بيان الوسيلة في آيات القرآن الكريمة
جمع د. سيف بن دورة الكعبي
————
قال تعالى:
وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97)
وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98).سورة المؤمنين
قال ابن القيم:
فهمزات الشياطين: دفعهم الوساوس والإغواء إلى القلب، قال ابن عباس والحسن: “همزات الشياطين: نزغاتهم ووساوسهم” وفسرت همزاتهم بنفخهم ونفثهم، وهذا قول مجاهد، وفسرت بخنقهم وهو المؤتة التي تشبه الجنون.
وظاهر الحديث أن الهمز نوع غير النفخ والنفث، وقد يقال- وهو الأظهر- إن همزات الشياطين إذا أفردت دخل فيها جميع إصاباتهم لابن آدم، وإذا قرنت بالنفخ والنفث كانت نوعا خاصا، كنظائر ذلك.
ثم قال: {وَأعُوذُ بِكَ رَبِّ أنْ يَحْضُرُونِ}.
قال ابن زيد: في أموري.
وقال الكلبي: عند تلاوة القرآن.
وقال عكرمة: عند النزع والسياق، فأمره أن يستعيذ من نوعي شر إصابتهم له بالهمز وقربهم ودنوهم منه.
فتضمنت الاستعاذة أن لا يمسوه ولا يقربوه، وذكر ذلك سبحانه عقيب قوله: {ادْفَعْ بِالتِي هي أحْسَنُ السَّيَئةَ نَحْنُ أعْلَمُ بما يصِفُونَ} [المؤمنون: (96)].
فأمره أن يحترز من شر شياطين الإنس بدفع إساءتهم إليه بالتي هي أحسن، وأن يدفع شر شياطين الجن بالاستعاذة منهم. انتهى
تنبيه: أردت بنقل تفسير ابن القيم وإن لم يذكر معنى الوسيلة المذكورة في الآية بيان المعنى للآية لأنه بين معناها أحسن بيان.
وبين السعدي في تفسيره معنى الوسيلة
قال السعدي:
{وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ} أي اعتصم بحولك وقوتك متبرئا من حولي وقوتي {مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} انتهى
وهمز شياطين الجن ظاهر، وأما همز شياطين الإنس فقد كان من أذى المشركين النبي صلى الله عليه وسلم لمزه والتغامز عليه والكيد له.
(5) / (11) / (2021) (9): (42) ص – سيف بن دورة الكعبي: سلسلة في صفات الله عز وجل
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على النبي الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد فهذه سلسلة في صفات المولى سبحانه وتعالى، وسبق معنا سلسلة في القواعد المتعلقة بباب الأسماء والصفات وأما هذه السلسلة فتتكلم عن معاني الصفات وأدلتها على ضوء الكتاب والسنة وأثرها في حياة الإنسان.
والهدف من دراسة هذه السلسلة معرفة معاني صفاته سبحانه وأثر ذلك في حياتنا حتى نزداد إيمانا بمعرفة الله سبحانه وتعالى فلا يخفى عليكم مما يعتقده أهل السنة والجماعة وعلى رأسهم الصحابة رضي الله عنهم أن لصفات الله معان معلومة وقد تخفى على البعض لقلة إدراكهم ومعرفتهم وهي ليست كلمات لا معاني لها ولا تعرف ماهي حالها كحال حروف الهجاء بل معرفته سبحانه أعظم المطالب وأجلها.
نبدأ بالصفة الأولى لدينا ألا وهي:
الأوَّلِيَّةُ
وهي صفة ذاتية لله عز وجل، ودليله قوله تعالى: {هو الأول والآخر}
وفي الحديث: [أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ] رواه مسلم
فَالْأَوَّلُ وَالْآخِرُ: بَيَانٌ لِإِحَاطَتِهِ الزَّمَانِيَّةِ.
فَاسْمُهُ الْأَوَّلُ: دالٌّ عَلَى قِدَمِهِ وأزليَّتِهِ.
وَاسْمُهُ الْآخِرُ: دالٌّ عَلَى بقائِهِ وأبديَّتِه.
