تهذيب ابن كثير [سورة الحجرات (49): الآيات 6 الى 8]
قام به سيف بن محمد بن دورة الكعبي وأحمد بن علي وصاحبهما
[سورة الحجرات (49): الآيات 6 الى 8]
يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين (6) واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هـم الراشدون (7) فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم (8)
—–
يأمر تعالى بالتثبت في خبر الفاسق ليحتاط له لئلا يحكم بقوله، فيكون في نفس الأمر كاذبا أو مخطئا، فيكون الحاكم بقوله قد اقتفى وراءه، وقد نهى الله عز وجل عن اتباع سبيل المفسدين، ومن هـاهـنا امتنع طوائف من العلماء من قبول رواية مجهول الحال لاحتمال فسقه في نفس الأمر، وقبلها آخرون لأنا إنما أمرنا بالتثبت عند خبر الفاسق، وهـذا ليس بمحقق الفسق لأنه مجهول الحال، وقد قررنا هـذه المسألة في كتاب العلم من شرح البخاري ولله تعالى الحمد والمنة، وقد ذكر كثير من المفسرين أن هـذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني المصطلق، وقد روي ذلك من طرق ومن أحسنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده (1) من رواية ملك بني المصطلق، وهـو الحارث بن ضرار والد جويرية بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها …..
وقال مجاهـد وقتادة: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق ليصدقهم، فتلقوه بالصدقة فرجع فقال إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك، زاد قتادة: وإنهم قد ارتدوا عن الإسلام. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه إليهم، وأمره أن يتثبت ولا يعجل، فانطلق حتى أتاهـم ليلا فبعث عيونه فلما جاءوا أخبروا خالدا رضي الله عنه أنهم مستمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم، فلما أصبحوا أتاهـم خالد رضي الله عنه فرأى الذي يعجبه فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر فأنزل الله تعالى هـذه الآية. وكذا ذكر غير واحد من السلف منهم ابن أبي ليلى ويزيد بن رومان والضحاك، ومقاتل بن حيان، وغيرهـم في هـذه الآية أنها أنزلت في الوليد بن عقبة، والله أعلم.
وقوله تعالى: (واعلموا أن فيكم رسول الله) أي اعلموا أن بين أظهركم رسول الله فعظموه ووقروه وتأدبوا معه وانقادوا لأمره، فإنه أعلم بمصالحكم وأشفق عليكم منكم، ورأيه فيكم أتم من رأيكم لأنفسكم كما قال تبارك وتعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم)
[الأحزاب: 6]
ثم بين أن رأيهم سخيف بالنسبة إلى مراعاة مصالحهم فقال: لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم أي لو أطاعكم في جميع ما تختارونه لأدى ذلك إلى عنتكم وحرجكم، كما قال سبحانه وتعالى: ولو اتبع الحق أهـواءهـم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهـم بذكرهـم فهم عن ذكرهـم معرضون
[المؤمنون: 71]
وقوله عز وجل: ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم أي حببه إلى نفوسكم وحسنه في قلوبكم.
وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أي وبغض إليكم الكفر والفسوق وهـي الذنوب الكبار والعصيان، وهـي جميع المعاصي وهـذا تدريج لكمال النعمة، وقوله تعالى: أولئك هـم الراشدون أي المتصفون بهذه الصفة هـم الراشدون الذين قد آتاهـم الله رشدهـم.
——
(1) فيه جهالة دينار تفرد عنه عيسى لكن ذكر محققو المسند 30/ 403 شواهد لسبب نزول الآية دون قصة إسلام ضرار وكذلك ابن عساكر في تاريخه 63/ 227 ذكر بعض تلك الشواهد. وذكر ابن كثير حديث ام سلمة وفيه موسى بن عبيدة وذكر حديث ابن عباس من طريق العوفيين ومراسيل لمجاهد وقتادة ويزيد بن رومان وابن أبي ليلى فحذفنا المرفوعات وتركنا المراسيل فأصل القصة محفوظ.