تهذيب تفسير ابن كثير سورة الذاريات
قام به سيف بن محمد الكعبي وأحمد بن علي وصاحبهما
سورة الذاريات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14))
—-
قَالَ شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ عَرْعَرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيًّا وَشُعْبَةَ أَيْضًا، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، سَمِعَ عَلِيًّا. وَثَبَتَ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ، عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: أَنَّهُ صَعِدَ مِنْبَرَ الْكُوفَةِ فَقَالَ: لَا تَسْأَلُونِي عَنْ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا عَنْ سُنَّةٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، إِلَّا أَنْبَاتُكُمْ بِذَلِكَ. فَقَامَ إِلَيْهِ ابْنُ الْكُوَّاءِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا)؟ قَالَ: الرِّيحُ [قَالَ]: (فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا)؟ قَالَ: السَّحَابُ. [قَالَ]: (فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا)؟ قَالَ: السُّفُنُ. [قَالَ]: (فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا)؟ قَالَ: الْمَلَائِكَةُ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ عَسَاكِرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ فِي تَرْجَمَةِ صَبِيغٍ مُطَوَّلَةً. وَهَكَذَا فَسَّرَهَا ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالْحَسَنُ، وقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ. وَلَمْ يَحْكِ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ غَيْرَ ذَلِكَ.
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالذَّارِيَاتِ: الرِّيحُ كَمَا تَقَدَّمَ وَبِالْحَامِلَاتِ وَقْرًا: السَّحَابُ كَمَا تَقَدَّمَ ; لِأَنَّهَا تَحْمِلُ الْمَاءَ، كَمَا قَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ:
وَأَسْلَمْتُ نَفْسِي لَمَنْ أَسْلَمَتْ لَهُ الْمُزْنُ تَحْمِلُ عَذْبًا زُلَالًا
فَأَمَّا الْجَارِيَاتُ يُسْرًا، فَالْمَشْهُورُ عَنِ الْجُمْهُورِ – كَمَا تَقَدَّمَ -: أَنَّهَا السُّفُنُ، تَجْرِي مُيَسَّرَةً فِي الْمَاءِ جَرْيًا سَهْلًا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ النُّجُومُ تَجْرِي يُسْرًا فِي أَفْلَاكِهَا، لِيَكُونَ ذَلِكَ تَرَقِّيًا مِنَ الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى، إِلَى مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهُ، فَالرِّيَاحُ فَوْقَهَا السَّحَابُ، وَالنُّجُومُ فَوْقَ ذَلِكَ، وَالْمُقَسِّمَاتُ أَمْرًا الْمَلَائِكَةُ فَوْقَ ذَلِكَ، تَنْزِلُ بِأَوَامِرِ اللَّهِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْكَوْنِيَّةِ. وَهَذَا قَسَمٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ جُلَّ عَلَى وُقُوعِ الْمَعَادِ ; وَلِهَذَا قَالَ: (إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ) أَيْ: لَخَبَرُ صِدْقٍ، (وَإِنَّ الدِّينَ)، وَهُوَ: الْحِسَابُ) لَوَاقِعٌ) أَيْ: لَكَائِنٌ لَا مَحَالَةَ.
ثُمَّ قَالَ: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذَاتُ الْبَهَاءِ وَالْجَمَالِ وَالْحُسْنِ وَالِاسْتِوَاءِ.
وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَأَبُو مَالِكٍ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَالسُّدِّيُّ، وقَتَادَةُ، وَعَطِيَّةُ الْعَوفِيُّ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَغَيْرُهُمْ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ، وَالْمِنْهَالُ بْنُ عَمْرٍو، وَغَيْرُهُمَا: مِثْلُ تَجَعُّدِ الْمَاءِ وَالرَّمْلِ وَالزَّرْعِ إِذَا ضَرَبَتْهُ الرِّيحُ، فَيَنْسِجُ بَعْضُهُ بَعْضًا طَرَائِقَ [طَرَائِقَ]، فَذَلِكَ الْحُبُكُ.
وروى ابن جرير عن أبي قلابة عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن من ورائكم الكذاب المضل، وإن رأسه من ورائه حبك حبك) (1) يعني بالحبك: الجعودة.
وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ: (ذَاتِ الْحُبُكِ): الشِّدَّةُ. وَقَالَ خُصَيْفٌ: (ذَاتِ الْحُبُكِ): ذَاتُ الصَّفَاقَةِ. [ص: 415] وَقَالَالْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ: (ذَاتِ الْحُبُكِ): حُبِكَتْ بِالنُّجُومِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: عَنْ سَالِمٍ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ عَمْرٍو الْبِكَالِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ): يَعْنِي السَّمَاءَ السَّابِعَةَ.
قلت: سيف ضعيف فيه عمرو البكالي: قال ابن حجر مستور.