فهي تفيد إحاطة الله سبحانه وتعالى بكل شيء أولاً وآخراً
وفسره النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: “الذي ليس قبله شيء”
وهنا فسر الإثبات بالنفي فجعل هذه الصفة الثبوتية صفة سلبية، وقد ذكرنا فيما سبق أن الصفات الثبوتية أكمل وأكثر، فلماذا؟
فنقول: فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، لتوكيد الأولية، يعني أنها مطلقة، أولية ليست أولية إضافية، فيقال: هذا أول باعتبار ما بعده وفيه شيء آخر قبله، فصار تفسيرها بأمر سلبي أدل على العموم باعتبار التقدم الزمني.
ومذهب أهل الحديث والأثر وأهل السنة أنّ الرب – عز وجل – أَوَّلٌ بصفاته، يعني هو أوَّلٌ سبحانه وتعالى بصفاته.
(أول) بمعنى لم يزل بذاته ولم يزل بأسمائه ولم يزل بصفاته، فهو سبحانه (أول) في ذاته فليس قبل ذاته شيء، وهو (أول) جل وعلا بصفاته وبأسمائه جل وعلا وبأفعاله، فإن أسماء الله تبارك وتعالى، وإن صفات الله جل وعلا لم يكتسبها جل وعلا اكتسابا بعد حصول الخلق، كما هو الحال في المخلوقين.
وأنّه سبحانه يجوز أن يكون خَلَقَ أنواعاً من المخلوقات وأنواعاً من العوالم غير هذا العالم الذي نراه.
فجنس مخلوقات الله – عز وجل – أعمّ من أن تكون هذه المخلوقات الموجودة الآن لكن ليس عندنا من العلم ما نجزم به ولكن الله قادر سبحانه أن يخلق ويفعل ما يشاء في أي زمن.
قال تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} فلا يقال أنه كان ممتنعا عليه صفة من صفاته ثم صارت جائزة في حقه.
* فإذا قال قائل: هل هذه الأسماء متلازمة، بمعنى أنك إذا قلت: الأول، فلابد أن تقول: الآخر، أو: يجوز فصل بعضها عن بعض؟!
فالظاهر أن المتقابل منها متلازم، فإذا قلت: الأول، فقل: الآخر، وإذا قلت: الظاهر، فقل: الباطن، لئلا تفوت صفة المقابلة الدالة على الإحاطة
* التعبد بأوليته سبحانه وتعالى.
وذلك يكون بأمور منها:
1 – ندعوه سبحانه باسمه الأول كما في الحديث دعاء المسألة كما في الحديث: (اللهُمَّ أَنْتَ الأَوَّلُ فَليْسَ قَبْلكَ شيء وَأَنْتَ الآخِرُ فَليْسَ بَعْدَكَ شيء وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَليْسَ فَوْقَكَ شيء وَأَنْتَ البَاطِنُ فَليْسَ دُونَكَ شيء اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ وَأَغْنِنَا مِنَ الفَقْرِ)
2 – الرد على الفلاسفة القائلين بقدم العالم فنثبت ونعتقد ونتيقن أن الله هو الأول والآخر وكل المخلوقات مسبوقة بعدم.
3 – التعبد لله بصفة الأولية، يقلل من داء العجب في القلب؛ لأن العبد إذا تدبر أن الله هو الأول، وهو الذي ابتدأ خلقه وأنعم عليه، وهو الذي علمه وأطعمه وسقاه، وهو الذي أوجده في هذه الدنيا على الإسلام، فإذا تدبر ذلك علم أولاً: أن العلم الذي هو فيه لم يأت من عنده نفسه، وإنما هو من عند الله، فلا يقول كما قال قارون: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي} [القصص:78] بل سيقول: إن الله هو الذي علمني بعد أن كنت جاهلاً يقول الله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ} [النحل:53] أي: ليس للعبد فيها شأن فالله هو الذي رزق هذا الإنسان العلم والقوة والمال، وهداه إلى الإسلام، فإذا تدبر العبد ذلك فلا يمكن أن يحتقر أحداً، أو يصل إلى قلبه داء العجب.
