تهذيب تفسير ابن كثير [سورة ق (50):الآيات 23 الى 29]
قام به سيف بن محمد الكعبي وأحمد بن علي وصاحبهما
[سورة ق (50):الآيات 23 الى 29]
وَقالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27)
قالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29)
——————
يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنِ الْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ بِعَمَلِ ابْنِ آدَمَ أَنَّهُ يَشْهَدُ عليه يوم القيامة بما فعل
ويقول: هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ أي معتمد مُحْضَرٌ بِلَا زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هذا كلام الملك السائق، يقول ابْنُ آدَمَ الَّذِي وَكَّلْتَنِي بِهِ قَدْ أَحْضَرْتُهُ وقد اختار ابن جرير أنه يَعُمَّ السَّائِقَ وَالشَّهِيدَ، وَلَهُ اتِّجَاهٌ وَقُوَّةٌ، فَعِنْدَ ذلك يحكم الله تَعَالَى فِي الْخَلِيقَةِ بِالْعَدْلِ فَيَقُولُ: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ وَقَدِ اخْتَلَفَ النُّحَاةُ فِي قَوْلِهِ: أَلْقِيا فَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ لُغَةٌ لِبَعْضِ الْعَرَبِ يُخَاطِبُونَ الْمُفْرَدَ بِالتَّثْنِيَةِ كَمَا رُوِيَ عَنِ الْحَجَّاجِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ يَا حَرَسِيُّ اضْرِبَا عُنُقَهُ، وَمِمَّا أَنْشَدَ ابْنُ جَرِيرٍ عَلَى هذه قول الشاعر: [الطويل]
فإن تزجراني يا ابن عَفَّانَ أَنْزَجِرْ … وَإِنْ تَتْرُكَانِي أَحْمِ عِرْضًا مُمَنَّعًا
وَقِيلَ: بَلْ هِيَ نُونُ التَّاكِيدِ سُهِّلَتْ إِلَى الْأَلْفِ، وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْوَقْفِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مُخَاطَبَةٌ مَعَ السَّائِقِ وَالشَّهِيدِ، فَالسَّائِقُ أَحْضَرَهُ إِلَى عَرْصَةِ الْحِسَابِ، فَلَمَّا أَدَّى الشَّهِيدُ عَلَيْهِ أَمَرَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بِإِلْقَائِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ أَيْ كَثِيرُ الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ بِالْحَقِّ عَنِيدٌ مُعَانِدٌ لِلْحَقِّ، مُعَارِضٌ لَهُ بِالْبَاطِلِ مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ أَيْ لَا يُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ مِنَ الْحُقُوقِ وَلَا بِرَّ فِيهِ وَلَا صِلَةَ وَلَا صَدَقَةَ مُعْتَدٍ أَيْ فِيمَا يُنْفِقُهُ وَيَصْرِفُهُ يَتَجَاوَزُ فِيهِ الْحَدَّ.
وقال قتادة: معتد في منطقه وسيره وَأَمْرِهِ مُرِيبٍ أَيْ شَاكٌّ فِي أَمْرِهِ مُرِيبٌ لِمَنْ نَظَرَ فِي أَمْرِهِ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ أَيْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ فَعَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ عُنُقًا مِنَ النَّارِ يَبْرُزُ لِلْخَلَائِقِ فَيُنَادِي بِصَوْتٍ يُسْمِعُ الْخَلَائِقَ: إِنِّي وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وَمَنْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَبِالْمُصَوِّرِينَ، ثُمَّ تُلْوَى عَلَيْهِمْ،
قالَ قَرِينُهُ قَالَ َمُجَاهِدٌ وقَتَادَةُ وَغَيْرُهُمْ: هُوَ الشَّيْطَانُ الَّذِي وُكِّلَ بِهِ رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ أَيْ يَقُولُ عَنِ الْإِنْسَانِ الَّذِي قَدْ وَافَى الْقِيَامَةَ كَافِرًا يَتَبَرَّأُ مِنْهُ شَيْطَانُهُ فَيَقُولُ: رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ أَيْ مَا أَضْلَلْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أَيْ بَلْ كَانَ هُوَ فِي نَفْسِهِ ضَالًّا قابلا للباطل معاندا للحق، كما أخبر سبحانه وتعالى في الآية الأخرى في قوله:
وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [إبراهيم: 22].
وقوله تبارك وتعالى: قالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ يَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ لِلْإِنْسِيِّ وَقَرِينِهِ مِنَ الْجِنِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُمَا يختصمان بين يدي الحق تعالى، فَيَقُولُ الْإِنْسِيُّ يَا رَبِّ هَذَا أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي، وَيَقُولُ الشَّيْطَانُ: رَبَّنا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أَيْ عَنْ مَنْهَجِ الْحَقِّ، فَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمَا: لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ أَيْ عِنْدِي وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ أَيْ قَدْ أَعْذَرْتُ إِلَيْكُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ، وَأَنْزَلْتُ الْكُتُبَ وَقَامَتْ عَلَيْكُمُ الْحُجَجُ وَالْبَيِّنَاتُ وَالْبَرَاهِينُ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي قَدْ قَضَيْتُ مَا أَنَا قَاضٍ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أَيْ لست أعذب أحدا إلا بذنب أحد ولكن لا أعذب أحد إلا بذنبه بعد قيام الحجة عليه.
=======