وَكَأَنَّهُ – وَاللَّهُ أَعْلَمُ – أَرَادَ بِذَلِكَ السَّمَاءَ الَّتِي فِيهَا الْكَوَاكِبُ الثَّابِتَةُ، وَهِيَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْهَيْئَةِ فِي الْفَلَكِ الثَّامِنِ الَّذِي فَوْقَ السَّابِعِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ تَرْجِعُ إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الْحُسْنُ وَالْبَهَاءُ، كَمَا قَالَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَإِنَّهَا مِنْ حُسْنِهَا مُرْتَفِعَةٌ شَفَّافَةٌ صَفِيقَةٌ، شَدِيدَةُ الْبِنَاءِ، مُتَّسِعَةُ الْأَرْجَاءِ، أَنِيقَةُ الْبَهَاءِ، مُكَلَّلَةٌ بِالنُّجُومِ الثَّوَابِتِ وَالسَّيَّارَاتِ، مُوَشَّحَةٌ بِالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ الزَّاهِرَاتِ.
وَقَوْلُهُ: (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) أَيْ: إِنَّكُمْ أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ الْمُكَذِّبُونَ لِلرُّسُلِ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ مُضْطَرِبٍ، لَا يَلْتَئِمُ وَلَا يَجْتَمِعُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ، [يَعْنِي] مَا بَيْنَ مُصَدِّقٍ بِالْقُرْآنِ وَمُكَذِّبٍ بِهِ.
(يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) أَيْ: إِنَّمَا يُرَوَّجُ عَلَى مَنْ هُوَ ضَالٌّ فِي نَفْسِهِ ; لِأَنَّهُ قَوْلٌ بَاطِلٌ إِنَّمَا يَنْقَادُ لَهُ وَيَضِلُّ بِسَبَبِهِ وَيُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ هُوَ مَافُوكٌ ضَالٌّ غَمْرٌ، لَا فَهْمَ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ) [الصَّافَّاتِ: 161 – 163].
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالسُّدِّيُّ: (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ): يَضِلُّ عَنْهُ مَنْ ضَلَّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) يُؤْفَنُ عَنْهُ مَنْ أُفِنَ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يُصْرَفُ عَنْ هَذَا الْقُرْآنِ مَنْ كَذَّبَ بِهِ.
وَقَوْلُهُ: (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) قَالَ مُجَاهِدٌ: الْكَذَّابُونَ. قَالَ: وَهِيَ مِثْلُ الَّتِي فِي عَبَسَ: (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ) [عَبَسَ: 17]، وَالْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا نُبْعَثُ وَلَا يُوقِنُونَ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) أَيْ: لُعِنَ الْمُرْتَابُونَ.
وَهَكَذَا كَانَ مُعَاذٌ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – يَقُولُ فِي خُطَبِهِ: هَلَكَ الْمُرْتَابُونَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْخَرَّاصُونَ أَهْلُ الْغِرَّةِ وَالظُّنُونِ.
وَقَوْلُهُ: (الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ): قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: فِي الْكُفْرِ وَالشَّكِّ غَافِلُونَ لَاهُونَ.
(يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ): وَإِنَّمَا يَقُولُونَ هَذَا تَكْذِيبًا وَعِنَادًا وَشَكًّا وَاسْتِبْعَادًا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ).
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالْحَسَنُ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: (يُفْتَنُونَ): يُعَذَّبُونَ [قَالَ مُجَاهِدٌ]: كَمَا [ص: 416] يُفْتَنُ الذَّهَبُ عَلَى النَّارِ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ آخَرُونَ كَمُجَاهِدٍ أَيْضًا، وَعِكْرِمَةَ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ: (يُفْتَنُونَ): يُحْرَقُونَ.
(ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ): قَالَ مُجَاهِدٌ: حَرِيقَكُمْ. وَقَالَ غَيْرُهُ: عَذَابَكُمْ. (هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ): أَيْ: يُقَالُ لَهُمْ ذَلِكَ تَقْرِيعًا وَتَوْبِيخًا وَتَحْقِيرًا وَتَصْغِيرًا.
—–
أخرجه أحمد من طريق حماد وفيه تصريح أبي قلابة بالسماع
23159 – حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة قال: رأيت رجلا بالمدينة وقد طاف الناس به وهو يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: فسمعته وهو يقول: ” إن من بعدكم الكذاب المضل، وإن رأسه من بعده حبك حبك حبك ـ ثلاث مرات ـ وإنه سيقول: أنا ربكم، فمن قال: لست ربنا، لكن ربنا الله عليه توكلنا، وإليه أنبنا، نعوذ بالله من شرك لم يكن له عليه سلطان ”
فهو على شرط الذيل على الصحيح المسند
حيث أورده الشيخ مقبل في الصحيح المسند من مسند هشام بن عامر لكن في أحاديث معلة نقل عن علي بن المديني أن أبا قلابة لم يسمع منه. فلعله تراجع.
لكن حديثنا عن صحابي رآه ابوقلابة.