4 – ويقتضي الإيمان بأوليته إفراده وحده بالذل والالتجاء وعدم الالتفات إلى غيره أو التوكل على سواه ويقتضي التجرد من التعلق بالأسباب والالتفات إليها إلى التعلق بمن منه الإمداد ومنه الإعداد.
* وفي هذا رد على الفلاسفة القائلين بقدم العالم
فهم يجعلون مع الله سبحانه وتعالى من مخلوقاته من هو قرين له في الأولية، فيشرك في هذه الصفة، يقولون بقدم العالم، فإنهم يقولون: إن الإله علة موجبة تقتضي معلوله، فلما كان الإله لا أول له ولا بداية، وهو علة موجبة تقتضي معلولها، كان معلولها أيضاً لا بداية له، فاعتقدوا أن هذا الخلق قديم أزلي أول، كما أن الله عز وجل هو الأول ولهذا كفرهم السلف رضوان الله عليهم.
(5) / (11) / (2021) (9): (42) ص – سيف بن دورة الكعبي: الصفة الثانية
الإتيان والمجيء
وهما من الصفات الفعلية الثابتة لله عز وجل في الكتاب والسنة ومما أجمع عليه أهل السنة
أما عند المخالفين فهما مخلوقة منفصلة عن الله عند البعض وإذا أطلقوا عليها أنها من صفات الفعل فمعناه أنها منفصلة عن الله بائنة وهي مضافة إليه لا أنها صفات قائمة به وَلِهَذَا يَقُولُ كَثِيرٌ مِنْهُمْ: إنَّ هَذِهِ آيَاتُ الْإِضَافَاتِ وَأَحَادِيثُ الْإِضَافَاتِ وَيُنْكِرُونَ عَلَى مَنْ يَقُولُ آيَاتُ الصِّفَاتِ وَأَحَادِيثُ الصِّفَاتِ وَإِمَّا أَنْ يَجْعَلُوا جَمِيعَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ قَدِيمَةً أَزَلِيَّةً وَيَقُولُونَ نُزُولُهُ وَمَجِيئُهُ وَإِتْيَانُهُ وَفَرَحُهُ وَغَضَبُهُ وَرِضَاهُ؛ وَنَحْوُ ذَلِكَ: قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ (راجع مجموع الفتاوى:411/ 5)
ومن الأدلة التي على إثبات هذه الصفة قوله تعالى: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر}.
وقوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَاتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَاتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَاتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ}
وقال: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفاًّ صَفاًّ) [الفجر: 22]
وفي الحديث عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ، وَعَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، أَخْبَرَهُمَا: أَنَّ النَّاسَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ القِيَامَةِ؟ قَالَ: «هَلْ تُمَارُونَ فِي القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ» قَالُوا: لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَهَلْ تُمَارُونَ فِي الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ» قَالُوا: لاَ، قَالَ: ” فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ، يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئًا فَلْيَتَّبِعْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الشَّمْسَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ القَمَرَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الطَّوَاغِيتَ، وَتَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا، فَيَاتِيهِمُ اللَّهُ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَاتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ، فَيَاتِيهِمُ اللَّهُ فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا .. ” متفق عليه واللفظ للبخاري.
وفي لفظ مسلم “وَتَبْقَى هَذِهِ الْأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا، فَيَاتِيهِمُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ، هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَاتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ، فَيَاتِيهِمُ اللهُ تَعَالَى فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا”
* أقوال العلماء في إثبات هذه الصفة
عن قتادة: {إلا أن تأتيهم الملائكة} بالموت , {أو يأتي ربك} يوم القيامة (تفسير الطبري)
وثبت عن مجاهد في {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام} قال: غير السحاب ولم يكن قط إلا لبني إسرائيل في تيههم، وهو الذي يأتي الله فيه يوم القيامة. (الأربعين في صفات رب العالمين للذهبي، وقوله ثبت هو من قول الذهبي)
وعن ابن جريج , قوله: {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة} تقبض الأنفس بالموت , {أو يأتي ربك} يوم القيامة (تفسير الطبري)
عن أبي العالية، في قوله تعالى: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة} [البقرة: 210] يقول: الملائكة يجيئون في ظلل من الغمام، والله عز وجل يجيء فيما يشاء (الأسماء والصفات للبيهقي)
وعن الربيع في قوله:” هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة” الآية، قال: ذلك يوم القيامة، تأتيهم الملائكة في ظلل من الغمام. قال: الملائكة يجيئون في ظلل من الغمام، والرب تعالى يجيء فيما شاء. (تفسير الطبري)
عن السدي قال: يجئ الله في ظلل من الغمام، فتنشق السماوات، وتنزل الملائكة تنزيلا.
