تهذيب تفسير ابن كثير [سورة الحجرات (49): الآيات 9 الى 10]
قام به سيف بن محمد بن دورة الكعبي
وأحمد بن علي وصاحبهما
[سورة الحجرات (49): الآيات 9 الى 10]
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهـما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين (9) إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون (10)
—
يقول تعالى آمرا بالإصلاح بين الفئتين الباغين بعضهم على بعض: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فسماهـم مؤمنين مع الاقتتال، وبهذا استدل البخاري وغيره على أنه لا يخرج من الإيمان بالمعصية وإن عظمت، لا كما يقوله الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة ونحوهـم، وهـكذا ثبت في صحيح البخاري من حديث الحسن عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوما، ومعه على المنبر الحسن بن علي رضي الله عنهما، فجعل ينظر إليه مرة، وإلى الناس أخرى ويقول: «إن ابني هـذا سيد ولعل الله تعالى أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين». فكان كما قال صلوات الله وسلامه عليه، أصلح الله به بين أهـل الشام وأهـل العراق بعد الحروب الطويلة، والواقعات المهولة.
وقوله تعالى: (فإن بغت إحداهـما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله) أي حتى ترجع إلى أمر الله ورسوله، وتسمع للحق وتطيعه، كما ثبت في الصحيح عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «انصر أخاك ظالما أو مظلوما» قلت: يا رسول الله، هـذا نصرته مظلوما، فكيف أنصره ظالما؟ قال صلى الله عليه وسلم: «تمنعه من الظلم فذاك نصرك إياه».
وروى الإمام أحمد: عن أنسا رضي الله عنه قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم، لو أتيت عبد الله بن أبي، فانطلق إليه النبي صلى الله عليه وسلم، وركب حمارا وانطلق المسلمون يمشون، وهـي أرض سبخة، فلما انطلق النبي صلى الله عليه وسلم إليه قال: «إليك عني فو الله لقد آذاني ريح حمارك» فقال رجل من الأنصار: والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك. قال: فغضب لعبد الله رجال من قومه، فغضب لكل واحد منهما أصحابه، قال:
فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال، فبلغنا أنه أنزلت فيهم وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما»
ورواه البخاري في الصلح ومسلم في المغازي عن المعتمر بن سليمان عن أبيه به نحوه.
وقوله عز وجل: (فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين) أي اعدلوا بينهم فيما كان أصاب بعضهم لبعض بالقسط وهـو العدل إن الله يحب المقسطين.
وروى ابن أبي حاتم: عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ بين يدي الرحمن عز وجل بما أقسطوا في الدنيا» ورواه النسائي عن محمد بن المثنى عن عبد الأعلى به. وهـذا إسناد جيد قوي رجاله على شرط الصحيح،
و عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«المقسطون عند الله تعالى يوم القيامة على منابر من نور على يمين العرش، الذين يعدلون في حكمهم وأهـاليهم وما ولوا» ورواه مسلم والنسائي من حديث سفيان بن عيينة به.
وقوله تعالى: إنما المؤمنون إخوة أي الجميع إخوة في الدين، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه» وفي الصحيح «والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه» وفي الصحيح أيضا «إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال الملك آمين ولك مثله» والأحاديث في هـذا كثيرة، وفي الصحيح «مثل المؤمنين في توادهـم وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» وفي الصحيح أيضا «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» وشبك بين أصابعه صلى الله عليه وسلم.
وروى أحمد: عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«إن المؤمن من أهـل الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، يألم المؤمن لأهـل الإيمان كما يألم الجسد لما في الرأس» تفرد به أحمد لا بأس بإسناده، وقوله تعالى: فأصلحوا بين أخويكم يعني الفئتين المقتتلتين واتقوا الله أي في جميع أموركم لعلكم ترحمون وهـذا تحقيق منه تعالى للرحمة لمن اتقاه (1).
