: تتمة الفوائد المنتقاة على صحيح مسلم
باب إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها
المسألة الخامسة: إن الله يبعث على رأس كل مائة عام من يُصلح لهذه الأمة
جاء في سنن أبي داود، أول كتاب الملاحم، باب ما يذكر في قرن المائة
4282 – حدثنا سُلَيْمانُ بنُ دَاوُدَ المَهْرِيّ أخبرنا ابنُ وَهْبٍ أخبرني سَعِيدُ بنُ أبِي أيّوبَ عن شَرَاحِيلَ بنِ يَزِيدَ المَعَافِرِيّ عن أبِي عَلْقَمَةَ عن أَبي هُرَيْرَةَ فِيمَا أعْلَمُ عن رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: ((إنّ الله يَبْعَثُ لِهَذِهِ الأمّةِ عَلَى رَاسِ كُلّ مِائَةِ سَنَةٍ مَنْ يُجَدّدُ لَها دِينَهَا)).
قال أبو داود: «رواه عبد الرحمن بن شريح الاسكندراني، لم يجز به شراحيل
——————-
قال الألباني: صحيح.
قلت سيف بن دورة: قلنا في تخريجنا لسنن أبي داود:
* شراحيل بن يزيد ليس فيه توثيق من معتبر، وأشار الطبراني لتفرد ابن وهب، وذكر أبوداود أن عبدالرحمن بن شريح أعضله فحمل بعض الباحثين أن هذا أضطراب، من شرحيل.
وقال العراقي وغيره: سنده صحيح (فيض القدير)، وكذلك صححه السخاوي في المقاصد الحسنة ص122،والشيباني في تمييز الطيب من الخبيث، وذكره الحاكم في مستدركه، وممن صححه البيهقي، بل قال السيوطي: اتفق الحفاظ أنه حديث صحيح. وبعض الباحثين ينقل تصحيح أحمد له، ويعزوه لسير أعلام النبلاء 10/ 46،وبمراجعة السير لم نجد النص الصريح على تصحيحة، إنما قال: ورد عن أحمد من طرق أنه قال: (إن الله يقيض على كل رأس مائة سنه … ) الحديث فنظرنا فإذا في المائة الأولى عمر بن عبدالعزيز، وفي المائة الثانية الشافعي.
فإن صح الإجماع الذي نقله السيوطي فيحمل الإعضال الذي ذكره أبوداود على أنه يريد ذكر الخلاف، لا التعليل. ودفع السخاوي الإعضال بأن مع سعيد زيادة علم.
واختلف الأئمة في معناه فبعضهم حمله على أول القرن، والأكثر على آخره ومنهم الإمام أحمد كما سبق النقل عنه.
وراجع عون المعبود
مِن رحْمةِ اللهِ بالأمَّةِ الإسْلاميَّةِ أنَّه يهيئ لها وجودِ العُلماءِ أو الحُكَّامِ، الَّذين يَنشرون الدِّين كما كان على عهْدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم وصَحابتِه رضِيَ اللهُ عنهم.
وفي هذا الحَديثِ يقولُ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: “إنَّ اللهَ يَبعَثُ”، أي: يرسِلُ، ويوجِدُ ويقيِّضُ، “لهذِه الأمَّةِ”، أي: أمَّةِ المسلِمين، وقيل: للعالَمِ كلِّهِ، “على راسِ كلِّ مِائةِ سنَةٍ”، أي: انتِهائِها أو أوَّلِها، عندما يقِلُّ الدِّينُ وتُهجَرُ السُّنَنُ ويَكثرُ الجهْلُ والبِدَعُ، “مَن يُجدِّدُ لها دينَها”، أي: يُظهِرُ ما نُسِيَ وهُجِرَ العمَلُ بهِ من الدِّينِ، ويَنشُرُ السُّنَنَ، ويحارِبُ البِدَعَ.