(كتاب الأربعين)
ما جاء عن الحسن في «الزهد» لأحمد بن حنبل: نا وكيع، نا علي بن علي: سمعت الحسن يقول: بلغني أن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بأربعين يوما، والآخرون جثى على ركبهم، فيأتيهم ربهم عز وجل – يقول: حكام الناس وولاة أمور فعندكم حاجتي وطلبتي.
قال الحسن: فثم والله حساب شديد إلا ما يسر الله. (كتاب الأربعين)
قال الإمام الطبري رحمه الله: لقول في تأويل قوله تعالى: {هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك} يقول جل ثناؤه: هل ينتظر هؤلاء العادلون بربهم الأوثان والأصنام , إلا أن تأتيهم الملائكة بالموت فتقبض أرواحهم , أو أن يأتيهم ربك يا محمد بين خلقه في موقف القيامة اهـ (تفسير الطبري)
وقال الإمام الطبري رحمه الله: قيل له: معنى ذلك ما دل عليه ظاهر الخبر، وليس عندنا للخبر إلا التسليم والإيمان به، فنقول: يجيء ربنا -جل جلاله- يوم القيامة والملك صفاً صفاً، ويهبط إلى السماء الدنيا وينزل إليها في كل ليلةٍ، ولا نقول: معنى ذلك ينزل أمره؛ بل نقول: أمره نازلٌ إليها كل لحظةٍ وساعةٍ (التبصير في معالم الدين للطبري)
قال الإمام الأزهري:
ويُقوِّى هذا القول قول الله جل وعز: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظل من الغمام} فالغمام معروف في كلام العرب، إلاّ أنا لا ندري كيف الغمام الذي يأتي الله عز وجل يوم القيامة في ظُلَل منه فنحن نؤمن به، ولا نكيف صفته وكذلك سائر صفات الله جل وعز. (تهذيب اللغة)
قال الإمام ابن رجب الحنبلي رحمه الله:
ففي هذا الحديث: أن الله يأتيهم أول مرة فلا يعرفونه، ثم يأتيهم في المرة الثانية فيعرفونه
وفي الحديث السابق اختصار، وقد ساقه في مواضع أخر بتمامه.
وقد دل القرآن على ما دل عليه هذا الحديث في مواضع، كقوله: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَاتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ) [البقرة: 210].
وقال: (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَاتِيَهُمُ المَلائِكَةُ أَوْ يَاتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَاتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ) [الأنعام:
158]، وقال: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفاًّ صَفاًّ) [الفجر: 22].
ولم يتأول الصحابة ولا التابعون شيئاً من ذلك، ولا أخرجوه عن مدلوله، بل روي عنهم؛ يدل على تقريره والإيمان به وإمراره كما جاء. (فتح الباري لابن رجب)
قال الذهبي في كتاب الأربعين:
فهذا باب واسع في المجيء والإتيان الوارد في الكتاب والسنة وأقوال السلف في حق القيوم الدائم الذي لا يحول ولا يزول، نؤمن به، وبما ورد من نعوته، ونقف من حيث وقف القوم، ونسأل الله تعالى أن يثبت في قلوبنا الإيمان به وبأسمائه وصفاته. اهـ.
