تهذيب تفسير ابن كثير [سورة الحجرات (49): الايات 14 الى 18]
قام به سيف بن محمد بن دورة الكعبي وأحمد بن علي وصاحبهما
[سورة الحجرات (49): الايات 14 الى 18]
———-
قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم (14) إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهـدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هـم الصادقون (15) قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السماوات وما في الارض والله بكل شيء عليم (16) يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هـداكم للايمان إن كنتم صادقين (17) إن الله يعلم غيب السماوات والارض والله بصير بما تعملون (18)
———-
يقول تعالى منكرا على الاعراب الذين أول ما دخلوا في الاسلام ادعوا لانفسهم مقام الايمان ولم يتمكن الايمان في قلوبهم بعد: (قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم)
وقد استفيد من هـذه الاية الكريمة أن الايمان أخص من الاسلام كما هـو مذهـب أهـل السنة والجماعة، ويدل عليه حديث جبريل عليه الصلاة والسلام حين سأل عن الاسلام ثم عن الايمان ثم عن الاحسان، فترقى من الاعم إلى الاخص ثم للاخص منه.
وروى الامام أحمد: عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا ولم يعط رجلا منهم شيئا، فقال سعد رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله أعطيت فلانا وفلانا ولم تعط فلانا شيئا، وهـو مؤمن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أو مسلم؟ حتى أعادهـا سعد رضي الله عنه ثلاثا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:
أو مسلم؟ ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لاعطي رجالا وأدع من هـو أحب إلي منهم، فلا أعطيه شيئا مخافة أن يكبوا في النار على وجوهـهم» أخرجاه في الصحيحين من حديث الزهـري به.
وأخرجه البخاري (27) و (1478)، ومسلم (150) و2/ 732 و733،
فقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمن والمسلم، فدل على أن الايمان أخص من الاسلام، وقد قررنا ذلك بأدلته في أول شرح كتاب الايمان من صحيح البخاري ولله الحمد والمنة. ودل ذلك على أن ذاك الرجل كان مسلما ليس منافقا لانه تركه من العطاء، ووكله إلى ما هـو فيه من الاسلام، فدل هـذا على أن هـؤلاء الاعراب المذكورين في هـذه الاية ليسوا بمنافقين وإنما هـم مسلمون لم يستحكم الايمان في قلوبهم، فادعوا لانفسهم مقاما أعلى مما وصلوا إليه فأدبوا في ذلك، وهـذا معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما وإبراهـيم النخعي وقتادة واختاره ابن جرير.
وإنما قلنا هـذا لان البخاري رحمه الله ذهـب إلى أن هـؤلاء كانوا منافقين يظهرون الايمان وليسوا كذلك.
وقد روي عن سعيد بن جبير ومجاهـد وابن زيد أنهم قالوا في قوله تبارك وتعالى: ولكن قولوا أسلمنا أي استسلمنا خوف القتل والسبي. قال مجاهـد: نزلت في بني أسد بن خزيمة.
وقال قتادة: نزلت في قوم امتنوا بإيمانهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والصحيح الاول أنهم قوم ادعوا لانفسهم مقام الايمان، ولم يحصل لهم بعد فأدبوا وأعلموا أن ذلك لم يصلوا إليه بعد، ولو كانوا منافقين لعنفوا وفضحوا كما ذكر المنافقون في سورة براءة، وإنما قيل لهؤلاء تأديبا: قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم أي لم تصلوا إلى حقيقة الايمان بعد. ثم قال تعالى: (وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا) أي لا ينقصكم من أجوركم شيئا كقوله عز وجل: وما ألتناهـم من عملهم من شيء [الطور: 21]
وقوله تعالى: (إن الله غفور رحيم أي لمن تاب إليه وأناب).
وقوله تعالى: (إنما المؤمنون) أي إنما المؤمنون الكمل الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا أي لم يشكوا ولا تزلزلوا بل ثبتوا على حال واحدة هـي التصديق المحض وجاهـدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أي وبذلوا مهجهم ونفائس أموالهم في طاعة الله ورضوانه أولئك هـم الصادقون أي في قولهم إذا قالوا إنهم مؤمنون، لا كبعض الاعراب الذين ليس لهم من الايمان إلا الكلمة الظاهـرة.
وقوله سبحانه وتعالى: (قل أتعلمون الله بدينكم)
أي أتخبرونه بما في ضمائركم والله يعلم ما في السماوات وما في الارض أي لا يخفى عليه مثقال ذرة في الارض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر والله بكل شيء عليم.
ثم قال تعالى: (يمنون عليك أن أسلموا) يعني الاعراب الذين يمنون بإسلامهم ومتابعتهم ونصرتهم على الرسول صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى ردا عليهم: قل لا تمنوا علي إسلامكم فإن نفع ذلك إنما يعود عليكم ولله المنة عليكم فيه بل الله يمن عليكم أن هـداكم للايمان إن كنتم صادقين أي في دعواكم ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للانصار يوم حنين: «يا معشر الانصار ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ وكنتم عالة فأغناكم الله بي؟» كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمن.
وروى الحافظ أبو بكر البزار: (1) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاءت بنو أسد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله أسلمنا وقاتلتك العرب ولم تقاتلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن فقههم قليل وإن الشيطان ينطق على ألسنتهم. ونزلت هـذه الاية يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هـداكم للايمان إن كنتم صادقين
ثم قال: لا نعلمه يروى إلا من هـذا الوجه، ولا نعلم روى أبو عون محمد بن عبيد الله عن سعيد بن جبير غير هـذا الحديث.
ثم كرر الاخبار بعلمه بجميع الكائنات وبصره بأعمال المخلوقات فقال: إن الله يعلم غيب السماوات والارض والله بصير بما تعملون آخر تفسير سورة الحجرات، ولله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة.
———
(1) إسناده صحيح، رجاله ثقات، وقفنا عليه من حديث ابن عباس من طريق محمد بن قيس عن محمد بن عبيد الله الثقفي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، ومرة يرويه محمد بن قيس عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير به. قال صاحب تفسير ابن سعد المنسق: فيكون له شيخان.