ولَفْظةُ “مَن” عامَّةٌ وتَقعُ على الواحِدِ والجمْعِ، وليس فيها تَخصيصُ المجدِّدينَ بأنَّهم الفُقهاءُ أو العُلماءُ فقط؛ فإنَّ انتِفاعَ الأمَّةِ بهم وإنْ كان كثيرًا فانتِفاعُهم بأُولِي الأمْرِ والحكَّامِ الصَّالِحين أمْرٌ واضِحٌ أيضًا؛ فبهِم يُحفَظُ الدِّينُ ويُبثُّ العدْلُ، كما أنَّ العلماءَ يَضبِطون أُصولَ الشَّرعِ وأدلَّتَه.
جاء في عون المعبود: ” ((إن الله يبعث لهذه الأمة)) أي: أمة الإجابة، ويحتمل أمة الدعوة قاله القاراء ((على رأس كل مائة سنة)) أي: انتهائه أو ابتدائه إذا قل العلم والسنة وكثر الجهل والبدعة. قاله القاراء.
وقال العلقمي في شرحه. معنى التجديد إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة والأمر بمقتضاهما.
تنبيه: اعلم أن المراد من رأس المائة في هذا الحديث آخرها. قال في مجمع البحار: والمراد من انقضت المائة وهو حي عالم مشهور. انتهى.
وقال الطيبي: المراد بالبعث من انقضت المائة وهو حي عالم يشار إليه. كذا في مقدمة فتح القدير للمناوي وخلاصة الأثر للمحبي.
وقال السيوطي في قصيدته في المجددين:
والشرط في ذلك أن يمضي المائة … وهو على حياته بين الفئة
يشار بالعلم إلى مقامه … وينشر السنة في كلامه
وقال في مرقاة الصعود نقلاً عن ابن الأثير: وإنما المراد بالمذكور من انقضت المائة وهو حي معلوم مشهور مشار إليه. انتهى.
والديلي الواضح على أن المراد برأس المائة هو آخرها لا أولها أن الزهري وأحمد بن حنبل وغيرهما من الأئمة المتقدمين والمتأخرين اتفقوا على أن من المجددين على رأس المائة عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وعلى رأس المائة الثانية الإمام الشافعي رحمه الله، وقد توفي عمر بن عبد العزيز سنة إحدى ومائة وله أربعون سنة ومدة خلافته سنتان ونصف، وتوفي الشافعي سنة أربع ومائتين وله أربع وخمسون سنة.
قال الحافظ ابن حجر في توالي التأسيس قال أبو بكر البزار: سمعت عبد الملك ابن عبد الحميد الميموني يقول: كنت عند أحمد بن حنبل فجرى ذكر الشافعي فرأيت أحمد يرفعه، وقال روي عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “إن الله تعالى يقيض في رأس كل مائة سنة من يعلم الناس دينهم” قال: فكان عمر بن عبد العزيز في رأس المائة الأولى وأرجو أن يكون الشافعي على رأس المائة الأخرى.
وقال أحمد: أيضاً فيما أخرجه البيهقي من طريق أبي بكر المروزي قال قال أحمد بن حنبل: إذا سئلت عن مسألة لا أعرف فيها خبراً قلت فيها بقول الشافعي؛ لأنه إمام عالم من قريش.
وقال ابن عدي: سمعت محمد بن علي بن الحسين يقول: سمعت أصحابنا يقولون: كان في المائة الأولى عمر بن عبد العزيز، وفي الثانية محمد بن إدريس الشافعي.
وقد سبق أحمد من تابعه إلى عد عمر بن عبد العزيز في المائة الأولى الزهرى فأخرج الحاكم من طريق أحمد بن عبد العزيز بن وهب عقب روايته عن عمه عن سعيد بن أبي أيوب للحديث المذكور، قال ابن أخي ابن وهب قال عمى عن يونس عن الزهري أنه قال: فلما كان في رأس المائة من الله على هذه الأمة بعمر بن عبد العزيز.
قال الحافظ بن حجر: وهذا يشعر بأن الحديث كان مشهوراً في ذلك العصر ففيه تقوية للسند المذكور مع أنه قوي لثقة رجاله. قال وقال الحاكم: سمعت أبا الوليد حسان بن محمد الفقيه يقول غير مرة: سمعت شيخاً من أهل العلم يقول لأبي العباس بن سريح يقول: أبشر أيها القاضي فإن الله من على المسلمين بعمر بن عبد العزيز على رأس المائة فأظهر كل سنة وأمات كل بدعة، ومن الله على رأس المائتين بالشافعي حتى أظهر السنة وأخفى البدعة، من الله على رأس الثلاثمائة بك. انتهى.