الإجماع في بيان مذهب أهل الحديث
1 – ما نقله الإمام الصابوني رحمه الله:
أخبرنَا أَبُو بكر الصَّابُونِي، أَنا وَالِدِي إِسماعيل الصَّابُونِي قَالَ: وَيثبت أَصْحَاب الحَدِيث نزُول الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كل لَيْلَة إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا من غير تَشْبِيه لَهُ بنزول المخلوقين، وَلَا تَمْثِيل، وَلَا تكييف، بل يثبتون لَهُ مَا أثْبته رَسُول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ – وينتهون فِيهِ إِلَيْهِ، ويمرون الْخَبَر الصَّحِيح الْوَارِد بِذكرِهِ عَلَى ظَاهره، ويكلون علمه إِلَى الله عَزَّ وَجَلَّ، وَكَذَلِكَ يثبتون مَا أنزلهُ عز اسْمه فِي كِتَابه من ذكر الْمَجِيء، والإتيان الْمَذْكُورين فِي قَوْله عَزَّ وَجَلَّ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَاتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَام وَالْمَلَائِكَة}. وَقَوله عز اسْمه: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صفا}.
(الحجة في بيان المحجة)
2_ ما نقله ابن سريج رحمه الله:
فصل
قَالَ أحد عُلَمَاء السّنة حرَام عَلَى الْعُقُول أَن تمثل الله، حرَام عَلَى الْخلق أَن يكيفوه، وعَلى الضمائر أَن تضمر فِيهِ غير الْمَنْقُول، وَحرَام عَلَى النُّفُوس أَن تتفكر فِيهِ وَحرَام عَلَى الْفِكر أَن يُدْرِكهُ، وَحرَام عَلَى كل أحد أَن يصفه إِلَّا بِمَا وصف بِهِ نَفسه فِي كِتَابه، أَو وَصفه بِهِ رَسُوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ – فِي أخباره الصَّحِيحَة عِنْد أهل النَّقْل وَالسَّلَف الْمَشْهُورين بِالسنةِ المعروفين بِالصّدقِ، وَالْعَدَالَة، وَجَمِيع آيَات الصِّفَات الَّتِي فِي الْقُرْآن وَالْأَخْبَار الصِّحَاح فِي الصِّفَات الَّتِي نقلهَا أهل الحَدِيث، وَاجِب عَلَى جَمِيع الْمُسلمين أَن يُؤمنُوا بهَا، ويسلموها، ويتركوا السُّؤَال فِيهِ وَعنهُ، لِأَن السُّؤَال فِي غوامضها بِدعَة، وَذَلِكَ قَول الله تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَاتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَام} وَقَوله: {وَجَاء رَبك وَالْملك صفا صفا} وَقَوله: (وَالْأَرْض جَمِيعًا قَبضته يَوْم الْقِيَامَة وَالسَّمَاوَات مَطْوِيَّات بِيَمِينِهِ}. وَمثل النَّفس، وَالْيَدَيْنِ، والسمع، وَالْبَصَر، وَالْكَلَام، والاستحياء، والدنو، والأولية والآخرية، والحياة والبقاء، والتجلي، وَالْوَجْه، والقدم، والقهر، وَالْمَكْر، وَغير ذَلِكَ مِمَّا ذكر الله من صِفَاته فِي كِتَابه، وَمَا ذكره رَسُول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ – فِي أخباره مثل قَوْله:
491 – خلق الله جنَّة عدن بِيَدِهِ، وغرس شَجَرَة طُوبَى بِيَدِهِ، وَكتب
التَّوْرَاة بِيَدِهِ. ونزوله كل لَيْلَة إِلَى السَّمَاء الدُّنْيَا، وَلَيْلَة النّصْف من شعْبَان، وغيرة الله تَعَالَى، وفرحته بتوبة العَبْد، واحتجابه برداء الْكِبْرِيَاء، وكلتا يَدَيْهِ يَمِين، وَحَدِيث القبضة، والحثيات، وَله كل يَوْم كَذَا نظرة إِلَى اللَّوْح الْمَحْفُوظ، وَإِلَى قلب الْمُؤمن. وَالْإِقْرَار بِأَن الْقُرْآن كَلَام الله عَزَّ وَجَلَّ غير مَخْلُوق، ومعراج النَّبِي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ – حق، وصعود أَرْوَاح الْمُؤمنِينَ إِلَيْهِ حق، وَغير ذَلِكَ مِمَّا صَحَّ عَنهُ وَثَبت. فعلى العَبْد أَن يُؤمن بِجَمِيعِ ذَلِكَ، وَلَا يؤوله تَاوِيل الْمُخَالفين، وَلَا يمثله تَمْثِيل الممثلين، وَلَا يزِيد فِيهِ، وَلَا ينقص عَنهُ، وَلَا يُفَسر مِنْهُ إِلَّا مَا فسره السّلف، ويمره عَلَى مَا أمروا، وَيقف حَيْثُ وقفُوا لَا يَقُول كَيفَ، وَلم؟ يقبل مَا قبلوه وَلَا يتَصَرَّف فِيهِ تصرف الْمُعْتَزلَة، والجهمية. هَذَا مَذْهَب أهل السّنة، وَمَا وَرَاء ذَلِكَ بِدعَة وفتنة، ثبتنا الله عَلَى الطَّرِيقَة المستقيمة بمنه وفضله.
