تهذيب تفسير ابن كثير [سورة الفتح (48): آية 29]
قام به سيف الكعبي وأحمد بن علي وصاحبهما
—–
[سورة الفتح (48): آية 29]
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهـمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهـمْ فِي وُجُوهـهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الانْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29)
——-
يُخْبِرُ تَعَالَى عن محمد صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ رَسُولُهُ حَقًّا بِلا شَكٍّ وَلا رَيْبٍ فَقَالَ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَهـذَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَهـوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى كُلِّ وَصْفٍ جَمِيلٍ، ثُمَّ ثنى بالثناء على أصحابه رضي الله عنهم فَقَالَ: وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ كما قال عز وجل: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ [الْمَائِدَةِ: 54]
وَهـذِهِ صِفَةُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهـمْ شَدِيدًا عَنِيفًا عَلَى الْكَفَّارِ، رَحِيمًا بَرًّا بِالاخْيَارِ، غَضُوبًا عَبُوسًا فِي وَجْهِ الْكَافِرِ ضَحُوكًا بَشُوشًا فِي وَجْهِ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التَّوْبَةِ: 123]
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهـمْ وَتَرَاحُمِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ». وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا». وَشَبَّكَ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَصَابِعِهِ، كِلا الْحَدِيثَيْنِ فِي الصَّحِيحِ.
وَقَوْلُهُ سبحانه وتعالى: تَراهـمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَصَفَهُمْ بِكَثْرَةِ الْعَمَلِ وَكَثْرَةِ الصَّلاةِ وَهـيَ خَيْرُ الاعْمَالِ، وَوَصَفَهُمْ بِالاخْلاصِ فِيهَا لِلَّهِ عَزَّ وجل والاحتساب عند الله تعالى جَزِيلَ الثَّوَابِ، وَهـوَ الْجَنَّةُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى فَضْلِ الله عز وجل وَهـوَ سَعَةُ الرِّزْقِ عَلَيْهِمْ وَرِضَاهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، وهـو أكبر من الاول كما قال جل وعلا: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة: 72]
وقوله جل جلاله: (سِيماهـمْ فِي وُجُوهـهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عباس رضي الله عنهما: سِيماهـمْ فِي وُجُوهـهِمْ يَعْنِي السَّمْتَ الْحَسَنَ. وَقَالَ مُجَاهـدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: يَعْنِي الْخُشُوعَ وَالتَّوَاضُعَ. وَروى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: عَنْ مُجَاهـدٍ سِيماهـمْ فِي وُجُوهـهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ قَالَ: الْخُشُوعُ. قُلْتُ: مَا كُنْتُ أَرَاهُ إِلا هـذَا الاثَرَ فِي الْوَجْهِ، فَقَالَ: رُبَّمَا كَانَ بَيْنَ عَيْنَيْ مَنْ هـوَ أَقْسَى قَلْبًا مِنْ فِرْعَوْنَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الصَّلاةُ تُحَسِّنُ وُجُوهـهُمْ، وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: مَنْ كَثُرَتْ صَلاتُهُ بِاللَّيْلِ حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ لِلْحَسَنَةِ نُورًا فِي الْقَلْبِ وَضِيَاءً فِي الْوَجْهِ وَسَعَةً فِي الرِّزْقِ وَمَحَبَّةً فِي قُلُوبِ النَّاسِ.
وَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا أَسَرَّ أَحَدٌ سَرِيرَةً إلا أبداهـا الله تعالى عَلَى صَفَحَاتِ وَجْهِهِ وَفَلَتَاتِ لِسَانِهِ، وَالْغَرَضُ أَنَّ الشَّيْءَ الْكَامِنَ فِي النَّفْسِ يَظْهَرُ عَلَى صَفَحَاتِ الْوَجْهِ، فَالْمُؤْمِنُ إِذَا كَانَتْ سَرِيرَتُهُ صَحِيحَةً مَعَ الله تعالى أصلح الله عز وجل ظاهـره للناس، كما رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَصْلَحَ سَرِيرَتَهُ أَصْلَحَ الله تعالى عَلانِيَتَهُ.
فَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ خَلُصَتْ نِيَّاتُهُمْ وَحَسُنَتْ أَعْمَالُهُمْ فَكُلُّ مَنْ نَظَرَ إِلَيْهِمْ أَعْجَبُوهُ فِي سَمْتِهِمْ وَهـدْيِهِمْ. وَقَالَ مالك رضي الله عنه: بَلَغَنِي أَنَّ النَّصَارَى كَانُوا إِذَا رَأَوُا الصَّحَابَةَ رضي الله عنهم الَّذِينَ فَتَحُوا الشَّامَ يَقُولُونَ: وَاللَّهِ لَهَؤُلاءِ خَيْرٌ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ فِيمَا بَلَغَنَا، وَصَدَقُوا فِي ذَلِكَ فَإِنَّ هـذِهِ الامَّةَ مُعَظَّمَةٌ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَأَعْظَمُهَا وَأَفْضَلُهَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، وقد نوه الله تبارك وتعالى بِذِكْرِهـمْ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ وَالاخْبَارِ الْمُتَدَاوَلَةِ، وَلِهَذَا قال سبحانه وتعالى هـاهـنَا: ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ ثُمَّ قَالَ وَمَثَلُهُمْ فِي الانْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ أَيْ فِرَاخَهُ فَآزَرَهُ أَيْ شَدَّهُ فَاسْتَغْلَظَ أَيْ شَبَّ وَطَالَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ أَيْ فَكَذَلِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آزَرُوهُ وَأَيَّدُوهُ وَنَصَرُوهُ فَهُمْ مَعَهُ كَالشَّطْءِ مَعَ الزَّرْعِ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ.
وَمِنْ هـذِهِ الايَةِ انْتَزَعَ الامَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ الله عليه فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ، بِتَكْفِيرِ الرَّوَافِضِ الَّذِينَ يُبْغِضُونَ الصحابة رضي الله عنهم قال: لانهم يغيظونهم ومن غاظ الصحابة رضي الله عنهم فَهُوَ كَافِرٌ لِهَذِهِ الايَةِ، وَوَافَقَهُ طَائِفَةٌ مِنَ العلماء رضي الله عنهم على ذلك، والاحاديث في فضائل الصحابة رضي الله عنهم وَالنَّهْيِ عَنِ التَّعَرُّضِ لَهُمْ بِمَسَاءَةٍ كَثِيرَةٌ، وَيَكْفِيهِمْ ثَنَاءُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَرِضَاهُ عَنْهُمْ:
ثُمَّ قَالَ تبارك وتعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ من هـذه لبيان الْجِنْسِ مَغْفِرَةً أَيْ لِذُنُوبِهِمْ وَأَجْراً عَظِيماً أَيْ ثَوَابًا جَزِيلا وَرِزْقًا كَرِيمًا. وَوَعْدُ اللَّهِ حَقٌّ وَصِدْقٌ لا يُخْلَفُ وَلا يُبَدَّلُ، وَكُلُّ مَنِ اقتفى أثر الصحابة رضي الله عنهم فَهُوَ فِي حُكْمِهِمْ، وَلَهُمُ الْفَضْلُ وَالسَّبْقُ وَالْكَمَالُ الَّذِي لا يَلْحَقُهُمْ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ هـذِهِ الامَّةِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهـمْ وَجَعَلَ جَنَّاتِ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهـمْ، وَقَدْ فَعَلَ. قَالَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الاعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هـرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لا تسبوا أصحابي فو الذي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهـبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهـمْ وَلا نَصِيفَهُ». آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفَتْحِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ والمنة.