قلت: فلو لم يكن المراد من رأس المائة آخرها بل كان المراد أولها لما عدوا عمر بن عبد العزيز من المجددين على رأس المائة الأولى، ولا الإمام الشافعي على رأس المائة الثانية، لأنه لم يكن ولادة عمر بن عبد العزيز على رأس المائة الأولى فضلاً عن أن يكون مجدداً عليه، وكذلك لم يكن ولادة الشافعي على رأس المائة الثانية، فكيف يصح كونه مجدداً عليه.
فإن قلت: الظاهر من رأس المائة من حيث اللغة هو أولها لا آخرها، فكيف يراد آخرها؟ قلت: كلا بل جاء في اللغة رأس الشيء بمعنى آخره أيضاً.
قال في تاج العروس: رأس الشيء طرفه، وقيل آخره. انتهى.
قلت: وعليه حديث ابن عمر: ((أريتكم ليلتكم هذه فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد)) أخرجه الشيخان، فإنه لا مرية في أن المراد من رأس المائة في هذا الحديث هو آخر المائة.
قال الحافظ في فتح الباري في تفسير رأس مائة سنة: أي عند انتهاء مائة سنة. انتهى. وقال الطيبي: الرأس مجاز عن آخر السنة وتسميته رأساً باعتبار أنه مبدأ لسنة أخرى. انتهى.
وعليه حديث أنس بعثه الله على رأس أربعين سنة، فأقام بمكة عشر سنين وبالمدينة عشر سنين، وتوفاه الله على رأس ستين سنة. الحديث أخرجه الترمذي في الشمائل. قال في مجمع البحار: توفاه على رأس ستين، أي آخره. ورأس أية آخرها. انتهى.
وفيه نقلاً عن الكرماني، وقيل إنه “أي أبو الطفيل” مات سنة عشر ومائة، وهي رأس مائة سنة من مقالته. انتهى. فإذن ظهر حق الظهور أن المراد من رأس كل مائة آخر كل مائة.
ثم اعلم أن ابن الأثير والطيبي وغيرهما زعموا أن المجدد هو الذي انقضت المائة وهو حي معلوم مشهور مشار إليه، …..
وقال المناوي في مقدمة فتح القدير تحت قوله على رأس كل مائة سنة: أي أوله، ورأس الشيء أعلاه، ورأس الشهر أوله. ثم قال بعد ذلك: وهنا تنبيه ينبغي التفطن له وهو أن كل من تكلم على حديث: إن الله يبعث إنما يقرره بناء على أن المبعوث على رأس القرن يكون موته على رأسه، وأنت خبير بأن المتبادر من الحديث إنما هو أن البعث وهو الإرسال يكون على رأس القرن أي أوله، ومعنى إرسال العالم تأهله للتصدي لنفع الأنام وانتصابه لنشر الأحكام وموته على رأس القرن أخذ لا بعث، فتدبر.
ثم رأيت الطيبي قال: المراد بالبعث من انقضت المائة وهو حي عالم مشهور مشار إليه. وقال الكرماني: قد كان قبيل كل مائة أيضاً من يصحح ويقوم بأمر الدين، وإنما المراد من انقضت المدة وهو حي عالم مشار إليه.
ولما كان ربما يتوهم متوهم من تخصيص البعث برأس القرن أن العالم بالحجة لا يوجد إلا عنده أردف ذلك بما يبين أنه قد يكون في أثناء المائة من هو كذلك، بل قد يكون أفضل من المبعوث على الرأس، وأن تخصيص الرأس إنما هو لكونه مظنة انخرام علمائه غالباً، وظهور البدع، وخروج الدجالين. انتهى كلامه.
[المراد بالتجديد]
“تنبيه آخر” قد عرفت مما سبق أن المراد من التجديد: إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة والأمر بمقتضاهما وإماتة ما ظهر من البدع والمحدثات.