(الحجة في بيان المحجة)
وقد ذكر الذهبي في كتاب الأربعين في صفات رب العالمين هذا الكلام أو بنحوه عن الإمام وقال ابن سريج الإمام ثم قال توفي سنة ست وثلاثمائة، وكان يفضل على فقهاء الشافعية حتى على المزني، وفهرست كتبه تشمل على أربعمائة مصنف. اهـ
وهذا يبين لك أن الكلام السابق في المحجة هو لابن سريج.
3 – ما نقله أبو عمرو الطلمنكي رحمه الله
وقال أبو عمرو الطلمنكي: ((أجمعوا – يعني: أهل السُّنَّة والجماعة – على أن الله يأتي يوم القيامة، والملائكة صفاً صفاً؛ لحساب الأمم وعرضها، كما يشاء وكيف يشاء، قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَاتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ (4)}، وقال تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفَّا صَفَّا} ((مجموع الفتاوى)) (5/ 578)
*المجيء والإتيان على نوعين
وَالْإِتْيَانُ وَالْمَجِيءُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى نَوْعَانِ: مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ، فَإِذَا كَانَ مَجِيءُ رَحْمَتِهِ أَوْ عَذَابِهِ كَانَ مُقَيَّدًا كَمَا فِي الْحَدِيثِ حَتَّى جَاءَ اللَّهُ بِالرَّحْمَةِ وَالْخَيْرِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ} [الأعراف: 52] وَقَوْلُهُ: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} [المؤمنون: 71] وَفِي الْأَثَرِ: لَا يَاتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلَّا اللَّهُ.
النَّوْعُ الثَّانِي: الْمَجِيءُ وَالْإِتْيَانُ الْمُطْلَقُ كَقَوْلِهِ: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} [الفجر: 22] وَقَوْلِهِ: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَاتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ} [البقرة: 210] وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا مَجِيئُهُ سُبْحَانَهُ، هَذَا إِذَا كَانَ مُطْلَقًا، فَكَيْفَ إِذَا قُيِّدَ بِمَا يَجْعَلُهُ صَرِيحًا فِي مَجِيئِهِ نَفْسِهِ كَقَوْلِهِ: {إِلَّا أَنْ تَاتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَاتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَاتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158] فَعَطَفَ مَجِيئَهُ عَلَى مَجِيءِ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ عَطَفَ مَجِيءَ آيَاتِهِ عَلَى مَجِيئِهِ (مختصر الصواعق المرسلة:1/ 448)
*الآدابُ المسلكيَّةُ المستفادةُ مِنَ الإيمانِ بصفةِ المجيءِ والإتيانِ لِلَّهِ – تَعَالَى -:
الثُمَّرةُ هِيَ الخوفُ مِنْ هَذَا المقامِ، وَهَذَا المشهدُ العظيمُ الَّذِي يأتي فِيهِ الرَّبُّ – عزَّ وجلَّ -، للفصلِ بينَ عبادِهِ، وتنزلُ الملائكةُ، ولاَ يبقى أمامَكَ إِلاَّ الرَّبُّ – عزَّ وجلَّ – والمخلوقاتُ كُلُّهَا، فإنْ عَمِلتَ خيراً، جوزيتَ بهِ، وإنْ عملْتَ سوى ذلِكَ، فإنَّكَ ستُجزى بهِ، كَمَا قَالَ النَّبيُّ – عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ -: ((إِنَّ الإِنْسَانَ يَخْلُو بِهِ اللَّهُ – عزَّ وجلَّ -، فَينظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ، فَلاَ يَرَى إِلاَّ مَا قَدَّم، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ، فَلاَ يَرى إِلاَّ مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرَ تِلْقاءَ وَجْهِهِ، فَلاَ يَرى إِلاَّ النَّارَ تِلْقاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّار، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ)).
