هُوَ خُرُوجُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ قَبْلَ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ}: قَالَتْ قُرَيْشٌ: إِنَّمَا يُرِيدُ مُحَمَّدٌ أَنْ نَعْبُدَهُ كَمَا عَبَدَ قَوْمُ عِيسَى عِيسَى. وَنَحْوَ هَذَا قَالَ قَتَادَةُ.
وَقَوْلُهُ: {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ}: قَالَ قَتَادَةُ: يَقُولُونَ: آلِهَتُنَا خَيْرٌ مِنْهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: قَرَأَ (2) ابْنُ مَسْعُودٍ: “وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هَذَا”، يَعْنُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَوْلُهُ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا} أَيْ: مِرَاءً، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَارِدٍ عَلَى الْآيَةِ؛ لِأَنَّهَا لِمَا لَا يَعْقِلُ، وَهِيَ قَوْلُهُ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 98]. ثُمَّ هِيَ خُطَّابٌ لِقُرَيْشٍ، وَهُمْ إِنَّمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَالْأَنْدَادَ، وَلَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَ الْمَسِيحَ حَتَّى يُورِدُوهُ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ مَقَالَتَهُمْ إِنَّمَا كَانَتْ جَدَلًا مِنْهُمْ، لَيْسُوا يَعْتَقِدُونَ صِحَّتَهَا.
وَقَدْ روى الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ، إِلَّا أُورِثُوا الْجَدَلَ”، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ
وَقَوْلُهُ: {إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} يَعْنِي: عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَا هُوَ إِلَّا عَبْدٌ [مِنْ عِبَادِ اللَّهِ] أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ}
أَيْ: دَلَالَةً وَحُجَّةً وَبُرْهَانًا عَلَى قُدْرَتِنَا عَلَى مَا نَشَاءُ.
وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ} أَيْ: بَدَلَكُمْ {مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ}، قَالَ السُّدِّيُّ: يَخْلُفُونَكَم فِيهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ: يَخْلُفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، كَمَا يَخْلُفُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا. وَهَذَا الْقَوْلُ يَسْتَلْزِمُ الْأَوَّلَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يُعَمِّرُونَ الْأَرْضَ بَدَلَكُمْ.
وَقَوْلُهُ: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ}: …. الصَّحِيحُ أَنَّهُ عَائِدٌ عَلَى عِيسَى [عَلَيْهِ السَّلَامُ]، فَإِنَّ السِّيَاقَ فِي ذِكْرِهِ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِذَلِكَ نُزُولُهُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} أَيْ: قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، ثُمَّ {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النِّسَاءِ: 159]
، وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى الْقِرَاءَةَ الْأُخْرَى: “وَإِنَّهُ لعَلَم لِلسَّاعَةِ” أَيْ: أَمَارَةٌ وَدَلِيلٌ عَلَى وُقُوعِ السَّاعَةِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} أَيْ: آيَةٌ لِلسَّاعَةِ خُرُوجُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَأَبِي مَالِكٍ، وَعِكْرِمَةَ، والحسنن وَقَتَادَةَ، وَالضَّحَّاكِ، وَغَيْرِهِمْ.
وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَحَادِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أَخْبَرَ بِنُزُولِ عِيسَى [ابْنِ مَرْيَمَ]، عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِمَامًا عَادِلًا وَحَكَمًا مُقْسِطًا.
وَقَوْلُهُ: {فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا} أَيْ: لَا تَشُكُّوا فِيهَا، إِنَّهَا وَاقِعَةٌ وَكَائِنَةٌ لَا مَحَالَةَ، {وَاتَّبَعُونِ} أَيْ: فِيمَا أُخْبِرُكُمْ بِهِ {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ. وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} أَيْ: عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ} أَيْ: بِالنُّبُوَّةِ {وَلأبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ}
قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي مِنَ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ لَا الدُّنْيَوِيَّةِ.
(وقيل) أَرَادَ جَمِيعَ النُّفُوسِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَإِنَّمَا أَرَادَ نَفْسَهُ فَقَطْ، وَعَبَّرَ بِالْبَعْضِ عَنْهَا. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مُحْتَمَلٌ.
وَقَوْلُهُ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ} أَيْ: فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ، {وَأَطِيعُونِ}
، فِيمَا جِئْتُكُمْ بِهِ، {إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} أَيْ: أَنَا وَأَنْتُمْ عَبِيدٌ لَهُ، فُقَرَاءُ إِلَيْهِ، مُشْتَرِكُونَ فِي عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} أَيْ: هَذَا الَّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، وَهُوَ عِبَادَةُ الرَّبِّ، عَزَّ وَجَلَّ، وَحْدَهُ.
وَقَوْلُهُ: {فَاخْتَلَفَ الأحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} أَيِ: اخْتَلَفَتْ الْفِرَقُ وَصَارُوا شِيَعًا فِيهِ، مِنْهُمْ مَنْ يُقِرُّ بِأَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ -وَهُوَ الْحَقُّ-وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ وُلَدُ اللَّهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُ اللَّهِ -تَعَالَى اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ عُلُوًّا كَبِيرًا-وَلِهَذَا قَالَ: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ}
——————-
(1) في الطبري ومسند أحمد يضجون.
(2) قال محقق طبعة ابن الجوزي: هي قراءة شاذة