قال في مجالس الأبرار: والمراد من تجديد الدين للأمة إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة والأمر بمقتضاهما، وقال فيه: ولا يعلم ذلك المجدد إلا بغلبة الظن ممن عاصره من العلماء بقرائن أحواله والانتفاع بعلمه، إذ المجدد للدين لا بد أن يكون عالماً بالعلوم الدينية الظاهرة والباطنة قاصراً للسنة، قامعاً للبدعة، وأن يعم علمه أهل زمانه، وإنما كان بالتحديد على رأس كل مائة سنة لانخرام العلماء فيه غالباً، واندراس السنن وظهور البدع، فيحتاج حينئذ إلى تجديد الدين، فيأتي الله تعالى من الخلق بعوض من السلف إما واحداً أو متعدداً انتهى. وقال القاراء في المرقاة: أي يبين السنة من البدعة ويكثر العلم ويعز أهله ويقمع البدعة ويكسر أهلها. انتهى.
فظهر أن المجدد لا يكون إلا من كان عالماً بالعلوم الدينية ومع ذلك من كان عزمه وهمته آناء الليل والنهار إحياء السنن ونشرها ونصر صاحبها وإماتة البدع ومحدثات الأمور ومحوها وكسر أهلها باللسان أو تصنيف الكتب والتدريس أو غير ذلك ومن لا يكون كذلك لا يكون مجدداً البتة وإن كان عالماً بالعلوم مشهوراً بين الناس، مرجعاً لهم.
[تنبيه:] ولا شبهة في أن عد علماء الشيعة من المجددين خطأ فاحش وغلط بين؛ لأن علماء الشيعة وإن وصلوا إلى مرتبة الاجتهاد وبلغوا أقصى مراتب من أنواع العلوم واشتهروا غاية الاشتهار، لكنهم لا يستأهلون المجددية. كيف وهم يخربون الدين فكيف يجددون، ويميتون السنن فكيف يحيونها، ويروجون البدع فكيف يمحونها، وليسوا إلا من الغالين المبطلين الجاهلين، وجل صناعتهم التحريف والانتحال والتأويل، لا تجديد الدين ولا إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنة. هداهم الله تعالى إلى سواء السبيل.
“تنبيه آخر”: واعلم أنه لا يلزم أن يكون على رأس كل مائة سنة مجدد واحد فقط، بل يمكن أن يكون أكثر من واحد.
قال الحافظ ابن حجر في توالي التأسيس: حمل بعض الأئمة من في الحديث على أكثر من الواحد، وهو ممكن بالنسبة للفظ الحديث الذي سقته، وكذا لفظه عند من أشرت إلى أنه أخرجه لكن الرواية عن أحمد تقدمت بلفظ رجل وهو أصرح في رواية الواحد من الرواية التي جاءت بلفظ من لصلاحية من للواحد وما فوقه، ولكن الذي يتعين في من تأخر الحمل على أكثر من الواحد؛ لأن في الحديث إشارة إلى أن المجدد المذكور يكون تجديده عاماً في جميع أهل ذلك العصر. وهذا ممكن في حق عمر بن عبد العزيز جداً ثم الشافعي، أما من جاء بعد ذلك فلا يعدم من يشاركه في ذلك. انتهى.
وقال في فتح الباري: وهو “أي حمل الحديث على أكثر من واحد” متجه، فإن اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوع من أنواع الخير، ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص واحد، إلا أن يدعى ذلك في عمر بن عبد العزيز، فإنه كان القائم بالأمر على رأس المائة الأولى باتصافه بجميع صفات الخير وتقدمه فيها. ومن ثم أطلق أحمد أنهم كانوا يحملون الحديث عليه، وأما من جاء بعده فالشافعي وإن كان متصفاً بالصفات الجميلة إلا أنه لم يكن القائم بأمر الجهاد والحكم بالعدل، فعلى هذا كل من كان متصفاً بشيء من ذلك عند رأس المائة هو المراد، سواء تعدد أم لا. انتهى.
تنبيه آخر: اعلم أنهم قد بينوا أسماء المجددين الماضين، وقد صنف السيوطي في ذلك أرجوزة سماها “تحفة المهتدين بأخبار المجددين”.