فالإيمانُ بمثلِ هذِهِ الأشياءِ العظيمةِ لاَ شكَّ أنَّهُ يولِّدُ للإنسانِ رهبةً وخوفاً مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى -، واستقامةً عَلَى دينِهِ.
*تفسير أهل البدع
وهم على عادتهم مضطربون في هذا الأمر فمنهم من يقول
يأتي أمر الله، ومنهم من يقول يأتي ملك من ملائكة الله ومنهم من يقول أن الله يخلق فعلا يوم القيامة فيسميه إتيانا ومجيئا.
وخلاصة الرد عليهم أن يقال:
1 – أن الله أخبرنا يجيء هو والملك فلا يصح أن يقال يجيء الملك والملك وأيضا من قال أمره يقال على هذا يلزمكم أن الملك لا يجيء أيضا إنما أمره
كما كان معنى مجيء الرب -تبارك وتعالى- مجيء أمره.
فإن قال: لا أقول ذلك في الملك، ولكني أقول في الرب.
قيل له: فإن الخبر عن مجيء الرب -تبارك وتعالى- والملك خبرٌ واحدٌ، فزعمت في الخبر عن الرب -تعالى ذكره- أنه يجيء أمره لا هو؛ فزعمت في الملك أنه يجيء بنفسه لا أمره!
فإن زعم أن الفرق بينه وبينه: أن الملك خلقٌ لله جائزٌ عليه المجيء والإتيان، وليس ذلك على الله جائزاً.
قيل ما ذكرتموه مردود بنص الكتاب والسنة وأيضا يقال لكم كما أنه يسمع ويبصر ليس كالمخلوقات فكذلك أنه سبحانه يأتي ويجيء ليس كالمخلوقات فالباب واحد.
2 – والوجه الثاني أننا نقول لكم أن أمره سبحانه موجود في كل حين فلا وجه لخصوص مجيء أمره في هذا الوقت دون وقت آخر.
3 – الوجه الثالث إن جاز تأويله عَلَى إتيان الأفعال والملك جاز عمل قوله: ” إنكم ترون ربكم يوم القيامة ” عَلَى رؤية أفعاله وملكه وهكذا أمره وهكذا عطفه ورحمته، وقد أجمعنا ومثبتوا الصفات عَلَى خلاف ذَلِكَ.
4 – الوجه الرابع أن هذا حمل للدليل على غير الظاهر والأصل بقاء الظاهر إلا إن دل دليل على عدم إمكانية حمله على ظاهره ولا مانع هنا إلا ما زعمتم من الشبهة العقلية المعلولة.
5 – الوجه الخامس يبطل ما زعمتم الرواية الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: فَيَاتِيهِمُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي صُورَةٍ غَيْرِ صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللهِ مِنْكَ، هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَاتِيَنَا رَبُّنَا، فَإِذَا جَاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ، فَيَاتِيهِمُ اللهُ تَعَالَى فِي صُورَتِهِ الَّتِي يَعْرِفُونَ، فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا اهـ.
وهذا لا يتصور فِي أمره وملكه، لأنه لا يوصف بالربوبية ولا يصح اتباعه ولا يصح أن يقول ذلك ملك من ملائكته.
وقد قال الله – تعالى – عن الملائكة أجمعين: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِين َ}.
والله – تعالى – لا يأمره بذلك؛ لأن الله لا يأمر بالفحشاء والمنكر, فإن هذا شرك وكفر
وإن كان الملك يقول امتحاناً، فهذا لا يصلح، كما لا يصلح أن يقول أحد من الأنبياء والمرسلين للناس: أنا ربكم، على سبيل الامتحان.
