تهذيب تفسير ابن كثير [سورة ق (50): الآيات 36 الى 40]
قام به سيف بن محمد الكعبي وأحمد بن علي وصاحبهما
[سورة ق (50): الآيات 36 الى 40]
وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (40)
———
يَقُولُ تَعَالَى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَ هؤلاء المكذبين مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً أَيْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وعمروها أكثر مما عمروها ولهذا قال تعالى هاهنا: فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ
قال ابن عباس رضي الله عنهما: أَثَّرُوا فِيهَا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ وَقَالَ قَتَادَةُ: فَسَارُوا فِي الْبِلَادِ أَيْ سَارُوا فِيهَا يَبْتَغُونَ الْأَرْزَاقَ وَالْمَتَاجِرَ وَالْمَكَاسِبَ أَكْثَرَ مِمَّا طُفْتُمْ أَنْتُمْ فِيهَا، وَيُقَالُ لِمَنْ طَوَّفَ فِي الْبِلَادِ نَقَّبَ فِيهَا، قَالَ امرؤ القيس: [الوافر]
لَقَدْ نَقَّبْتُ فِي الْآفَاقِ حَتَّى … رَضِيتُ مِنَ الغنيمة بالإياب
وقوله تعالى: هَلْ مِنْ مَحِيصٍ أَيْ هَلْ مِنْ مَفَرٍّ كَانَ لَهُمْ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَهَلْ نَفَعَهُمْ مَا جَمَعُوهُ وَرَدَّ عَنْهُمْ عَذَابَ اللَّهِ إِذْ جَاءَهُمْ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ فَأَنْتُمْ أَيْضًا لَا مَفَرَّ لَكُمْ وَلَا مَحِيدَ وَلَا مَنَاصَ ولا محيص. وقوله عز وجل: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى أَيْ لَعِبْرَةٌ لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَيْ لُبٌّ يَعِي بِهِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَقْلٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ أي استمع الكلام فوعاه وتعقله بعقله وَتَفَهَّمَهُ بِلُبِّهِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ يَعْنِي لَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِغَيْرِهِ، وَهُوَ شَهِيدٌ وَقَالَ شَاهِدٌ بِالْقَلْبِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْعَرَبُ تَقُولُ أَلْقَى فُلَانٌ سَمْعَهُ إِذَا اسْتَمَعَ بِأُذُنَيْهِ، وَهُوَ شاهد بقلب غَيْرُ غَائِبٍ، وَهَكَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ.
وقوله سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) فِيهِ تقرير للمعاد لأن من قدر على خلق السموات وَالْأَرْضِ وَلِمَ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى، وَقَالَ قَتَادَةُ: قَالَتِ الْيَهُودُ- عَلَيْهِمْ لِعَائِنُ اللَّهِ- خَلَقَ اللَّهُ السموات وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ وَهُوَ يَوْمُ السَّبْتِ، وَهُمْ يُسَمُّونَهُ يوم الراحة فأنزل الله تعالى تَكْذِيبَهُمْ فِيمَا قَالُوهُ وَتَأَوَّلُوهُ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ أي من إعياء ولا تعب ولا نصب، كما قال تبارك وتعالى فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الْأَحْقَافِ: 33] وَكَمَا قَالَ عز وجل: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر: 57] وقال تَعَالَى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها [النَّازِعَاتِ: 27].
وقوله عز وجل: (فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ) يَعْنِي الْمُكَذِّبِينَ اصْبِرْ عَلَيْهِمْ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَكَانَتِ الصَّلَاةُ الْمَفْرُوضَةُ قَبْلَ الْإِسْرَاءِ ثِنْتَيْنِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فِي وَقْتِ الْفَجْرِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ، وَقِيَامُ اللَّيْلِ كَانَ وَاجِبًا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى أُمَّتِهِ حَوْلًا ثُمَّ نُسِخَ فِي حَقِّ الْأُمَّةِ وُجُوبُهُ ثُمَّ بعد ذلك نسخ الله تعالى ذَلِكَ كُلَّهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ بِخَمْسِ صَلَوَاتٍ، وَلَكِنْ مِنْهُنَّ صَلَاةُ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ فَهُمَا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ.
وَقَدْ روى الْإِمَامُ أَحْمَدُ: عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ فَقَالَ: «أَمَا إِنَّكُمْ سَتُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّكُمْ فَتَرَوْنَهُ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَا تُضَامُونَ فِيهِ، فَإِنِ استطعتم أن لا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا» ثُمَّ قَرَأَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَبَقِيَّةُ الْجَمَاعَةِ مِنْ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بِهِ.
أخرجه البخاري، ومسلم
وقوله تعالى: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) أَيْ فَصَلِّ لَهُ كَقَوْلِهِ: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) [الْإِسْرَاءِ: 79] وَأَدْبارَ السُّجُودِ قَالَ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عباس رضي الله عنهما: هُوَ التَّسْبِيحُ بَعْدَ الصَّلَاةِ.
وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ المقيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَمَا ذَاكَ؟» قَالُوا: يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نَتَصَدَّقُ، وَيُعْتِقُونَ وَلَا نعتق. قال صلى الله عليه وسلم: «أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا إِذَا فَعَلْتُمُوهُ سَبَقْتُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إِلَّا مَنْ فَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلْتُمْ؟ تُسَبِّحُونَ وَتُحَمِّدُونَ وَتُكَبِّرُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ» قَالَ: فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ سَمِعَ إِخْوَانُنَا أَهْلُ الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله.
فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ»
وَالْقَوْلُ الثاني أن المراد بقوله تعالى: وَأَدْبارَ السُّجُودِ هُمَا الرَّكْعَتَانِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِهِ الْحَسَنِ وَابْنِ عباس وأبي هريرة وأبي أمامة رضي الله عنهم وَبِهِ يَقُولُ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالْحَسَنُ وقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ.
وروى الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عن عاصم بن ضمرة عن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عَلَى أَثَرِ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ رَكْعَتَيْنِ إِلَّا الْفَجْرَ وَالْعَصْرَ،
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ.
وحديث ابن عباس رضي الله عنهما، وأنه بات في بيت خالته ميمونة رضي الله عنها، وَصَلَّى تِلْكَ اللَّيْلَةَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ثَابِتٌ فِي الصحيحين وغيرهما.