قالَ أَبُو دَاوُدَ: رَوَاهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ بنُ شُرَيْحٍ الإسْكَنْدَرَانِيّ، لَمْ يَجُزْ بِهِ شَرَاحِيلَ.
هذا هو ظني في هؤلاء الأكابر الثلاثة أنهم من المجددين على رأس المائة الثالثة عشر، والله تعالى أعلم وعلمه أتم.
وحديث أبي هريرة سكت عنه المنذري، وقال السيوطي في مرقاة الصعود: اتفق الحفاظ على تصحيحه، منهم الحاكم في المستدرك والبيهقي في المدخل. وممن نص على صحته من المتأخرين: الحافظ ابن حجر. انتهى.
وقال العلقمي في شرح الجامع الصغير قال شيخنا: اتفق الحفاظ على أنه حديث صحيح. وممن نص على صحته من المتأخرين: أبو الفضل العراقي وابن حجر ومن المتقدمين: الحاكم في المستدرك والبيهقي في المدخل. انتهى.
وقال المناوي في فتح القدير: أخرجه أبو داوود في الملاحم والحاكم في الفتن وصححه، والبيهقي في كتاب المعرفة، كلهم عن أبي هريرة. قال الزين العراقي وغيره: سنده صحيح. انتهى. [عون المعبود شرح سنن أبي داود]
قال ابن القيم رحمه الله: ولولا ضمان الله بحفظ دينه وتكفّله بأن يُقيمَ له من يجدد أعلامه، ويُحيى منه ما أماته المبطلون، ويُنعش ما أخمَله الجاهلون، لهُدِّمت أركانه وتداعى بنيانه، ولكن الله ذو فضل على العالمين. اهـ.
من أقوال العلم في تفسير الحديث: يقول الحافظ الذهبي رحمه الله: ” الذي أعتقده من الحديث أن لفظ (مَن يُجَدِّدُ) للجمع لا للمفرد ” انتهى من ” تاريخ الإسلام ” (23/ 180).
قال الإمام النووي في شرحه لهذا الحديث: ويحتمل أن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين؛ منهم شجعان مقاتلون، ومنهم فقهاء، ومنهم محدثون، ومنهم زهّاد، وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر، ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين، بل قد يكونون متفرقين في أقطار الأرض) [شرح النووي على مسلم في كتاب الإمارة ج 13 ص 66]. ونقل ابن حجر كلام النووي ثم زاد في آخره: (ويجوز أن يجتمعوا في البلد الواحد، وأن يكونوا في بعضٍ منه دون بعض، ويجوز إخلاء الأرض كلها من بعضهم أولاً فأولاً، إلى أن لا يبقى إلا فرقة واحدة ببلد واحد فإذا انقرضوا جاء أمر … الله [فتح الباري ج 13 ص 295].
قول الإمام الحافظ ابن حجر – رحمه الله – بعد سياق الخلاف في المجدّد: أفرد أم جماعة؟ -: ولكنّ الذي يتعين فيمن تأخر المحملُ على أكثر من الواحد؛ لأن في الحديث إشارة إلى أن المجدّد المذكور يكون تجديده عاماً في جميع أهل ذلك العصر، وهذا ممكنٌ في حقّ عمر بن عبد العزيز جداً، ثم في حق الشافعي. أما من جاء بعد ذلك، فلا يعدم من يشاركه في ذلك [توالي التأسيس ص 24 ب، 25 اً].
وقال أيضاً: لا يلزم أن يكون في رأس كل مائة سنة واحدٌ فقط؛ بل يكون الأمر فيه كما ذكر في الطائفة، وهو متجهٌ؛ فإن اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوعٍ من أنواع الخير، ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص واحد، إلا أن يدَّعي ذلك في عمر بن عبد العزيز فإنه كان القائم بالأمر على رأس المائة الأولى باتصافه بجميع صفات الخير، وتقدمه فيها؛ ومن ثم أطلق أحمد أنهم كانوا يحملون الحديث عليه. وأما من جاء بعده؛ فالشافعي – وإن كان متصفاً بالصفات الجميلة – إلا أنه لم يكن القائم بأمر الجهاد، والحكم بالعدل. فلعل هذا كل من كان متصفاً بشيءٍ من ذلك عند رأس المائة هو المراد؛ سواء تعدَّد أم لا. [الفتح ج 13 ص 295].
