تهذيب تفسير ابن كثير [سُورَةٌ الحجرات(49): الايات 1 الى 3]
قام به سيف بن محمد الكعبي وأحمد بن علي وصاحبهما
سورة الحجرات
وَهـيَ مَدَنِيَّةٌ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سُورَةٌ الحجرات (49): الايات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
—–
هـذه آيات أدب الله تعالى بِهَا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ، فِيمَا يُعَامِلُونَ بِهِ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ التَّوْقِيرِ وَالاحْتِرَامِ والتبجيل والاعظام، فقال تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي لا تسارعوا فِي الاشْيَاءِ بَيْنَ يَدَيْهِ أَيْ قَبْلَهُ، بَلْ كُونُوا تَبَعًا لَهُ فِي جَمِيعِ الامُورِ حَتَّى يَدْخُلَ فِي عُمُومِ هـذَا الادَبِ الشَّرْعِيِّ …. ذكر حديث معاذ الذي فيه (بم تحكم … )
وقال ابن كثير: فَالْغَرَضُ مِنْهُ أَنَّهُ أَخَّرَ رَأْيَهُ وَنَظَرَهُ وَاجْتِهَادَهُ إِلَى مَا بَعْدَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَلَوْ قَدَّمَهُ قَبْلَ الْبَحْثِ عَنْهُمَا لَكَانَ مِنْ بَابِ التَّقْدِيمِ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لا تَقُولُوا خِلافَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِِ، وَقَالَ مُجَاهـدٌ: لا تَفْتَاتُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ تعالى عَلَى لِسَانِهِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ:
لا تَقْضُوا أَمْرًا دُونَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ شَرَائِعِ دِينِكُمْ، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِقَوْلٍ وَلا فِعْلٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قَالَ:
لا تَدْعُوا قَبْلَ الامَامِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَاسًا كَانُوا يَقُولُونَ لَوْ أُنْزِلَ فِي كَذَا كَذَا وَكَذَا، لَوْ صُنِعَ كَذَا، فكره الله تعالى ذَلِكَ وَتَقَدَّمَ فِيهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ أَيْ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ أَيْ لاقْوَالِكُمْ عَلِيمٌ بنياتكم.
وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) هـذَا أَدَبٌ ثَانٍ أَدَّبَ الله تعالى به المؤمنين أن لا يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوْقَ صَوْتِهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الشَّيْخَيْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وَروى الْبُخَارِيُّ: عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ: كَادَ الْخَيِّرَانِ أَنْ يَهْلَكَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، رَفَعَا أَصْوَاتَهُمَا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ رَكْبُ بَنِي تَمِيمٍ، فَأَشَارَ أَحَدُهـمَا بالاقرع بن حابس رضي الله عنه أَخِي بَنِي مُجَاشِعٍ، وَأَشَارَ الاخَرُ بِرَجُلٍ آخَرَ، قَالَ نَافِعٌ: لا أَحْفَظُ اسْمَهُ، فَقَالَ أَبُو بكر لعمر رضي الله عنهما، مَا أَرَدْتَ إِلا خِلافِي، قَالَ: مَا أَرَدْتُ خِلافَكَ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا فِي ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) الاية قال ابن الزبير رضي الله عنهما فما كان عمر رضي الله عنه يُسْمِعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هـذِهِ الايَةِ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ عَنْ أَبِيهِ يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. انْفَرَدَ بِهِ دُونَ مُسْلِمٍ.
