تهذيب تفسير ابن كثير تَفْسِيرُ سُورَةِ ق
قام به سيف بن محمد الكعبي وأحمد بن علي وصاحبهما
تَفْسِيرُ سُورَةِ ق
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ وَهَذِهِ السُّورَةُ هِيَ أَوَّلُ الْحِزْبِ الْمُفَصَّلِ عَلَى الصَّحِيحِ وَقِيلَ مِنَ الْحُجُرَاتِ. وَأَمَّا مَا يَقُولُهُ الْعَامَّةُ إِنَّهُ مِنْ (عَمَّ) فَلَا أَصْلَ لَهُ وَلَمْ يَقُلْهُ أحد من العلماء رضي الله عنهم الْمُعْتَبَرِينَ فِيمَا نَعْلَمُ.
إِذَا عُلِمَ هَذَا فَإِذَا عَدَدْتَ ثَمَانِيًا وَأَرْبَعِينَ سُورَةً فَالَّتِي بَعْدَهُنَّ سُورَةُ ق. بَيَانُهُ ثَلَاثٌ: الْبَقَرَةُ وَآلُ عِمْرَانَ وَالنِّسَاءُ. وَخَمْسٌ: الْمَائِدَةُ وَالْأَنْعَامُ وَالْأَعْرَافُ وَالْأَنْفَالُ وَبَرَاءَةُ. وَسَبْعٌ: يُونُسُ وَهُودٌ وَيُوسُفُ وَالرَّعْدُ وَإِبْرَاهِيمُ وَالْحِجْرُ وَالنَّحْلُ. وَتِسْعٌ: سُبْحَانَ وَالْكَهْفُ وَمَرْيَمُ وَطَهَ وَالْأَنْبِيَاءُ وَالْحَجُّ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالنُّورُ وَالْفُرْقَانُ. وَإِحْدَى عَشْرَةَ: الشُّعَرَاءُ وَالنَّمْلُ وَالْقَصَصُ وَالْعَنْكَبُوتُ وَالرُّومُ وَلُقْمَانُ والم السجدة والأحزاب وسبأ وفاطر ويس. وثلاث عشرة: الصافات وص والزمر وغافر وحم السجدة وحم عسق وَالزُّخْرُفُ وَالدُّخَانُ وَالْجَاثِيَةُ وَالْأَحْقَافُ وَالْقِتَالُ وَالْفَتْحُ وَالْحُجُرَاتُ. ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ الْحِزْبُ الْمُفَصَّلُ كَمَا قَالَهُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. فَتَعَيَّنَ أَنَّ أوله سورة ق. وهو الذي قلنا ولله الحمد والمنة.
وَروى الْإِمَامُ أَحْمَدُ: ٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ سَأَلَ أَبَا وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْعِيدِ؟ قَالَ: بِقَافٍ وَاقْتَرَبَتْ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ حَدِيثِ مَالِكٍ بِهِ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ فُلَيْحٍ عَنْ ضَمْرَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِي واقد قال: سألني عمر رضي الله عنه، فَذَكَرَهُ.
[حَدِيثٌ آخَرُ] وَروى أَحْمَدُ: عَنْ أُمِّ هِشَامٍ بِنْتِ حَارِثَةَ قَالَتْ: لَقَدْ كَانَ تَنُّورُنَا وَتَنُّورُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدًا سَنَتَيْنِ أَوْ سَنَةً وَبَعْضَ سَنَةٍ، وَمَا أَخَذْتُ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ إِلَّا على لسان رسول الله، وكان يَقْرَؤُهَا كُلَّ يَوْمِ جُمُعَةٍ عَلَى الْمِنْبَرِ إِذَا خطب الناس،
رواه مسلم مِنْ حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ بِهِ.
وَروى أَبُو دَاوُدَ: عَنِ ابْنَةِ الْحَارِثِ بْنِ النُّعْمَانِ قَالَتْ مَا حَفِظْتُ ق إِلَّا مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ بِهَا كُلَّ جُمُعَةٍ. قَالَتْ: وَكَانَ تَنُّورُنَا وَتَنُّورُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدًا، وَكَذَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِهِ،
وَالْقَصْدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ بِهَذِهِ السُّورَةِ فِي الْمَجَامِعِ الْكِبَارِ كَالْعِيدِ وَالْجُمَعِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى ابْتِدَاءِ الْخَلْقِ، وَالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ وَالْمَعَادِ وَالْقِيَامِ وَالْحِسَابِ، وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ والثواب والعقاب والترغيب والترهيب، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
[سُورَةُ ق (50): الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)
——-
ق: حَرْفٌ مِنْ حُرُوفِ الهجاء المذكورة في أوائل السور كقوله تعالى: ص- ن- الم- حم- طس وَنَحْوِ ذَلِكَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ وَقَدْ أَسْلَفْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهُمْ قالوا: ق جبل
مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الْأَرْضِ يُقَالُ لَهُ جَبَلُ قَافٍ، وَكَأَنَّ هَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، مِنْ خُرَافَاتِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّتِي أَخَذَهَا عَنْهُمْ بَعْضُ النَّاسِ لَمَّا رأى من جواز الرواية عنهم مما لَا يُصَدَّقُ وَلَا يُكَذَّبُ، وَعِنْدِي أَنَّ هَذَا وَأَمْثَالَهُ وَأَشْبَاهَهُ مِنَ اخْتِلَاقِ بَعْضِ زَنَادِقَتِهِمْ، يُلَبِّسُونَ بِهِ عَلَى النَّاسِ أَمْرَ دِينِهِمْ، كَمَا افْتُرِيَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِ عُلَمَائِهَا وَحُفَّاظِهَا وَأَئِمَّتِهَا أَحَادِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا بِالْعَهْدِ مِنْ قِدَمٍ فَكَيْفَ بِأُمَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَ طُولِ الْمَدَى وَقِلَّةِ الْحُفَّاظِ النُّقَّادِ فِيهِمْ وَشُرْبِهِمُ الْخُمُورَ، وَتَحْرِيفِ عُلَمَائِهِمُ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَتَبْدِيلِ كُتُبِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ، وَإِنَّمَا أَبَاحَ الشَّارِعُ الرِّوَايَةَ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ:
«وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ»
فِيمَا قَدْ يُجَوِّزُهُ الْعَقْلُ، فَأَمَّا فِيمَا تُحِيلُهُ الْعُقُولُ وَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْبُطْلَانِ وَيَغْلِبُ عَلَى الظُّنُونِ كَذِبُهُ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ أَكْثَرَ كَثِيرٌ مِنَ السَّلَفِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، وَكَذَا طَائِفَةٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْخَلَفِ مِنَ الْحِكَايَةِ عَنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، وَلَيْسَ بِهِمُ احْتِيَاجٌ إِلَى أَخْبَارِهِمْ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ،
وَالَّذِي رَوَاهُ علي ابن أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قوله عز وجل ق هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالَّذِي ثَبَتَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ حَرْفٌ مِنْ حروف الهجاء كقوله تعالى: ص- ن- حم- طس- الم وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَهَذِهِ تُبْعِدُ مَا تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما (1). وَقِيلَ: الْمُرَادُ قُضِيَ الْأَمْرُ وَاللَّهِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ جل ثناؤه ق قال: دَلَّتْ عَلَى الْمَحْذُوفِ مِنْ بَقِيَّةِ الْكَلِمِ كَقَوْلِ الشاعر: [الرجز]
قُلْتُ لَهَا قِفِي فَقَالَتْ قَافْ
وَفِي هَذَا التَّفْسِيرِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْحَذْفَ فِي الْكَلَامِ إِنَّمَا يَكُونُ إِذَا دَلَّ دَلِيلٌ عَلَيْهِ، وَمِنْ أَيْنَ يُفْهَمُ هَذَا مِنْ ذِكْرِ هَذَا الْحَرْفِ؟
وَقَوْلُهُ تعالى: وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ أَيِ الْكَرِيمُ الْعَظِيمُ الذِي لَا يَاتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت: 42]
وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَابِ الْقَسَمِ مَا هُوَ؟ فَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ بَعْضِ النُّحَاةِ أَنَّهُ قَوْلُهُ تعالى: قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ وَفِي هَذَا نَظَرٌ بَلِ الْجَوَابُ هُوَ مَضْمُونُ الْكَلَامِ بَعْدَ الْقَسَمِ، وَهُوَ إِثْبَاتُ النُّبُوَّةِ وَإِثْبَاتُ الْمَعَادِ وَتَقْرِيرُهُ وَتَحْقِيقُهُ، وَإِنْ لَمْ يكن القسم ملتقي لَفْظًا، وَهَذَا كَثِيرٌ فِي أَقْسَامِ الْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ [ص: 2] وَهَكَذَا قَالَ هَاهُنَا: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ أَيْ تَعَجَّبُوا مِنْ إِرْسَالِ رسول إليهم من البشر، كقوله جل جلاله: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ [يُونُسَ: 2] أَيْ وَلَيْسَ هَذَا بِعَجِيبٍ فَإِنَّ اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ.
ثم قال عز وجل مخبرا عنهم في تعجبهم أيضا من المعاد واستبعادهم لوقوعه أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ أَيْ يَقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَبَلِينَا وَتَقَطَّعَتِ الْأَوْصَالُ مِنَّا وَصِرْنَا تُرَابًا، كَيْفَ يُمْكِنُ الرُّجُوعُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى هَذِهِ الْبِنْيَةِ وَالتَّرْكِيبِ؟ ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ أَيْ بَعِيدُ الْوُقُوعِ. وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ اسْتِحَالَتَهُ وَعَدَمَ إِمْكَانِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَادًّا عَلَيْهِمْ: قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ أَيْ مَا تَاكُلُ مِنْ أَجْسَادِهِمْ فِي الْبِلَى نَعْلَمُ ذَلِكَ وَلَا يَخْفَى عَلَيْنَا أَيْنَ تَفَرَّقَتِ الْأَبْدَانُ وَأَيْنَ ذَهَبَتْ وَإِلَى أَيْنَ صَارَتْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ أَيْ حَافِظٌ لِذَلِكَ فَالْعِلْمُ شَامِلٌ وَالْكِتَابُ أَيْضًا فِيهِ كُلُّ الْأَشْيَاءِ مَضْبُوطَةٌ.
قَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قوله تعالى: قَدْ عَلِمْنا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ أَيْ مَا تَاكُلُ مِنْ لُحُومِهِمْ وَأَبْشَارِهِمْ، وَعِظَامِهِمْ وَأَشْعَارِهِمْ «2»، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُمْ، ثُمَّ بين تبارك وتعالى سَبَبَ كُفْرِهِمْ وَعِنَادِهِمْ وَاسْتِبْعَادِهِمْ مَا لَيْسَ بِبَعِيدٍ فَقَالَ: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ أَيْ وَهَذَا حَالُ كُلِّ مَنْ خَرَجَ عَنِ الْحَقِّ مَهْمَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَالْمَرِيجُ: الْمُخْتَلِفُ الْمُضْطَرِبُ الْمُلْتَبِسُ المنكر خلاله كقوله تَعَالَى: إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات:8 – 9].
——
(1) يقصد أثر ابن عباس الذي فيه سبع واراضين وسبع سماوات وسبع جبال. واعتبره غريب لا يصح منقطع.
(2) مسلسل بالعوفيين.