قال ابن الأثير: لا يلزم منه أن يكون المبعوث على رأس المائة رجلاً واحداً وإنما قد يكون واحداً، وقد يكون أكثر منه؛ فإن لفظة (مَنْ) تقع على الواحد والجمع. وكذلك لا يلزم منه أن يكون أراد بالمبعوث: الفقهاءَ خاصة – كما ذهب إليه بعض العلماء – فإن انتفاع الأمة بالفقهاء، وإن كان نفعاً عاماً في أمور الدين، فإنّ انتفاعهم بغيرهم أيضاً كثير مثل: أولي الأمر، وأصحاب الحديث، والقراء والوعاظ، وأصحاب الطبقات من الزهاد؛ فإن كل قومٍ ينفعون بفن لا ينفع به الآخر؛ إذ الأصل في حفظ الدين حفظ قانون السياسة، وبث العدل والتناصف الذي به تحقن الدماء، ويُتمكن من إقامة قوانين الشرع، وهذا وظيفة أولي الأمر. وكذلك أصحاب الحديث ينفعون بضبط الأحاديث التي هي أدلة الشرع، والقرّاء ينفعون بحفظ القراءات وضبط الروايات، والزهاد ينفعون بالمواعظ والحث على لزوم التقوى والزهد في الدنيا. فكل واحد ينفع بغير ما ينفع به الآخر .. فإذا تحمل تأويل الحديث على هذا الوجه كان أولى، وأبعد من التهمة .. فالأحسن والأجدر أن يكون ذلك إشارة إلى حدوث جماعةٍ من الأكابر المشهورين على رأس كل مائة سنة، يجددون للناس دينهم .. [جامع الأصول ج11 ص320 – 324].
ويقول ابن كثير رحمه الله: وقد ذكر كل طائفة من العلماء: بل الصحيح أن الحديث يشمل كل فرد من آحاد العلماء من هذه الأعصار ممن يقوم بفرض الكفاية في أداء العلم عمن أدرك من السلف إلى من يدركه من الخلف كما جاء في الحديث من طرق مرسلةٍ وغير مرسلة: يحمل هذا العلم من كل خلفٍ عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وهذا موجود ولله الحمد والمنة إلى زماننا … هذا .. [البداية والنهاية 6/ 89 مكتبة الفلاح بالرياض].
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: ” لا يلزم أن يكون في رأس كل مائة سنة واحد فقط، بل يكون الأمر فيه كما ذكر في الطائفة (يعني قد تكون جماعة) وهو متجه، فإنَّ اجتماع الصفات المحتاج إلى تجديدها لا ينحصر في نوع من أنواع الخير، ولا يلزم أن جميع خصال الخير كلها في شخص واحد، إلا أن يُدَّعى ذلك في عمر بن عبد العزيز، فإنه كان القائم بالأمر على رأس المائة الأولى باتصافه بجميع صفات الخير وتقدمه فيها، ومن ثم أَطلَقَ أحمد أنهم كانوا يحملون الحديث عليه، وأما من جاء بعده فالشافعي – وإن كان متصفا بالصفات الجميلة – إلا أنه لم يكن القائم بأمر الجهاد والحكم بالعدل، فعلى هذا كل من كان متصفا بشيء من ذلك عند رأس المائة هو المراد، سواء تعدد أم لا ” انتهى من “فتح الباري” (13/ 295)
ويقول العلامة حمود التويجري رحمه الله: “وأما قصر الحديث على أشخاص معدودين في كل مائة سنة واحد منهم؛ فهو بعيد جدا، والحديث لا يدل على ذلك؛ لأن لفظة (مَن) يراد بها الواحد، ويراد بها الجماعة.
وعلى هذا فحمل الحديث على الجماعة القائمين بنشر العلم وتجديد الدين أولى من حمله على واحد بعد واحد منهم.