——
(1) صحيح لغيره، وهذا إسناد ضعيف لضعف مصعب بن ثابت، لكنه قد توبع
وأخرجه الطبراني في “الأوسط” (4693) من طريق سوار بن عمارة الرملي، عن زهير ابن محمد، عن أبي حازم، به. وزهير بن محمد رواية الشاميين عنه غير مستقيمة.
وذكر له الالباني في الصحيحة 1137. وكذلك محققو المسند 37/ 517 شاهد من حديث النعمان عند مسلم 2588 ولفظه ” الْمُؤْمِنُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إِنِ اشْتَكَى رَاسُهُ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ ”
[سورة الحجرات (49): آية 11]
( يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هـم الظالمون (11) )
ينهى تعالى عن السخرية بالناس وهـو احتقارهـم والاستهزاء بهم، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الكبر بطر الحق وغمص الناس- ويروى- وغمط الناس» والمراد من ذلك احتقارهـم واستصغارهـم، وهـذا حرام فإنه قد يكون المحتقر أعظم قدرا عند الله تعالى، وأحب إليه من الساخر منه المحتقر له، ولهذا قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم، ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن فنص على نهي الرجال، وعطف نهي النساء. وقوله تبارك وتعالى: ولا تلمزوا أنفسكم أي لا تلمزوا الناس. والهماز اللماز من الرجال مذموم ملعون كما قال تعالى: ويل لكل هـمزة لمزة [الهمزة: 1]
والهمز بالفعل واللمز بالقول، كما قال عز وجل: هـماز مشاء بنميم [القلم:11]
أي يحتقر الناس ويهمزهـم طاغيا عليهم ويمشي بينهم بالنميمة وهـي اللمز بالمقال، ولهذا قال هـاهـنا: ولا تلمزوا أنفسكم كما قال: ولا تقتلوا أنفسكم [النساء: 29]
أي لا يقتل بعضكم بعضا.
قال ابن عباس ومجاهـد وسعيد بن جبير وقتادة ومقاتل بن حيان ولا تلمزوا أنفسكم أي لا يطعن بعضكم على بعض، وقوله تعالى: ولا تنابزوا بالألقاب أي لا تتداعوا بالألقاب، وهـي التي يسوء الشخص سماعها.
وروى أحمد: عن أبي جبيرة بن الضحاك، قال فينا نزلت في بني سلمة ولا تنابزوا بالألقاب قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فكان إذا دعي أحد منهم باسم من تلك الأسماء، قالوا: يا رسول الله إنه يغضب من هـذا، فنزلت ولا تنابزوا بالألقاب ورواه أبو داود عن موسى بن إسماعيل عن وهـيب عن داود به. (1)
وقوله جل وعلا: بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان أي بئس الصفة والاسم الفسوق. وهـو التنابز بالألقاب كما كان أهـل الجاهـلية يتناعتون بعد ما دخلتم في الإسلام وعقلتموه ومن لم يتب أي من هـذا فأولئك هـم الظالمون.
—–
(1) ورد في مسند أحمد
16642 – حدثنا حفص بن غياث، قال: حدثنا داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن أبي جبيرة بن الضحاك الأنصاري، عن عمومة له، قدم النبي صلى الله عليه وسلم وليس أحد منا إلا له لقب أو لقبان قال: فكان إذا دعا بلقبه قلنا: يا رسول الله، إن هذا يكره هذا، قال: فنزلت: ” ولا تنابزوا بالألقاب ”
16643 – حدثنا أبو عامر، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سليمان، شيخ صالح حسن الهيئة مديني، قال: حدثنا معاذ بن عبد الله بن خبيب، عن أبيه، عن عمه قال: ” كنا في مجلس فطلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ” فذكره
وقلنا لعله على شرط المتمم على الذيل لأن الإمام أحمد أورده في موضعين. بعد حديث لأبي جبيرة بن الضحاك بنفس الألفاظ ويحتاج تأمل هل يقصد تعليل أحد الإسنادين