سورة الشورى تفسير آيات 12 – 9 تهذيب تفسير ابن كثير
(بالتعاون مع الإخوة بمجموعات؛ السلام، والمدارسة، والاستفادة) تهذيب سيف بن دورة الكعبي وأحمد بن علي وبعض طلاب العلم (من لديه تعقيب أو فائدة من تفاسير أخرى فليفدنا)
————————-
{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)}
………………………………………
يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي اتِّخَاذِهِمْ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَمُخْبِرًا أَنَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ الْحَقُّ الَّذِي لَا تَنْبَغِي الْعِبَادَةُ إِلَّا لَهُ وَحْدَهُ، فَإِنَّهُ الْقَادِرُ عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
ثُمَّ قَالَ: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ}
أَيْ: مَهْمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنَ الْأُمُورِ وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، {فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} أَيْ: هُوَ الْحَاكِمُ فِيهِ بِكِتَابِهِ، وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَقَوْلِهِ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النِّسَاءِ:59] {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي} أَيِ: الْحَاكِمُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أَيْ: أَرْجِعُ فِي جَمِيعِ الأمور.
وَقَوْلُهُ: {فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ} أَيْ: خَالِقُهُمَا وَمَا بَيْنَهُمَا، {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} أَيْ: مِنْ جِنْسِكُمْ وَشَكْلِكُمْ، مِنَّةً عَلَيْكُمْ وَتَفَضُّلًا جَعَلَ مِنْ جِنْسِكُمْ ذَكَرًا وَأُنْثَى، {وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْوَاجًا} أَيْ: وَخَلَقَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ. وَقَوْلُهُ: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} أَيْ: يَخْلُقُكُمْ فِيهِ، أَيْ: فِي ذَلِكَ الْخَلْقِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ لَا يَزَالُ يَذْرَؤُكُمْ (1) فِيهِ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ، وَجِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، وَنَسْلًا بَعْدَ نَسْلٍ، مِنَ النَّاسِ وَالْأَنْعَامِ.
وَقَالَ الْبَغَوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} أَيْ: فِي الرَّحِمِ. وَقِيلَ: فِي الْبَطْنِ. وَقِيلَ: فِي هَذَا الْوَجْهِ مِنَ الْخِلْقَةِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَنَسْلًا بَعْدَ نَسْلٍ مِنَ النَّاسِ وَالْأَنْعَامِ. وَقِيلَ: “فِي” بِمَعْنَى “الْبَاءِ”، أَيْ: يَذْرَؤُكُمْ بِهِ.
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أَيْ: لَيْسَ كَخَالِقِ الْأَزْوَاجِ كُلِّهَا شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ الْفَرْدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وَقَوْلُهُ: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ}
تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي “سُورَةِ الزُّمَرِ”، وَحَاصِلُ ذَلِكَ أَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ الْحَاكِمُ فِيهِمَا، {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} أَيْ: يُوَسِّعُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَيُضَيِّقُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ وَالْعَدْلُ التَّامُّ، {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
،،،،،،،،،،،،،،،،
(1) (قال سيف بن غدير):قال الشيخ: محمد الأمين الشنقيطي-رحمه الله- في أضواء البيان.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: (يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ)
الظَّاهِرُ أَنَّ ضَمِيرَ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: يَذْرَؤُكُمْ شَامِلٌ لِلْآدَمِيِّينَ وَالْأَنْعَامِ، وَتَغْلِيبُ الْآدَمِيِّينَ عَلَى الْأَنْعَامِ فِي ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ فِي قَوْلِهِ: {يَذْرَؤُكُمْ} وَاضِحٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ.
وَالتَّحْقِيقُ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ- أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: فِيهِ رَاجِعٌ إِلَى مَا ذَكَرَ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ مِنْ بَنِي آدَمَ وَالْأَنْعَامِ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا} سَوَاءٌ قُلْنَا إِنَّ الْمَعْنَى: أَنَّهُ جَعَلَ لِلْآدَمِيِّينَ إنَاثًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ، أَيْ مِنْ جِنْسِهِمْ، وَجَعَلَ لِلْأَنْعَامِ أَيْضًا إِنَاثًا كَذَلِكَ، أَوْ قُلْنَا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْأَزْوَاجِ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ مِنْهُمَا مَعًا.
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَمَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ يَذْرَؤُكُمْ، أَيْ يَخْلُقُكُمْ وَيَبُثُّكُمْ وَيَنْشُرُكُمْ فِيهِ، أَيْ فِيمَا ذَكَرَ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، أَيْ فِي ضِمْنِهِ عَنْ طَرِيقِ التَّنَاسُلِ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ.
وَيُوَضَّحُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [4/ 1]. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} يُوَضِّحُ مَعْنَى قَوْلِهِ: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ}.
فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ إِفْرَادِ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} مَعَ أَنَّهُ عَلَى مَا ذَكَرْتُمْ عَائِدٌ إِلَى الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ مِنَ الْآدَمِيِّينَ وَالْأَنْعَامِ؟
فَالْجَوَابُ: أَنَّ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ رُجُوعُ الضَّمِيرِ أَوِ الْإِشَارَةِ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ إِلَى مُثَنَّى أَوْ مَجْمُوعٍ بِاعْتِبَارِ مَا ذُكِرَ مَثَلًا.
وَمِثَالُهُ فِي الضَّمِيرِ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَاتِيكُمْ بِهِ} الْآيَةَ [6/ 46]. فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: {بِهِ} مُفْرَدٌ، مَعَ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى السَّمْعِ وَالْأَبْصَارِ وَالْقُلُوبِ ….
وَقَوْلُ مَنْ قَالَ، إِنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: {فِيهِ} رَاجِعٌ إِلَى الرَّحِمِ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: رَاجِعٌ إِلَى الْبَطْنِ، وَمَنْ قَالَ: رَاجِعٌ إِلَى الْجَعْلِ الْمَفْهُومِ مِنْ جَعَلَ وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: رَاجِعٌ إِلَى التَّدْبِيرِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ خِلَافُ الصَّوَابِ.
وَالتَّحْقِيقُ- إِنْ شَاءَ اللَّهُ- هُوَ مَا ذَكَرْنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. انتهى مختصراً