ويؤيد هذا ما رواه الترمذي وحسنه عن عمرو بن عوف رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الدين بدأ غريبًا ويرجع غريبًا؛ فطوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنتي)
ويؤيده أيضا ما رواه ابن وضاح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه قال: الحمد لله الذي امتن على العباد بأن جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم؛ يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، ويحيون بكتاب الله أهل العمى …. إلى آخر خطبته رضي الله عنه.
فهذا يدل على أن التجديد يكون في جماعة من أهل العلم، ولا ينحصر في واحد بعد واحد منهم ” انتهى باختصار. [إتحاف الجماعة بما جاء في الفتن والملاحم وأشراط الساعة” (1/ 336)].
وجاء في الأسئلة الواردة على اللجنة الدائمة: السؤال: سمعت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله يبعث على رأس كل مائة عام من يصلح لهذه الأمة أمر دينها”، ولي بعض الاستفسارات: أ. ما هو سند هذا الحديث ومتنه الصحيح، ومن هو راويه؟ ب. ذِكر هؤلاء الصالحين إن أمكن ذلك؟ جـ. ما معنى: “يصلح أمر الدين”، وقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المحجة البيضاء؟ د. كيف يُستدل عليهم؟ هـ. ما مدى صحة القول: “إنهم يأتون على رأس الثانية عشرة من كل قرن هجري”؟
الإجابة: أولاً: روى هذا الحديث أبو داود في سننه عن سليمان بن داود المهري قال: أخبرنا عبد الله بن وهب، أخبرني سعيد بن أبي أيوب، عن شراحيل بن يزيد المعافري، عن أبي علقمة، عن أبي هريرة فيما أعلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها”. ثانياً: هذا الحديث صحيح، ورواته كلهم ثقات. ثالثاً ورابعاً: معنى قوله صلى الله عليه وسلم: “يجدد لها دينها” أنه كلما انحرف الكثير من الناس عن جادة الدين الذي أكمله الله لعباده وأتم عليهم نعمته ورضيه لهم ديناً، بعث إليهم علماء أو عالماً بصيراً بالإسلام، وداعيةً رشيداً يبصر الناس بكتاب الله وسنة رسوله الثابتة، ويجنبهم البدع ويحذرهم محدثات الأمور ويردهم عن انحرافهم إلى الصراط المستقيم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فسمى ذلك: تجديداً بالنسبة للأمة، بالنسبة للدين الذي شرعه الله وأكمله، فإن التغير والضعف والانحراف إنما يطرأ مرة بعد مرة على الأمة، أما الإسلام نفسه فمحفوظ بحفظ كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم المبينة له، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
خامساً: ليس في الحديث أن هؤلاء المصلحين يأتون على رأس السنة الثانية عشرة، بل فيه أنهم يأتون بأمر الله وحكمته على رأس كل مائة سنة، وهي القرن الهجري؛ لأنه المتعارف عند المسلمين في ذلك الزمن، وهذا فضل من الله ورحمة منه بعباده، وإقامة للحجة عليهم حتى لا يون لأحد عذر بعد البلاغ والبيان. وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. [مجموع فتاوى اللجنة الدائمة بالسعودية – المجلد الحادي والعشرو (العقيدة)]. عبد العزيز بن باز، عبد الرزاق عفيفي، عبد الله بن غديان، عبد الله بن قعود، “فتاوى اللجنة الدائمة ” (2/ 247 – 248)
======
======
المسألة السادسة: أعمار أمة محمد صلى الله عليه وسلم:
قال ابن تيمية رحمه الله تعالى في (منهاج السنة النبوية) في معرض رده على الشيعة الذين يدعون أن غائبهم لازال حيًا منذ أن عرف أنه مات، وأنه ذهب ولم يمت!: “إن عمر واحد من المسلمين هذه المرة أمر يعرف كذبه بالعادة المطردة في أمة محمد فلا يعرف أحد ولد في دين الإسلام وعاش مائة وعشرين سنة فضلا عن هذا العمر –يقصد – وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال في اخر عمره: ((أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه على رأس مائة سنة منها لا يبقى على وجه الأرض ممن هو اليوم عليها أحد)) فمن كان في ذلك الوقت له سنة ونحوها لم يعش أكثر من مائة سنة قطعا، وإذا كانت الأعمار في ذلك العصر لا تتحاوز هذا الحد فما بعده من الأعصار أولى بذلك في العادة الغالبة العامة، فإن أعمار بني ادم في الغالب كلما تأخر الزمان قصرت ولم تطل، فإن نوحا عليه السلام لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما وادم عليه السلام عاش ألف سنة كما ثبت ذلك في حديث صحيح رواه الترمذي وصححه فكان العمر في ذلك الزمان طويلا ثم أعمار هذه الأمة ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح. انتهى المراد. وقد سبق في التعليق على الصحيح المسند ذكر شيء مما يتعلق بغائبهم.