ثُمَّ روى َ الْبُخَارِيُّ: عن ابْنُ أَبِي ملكية أن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَدِمَ رَكْبٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أبو بكر رضي الله عنه: أمر القعقاع بن معبد، وقال عمر رضي الله عنه: بَلْ أَمِّرِ الاقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ، فَقَالَ أَبُو بكر رضي الله عنه: ما أردت إلا خلافي، فقال عمر رضي الله عنه: مَا أَرَدْتُ خِلافَكَ، فَتَمَارَيَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا فَنَزَلَتْ فِي ذَلِكَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ حَتَّى انْقَضَتِ الايَةُ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ الاية. وَهـكَذَا رَوَاهُ هـاهـنَا مُنْفَرِدًا بِهِ أَيْضًا.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ عُمَرَ عَنْ مُخَارِقٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
لَمَّا نَزَلَتْ هـذِهِ الايَةُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ قُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ لا أُكَلِّمُكَ إِلا كَأَخِي السِّرَارِ «3». حُصَيْنُ بْنُ عُمَرَ، هـذَا وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا لَكِنْ قَدْ رَوَيْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عوف وأبي هـريرة رضي الله عنهما بِنَحْوِ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (1)
وَروى الْبُخَارِيُّ: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افتقد ثابت بن قيس رضي الله عنه فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَعْلَمُ لَكَ عِلْمَهُ، فَأَتَاهُ فَوَجَدَهُ فِي بَيْتِهِ مُنَكِّسًا رَأْسَهُ فَقَالَ لَهُ:
مَا شَأْنُكَ؟ فَقَالَ: شَرٌّ كَانَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ فَهُوَ مِنْ أَهـلِ النَّارِ، فَأَتَى الرَّجُلُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ قَالَ كَذَا وَكَذَا، قَالَ مُوسَى: فَرَجَعَ إِلَيْهِ الْمَرَّةَ الاخِرَةَ ببشارة عَظِيمَةٍ فَقَالَ: «اذْهـبْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ إِنَّكَ لست من أهـل النار ولكن مِنْ أَهـلِ الْجَنَّةِ» تَفَرَّدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنْ هـذَا الْوَجْهِ.
وَروى الامَامُ أَحْمَدُ: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هـذِهِ الايَةُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ- إلى قوله- وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ وَكَانَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ الشَّمَّاسِ رَفِيعَ الصَّوْتِ فَقَالَ:
أَنَا الَّذِي كُنْتُ أَرْفَعُ صَوْتِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم، أنا من أهـل النار حبط عملي وَجَلَسَ فِي أَهـلِهِ حَزِينًا فَفَقَدَهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَانْطَلَقَ بَعْضُ الْقَوْمِ إِلَيْهِ فَقَالُوا لَهُ: تَفَقَّدَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَكَ؟
قَالَ: أَنَا الَّذِي أَرْفَعُ صَوْتِي فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَجْهَرُ لَهُ بِالْقَوْلِ حَبِطَ عَمَلِي أَنَا مِنْ أَهـلِ النَّارِ، فَأَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ بِمَا قَالَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا، بَلْ هـوَ مِنْ أَهـلِ الْجَنَّةِ» قَالَ أنس رضي الله عنه: فَكُنَّا نَرَاهُ يَمْشِي بَيْنَ أَظْهُرِنَا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ أَهـلِ الْجَنَّةِ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْيَمَامَةِ كَانَ فِينَا بَعْضُ الانْكِشَافِ فَجَاءَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَقَدْ تَحَنَّطَ وَلَبِسَ كَفَنَهُ فَقَالَ: بِئْسَمَا تُعَوِّدُونَ أَقْرَانَكُمْ فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى قتل رضي الله عنه. (2)
وَروى مُسْلِمٌ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لما نَزَلَتْ هـذِهِ الايَةُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ إِلَى آخر الاية، جلس ثابت رضي الله عنه فِي بَيْتِهِ قَالَ: أَنَا مِنْ أَهـلِ النَّارِ، وَاحْتَبَسَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ: «يَا أَبَا عَمْرٍو مَا شَأْنُ ثابت أشتكى؟» فقال سعد رضي الله عنه: إِنَّهُ لَجَارِي وَمَا عَلِمْتُ لَهُ بِشَكْوَى. قَالَ:
فأتاه سعد رضي الله عنه فَذَكَرَ لَهُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم فقال ثابت رضي الله عنه: أُنْزِلَتْ هـذِهِ الايَةُ وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَرْفَعِكُمْ صَوْتًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنَا مِنْ أَهـلِ النَّارِ، فَذَكَرَ ذلك سعد رضي الله عنه لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَلْ هـوَ مِنْ أَهـلِ الْجَنَّةِ» ثُمَّ رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أحمد بن سعيد الدرامي عَنْ حَيَّانَ بْنِ هـلالٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بِهِ قَالَ وَلَمْ يَذْكُرْ سَعْدَ بْنَ معاذ رضي الله عنه، وَعَنْ قَطَنِ بْنِ نُسَيْرٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سليمان عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِنَحْوِهِ، وَقَالَ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ سَعْدِ بْنِ معاذ رضي الله عنه. حَدَّثَنَا هـرَيْمُ بْنُ عَبْدِ الاعْلَى الاسَدِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، سَمِعْتُ أَبِي يَذْكُرُ عَنْ ثابت عن أنس رضي الله عنه قال: لما نزلت هـذه الاية فاقتص الحديث ولم يذكر سعد بن معاذ رضي الله عنه وَزَادَ: فَكُنَّا نَرَاهُ يَمْشِي بَيْنَ أَظْهُرِنَا رَجُلٌ مِنْ أَهـلِ الْجَنَّةِ.
فَهَذِهِ الطُّرُقُ الثَّلاثُ مُعَلِّلَةٌ لِرِوَايَةِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ فِيمَا تَفَرَّدَ بِهِ من ذكر سعد بن معاذ رضي الله عنه، وَالصَّحِيحُ أَنَّ حَالَ نُزُولِ هـذِهِ الايَةِ لَمْ يكن سعد بن معاذ رضي الله عنه مَوْجُودًا، لانَّهُ كَانَ قَدْ مَاتَ بَعْدَ بَنِي قريظة بأيام قلائل سنة خمس، وهـذه الايات نَزَلَتْ فِي وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ، وَالْوُفُودُ إِنَّمَا تَوَاتَرُوا فِي سَنَةِ تِسْعٍ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذَكَرَ هـذِهِ الْقِصَّةَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ التَّابِعِينَ كَذَلِكَ، فَقَدْ نَهَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ رَفْعِ الاصْوَاتِ بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ الله عنه أنه سمع صوت رجلين فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِ ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، فَجَاءَ فَقَالَ: أَتَدْرِيَانِ أَيْنَ أَنْتُمَا؟ ثُمَّ قَالَ: مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا؟ قَالا: مِنْ أَهـلِ الطَّائِفِ، فَقَالَ: لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهـلِ الْمَدِينَةِ لاوْجَعْتُكُمَا ضَرْبًا. وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: يُكْرَهُ رَفْعُ الصَّوْتِ عِنْدَ قبره صلى الله عليه وسلم كما كان يكره في حياته عليه الصلاة والسلام، لانَّهُ مُحْتَرَمٌ حَيًّا وَفِي قَبْرِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ دَائِمًا، ثُمَّ نَهَى عَنِ الْجَهْرِ لَهُ بِالْقَوْلِ كَمَا يَجْهَرُ الرَّجُلُ لِمُخَاطِبِهِ مِمَّنْ عَدَاهُ، بَلْ يُخَاطَبُ بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ وَتَعْظِيمٍ، وَلِهَذَا قال تبارك وتعالى: وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ كما قال تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً
[النور: 63]
وقوله عز وجل: أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أَيْ إِنَّمَا نَهَيْنَاكُمْ عَنْ رَفْعِ الصَّوْتِ عِنْدَهُ، خَشْيَةَ أن يغضب من ذلك فيغضب الله تعالى لِغَضَبِهِ، فَيُحْبِطَ اللَّهُ عَمَلَ مَنْ أَغْضَبَهُ وَهـوَ لا يَدْرِي كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى لا يُلْقِي لَهَا بَالا يُكْتَبُ لَهُ بِهَا الْجَنَّةُ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ الله تعالى لا يُلْقِي لَهَا بَالا يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ السماء والارض» «1» ثم ندب الله تعالى إِلَى خَفْضِ الصَّوْتِ عِنْدَهُ وَحَثَّ عَلَى ذَلِكَ، وَأَرْشَدَ إِلَيْهِ، وَرَغَّبَ فِيهِ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى أَيْ أَخْلَصَهَا لَهَا وَجَعَلَهَا أَهـلا وَمَحَلا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ.
——-
(1) حديث أبي هريرة أخرجه ابن عساكر 30/ 206 والحاكم والبيهقي في الشعب من طريق محمد بن عمرو وسند ابن عساكر على شرط المتمم على الذيل
وحديث عبدالرحمن بن عوف قال بعض المحققين لم نجده.
(2) ذكر مسلم (119) (188) سنده ولم يسق المتن لعله لبيان تعليل رواية حماد بن سلمة.