ثالثًا: يؤخذ من الحديث:
1 – وقال النووي: في الحديث احتراز من الملائكة: فإنهم لا يدخلون في النفس المنفوسة على ظهر الأرض.
2 – وفيه الأسلوب الحكيم، وهو الجواب على ما ينبغي أن يسأل عنه، لا عما سئل عنه، فإنهم سألوا عن الساعة، متى هي؟ فأجيبوا بأن ساعة كل مخلوق موته، وساعتهم جميعا بوجه عام قبل مائة سنة.
3 – وفيه مناقشة الصحابة بعضهم بعضا في مجالسهم عن معاني الأحاديث.
4 – وأنهم قد يخطئون في فهمها. والله أعلم [فتح المنعم].
5 – وفيه: ذكر سبب الحديث، وقول النبي صلى الله عليه وسلم.
6 – وفيه: ذكر الموقع الذي ذكر ذلك: ” لَمَا رَجَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ تَبُوكَ سَأَلُوهُ عَنِ السَّاعَةِ “.
7 – وفيه: مناقشة بين الطلاب لمباحث العلم.
8 – وفيه: ليس على السائل شيء إذا لم يدرك الإجابة التامة أو لم يفهم الجواب، أن يسأل المفتي مرة أخرى.
9 – قال الحافظ النووي: ” وَفِيهَا عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النُّبُوَّةِ”.
10 – أنه صلى الله عليه وسلم لا يعلم متى تقوم الساعة، وأن علمها إلى الله تعالى؛ {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الأعراف: 187].
11 – أن جميع من كان حيًّا في وقت مقالته صلى الله عليه وسلم فإنه لا يعيش أكثر من مائة سنة، وهو ما صدقه الواقع المشاهد.
وهو ما أجمله الإمام ابن الجوزي بقوله: “إنه صلى الله عليه وسلم عنى بذلك الموجودين حينئذٍ من يوم قوله هذا، وهذا قاله قبل أن يموت بشهر كما روي في الحديث: فما بلغ أحد ممن كان موجودًا من يومئذ مائة سنة”. [كشف المشكل من حديث الصحيحين (3/ 70)].
12 – فيه: الحذر واخذ الحيطة من فجأة الموت، واستغلال الوقت بالأعمال الصالحة.
13 – قال الشيخ ابن باز رحمه الله في تعليقه على صحيح البخاري: “هذا دليل على التحدث بعد العشاء فيما يتعلق بالعلم، وأن من هو حي سيموت، وأن على رأس المائة يموت ذلك القرن”.
14 – “وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم : وأقسم بالله ما على الأرض. . . دليل على أن الخضر قد مات،
15 – وفيه رد على الصوفية الذين يقولون بحياة الخضر إلى الآن. ولا يدخل الدجال في عموم هذا الحديث؛ لأنه يعيش في جزيرة من جزر البحر ولا يراه الناس وهو من أمر الغيب”.
16 – لا يلزم على الصحابي نقل تفاسير الصحابة في تفسير الحديث التي خالفت الصواب فابن عمر رضي الله عنه نقل أن الناس وهلوا في معنى الحديث يعني غلطوا وأن المراد بالحديث انخرام أهل ذلك القرن.
17 – وأن الصحابة يأخذون الأحاديث ويحاولون أن يفهموا معناها.