بل لو كان الممتحن لهم في ذلك الموقف، ملكاً من الملائكة، لقال لهم: من ربكم؟ ومن تعبدون؟ ويقال لهم: هلا تذهبون مع ربكم؟ إذ من الممكن أن يظهر لهم صورة، ويقول لهم الملك: هلا تذهبون مع هذه الصورة؟ كما أنه في أول الحديث قال: وأذن مؤذن: لتتبع كل أمة ما كانت تعبد.
فلو كان المخاطب لهم عن الله – تعالى – لقال ما يصلح له، كما في نظائر ذلك، ولكن من شأن الجهمية أنهم يجعلون المخاطب للعباد بدعوى الربوبية غير الله، كما قالوا: إن الخطاب الذي سمعه موسى، بقوله: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ}، كان قائماً بمخلوق، كالشجرة، وكما قالوا: في قوله: ((من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟)). إنه يقول هذا ملك من الملائكة. وهذا كله من الكفر والإلحاد
6 – والوجه السادس أن القوم سألوه هل نرى ربنا؟ فذكر لهم الرؤية مع الإتيان فاقتضى ذَلِكَ إتيانا يرونه منه
7 – الوجه السابع يؤكد صحة مذهبنا وأن المراد بالإتيان والمجيء الذات قوله تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَاتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَاتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَاتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} فلما قصد إتيان الآيات والملائكة صرح بذلك وأيضا فرّق بين إتيان الملائكة، وإتيان الربّ، وإتيان بعض آيات الرب، فقسّم ونوّع، ومع هذا التقسيم يمتنع أن يكون القسمان واحدًا، فتأمله، ولهذا منع عقلاء الفلاسفة حمل مثل هذا اللفظ على مجازه، وقالوا: هذا يأباه التقسيم والتردي.
وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} عطف مجيء الملك على مجيئه سبحانه وتعالى يدلّ على تغاير المجيئين، وأن مجيئه سبحانه وتعالى حقيقةٌ كما أن مجيء الملك حقيقة، بل مجيء الرب أولى أن يكون حقيقة من مجيء الملك.
8 – الوجه الثامن يبطل دعواهم أنه ملك ما جاء في الحديث فلو كان القائل: أنا ربكم، ملكا، لكان الملك هو الذي اعترفوا آخراً أنه رب العالمين، وهو الذي سجدوا له، وهذا من أعظم الكفر والضلال.
9 – والوجه التاسع: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَجِيءُ وَالْإِتْيَانُ مُسْتَحِيلًا عَلَيْهِ لَكَانَ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنَّوْمِ وَالْغَفْلَةِ، وَهَكَذَا هُوَ عِنْدَكُمْ سَوَاءٌ، فَمَتَى عَهِدْتُمْ إِطْلَاقَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالنَّوْمِ وَالْغَفْلَةِ عَلَيْهِ وَنِسْبَتُهَا إِلَيْهِ نِسْبَةً مَجَازِيَّةً، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِغَيْرِهِ؟ وَهَلْ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مِنَ الْكَمَالِ الْبَتَّةَ؟ فَإِنَّ قَوْلَهُ: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22] وَأَتَى وَيَاتِي عِنْدَكُمْ فِي الِاسْتِحَالَةِ، مِثْلُ نَامَ وَأَكَلَ وَشَرِبَ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا يُطْلِقُ عَلَى نَفْسِهِ هَذِهِ الْأَفْعَالَ وَلَا رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا بِقَرِينَةٍ وَلَا مُطْلَقَةً فَضْلًا عَنْ تَطَرُّدِ نِسْبَتِهَا إِلَيْهِ، وَقَدِ اطَّرَدَ نِسْبَةُ الْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ، وَالنُّزُولِ وَالِاسْتِوَاءِ إِلَيْهِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الَّذِي نُسِبَ إِلَيْهِ ذَلِكَ غَيْرُهُ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ، فَكَيْفَ تُسَوَّغُ دَعْوَى الْمَجَازِ فِيهِ.
10 – والوجه العاشر أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي اللَّفْظِ دَلِيلٌ عَلَى تَعْيِينِ الْمَحْذُوفِ كَانَ تَعْيِينُهُ قَوْلًا عَلَى الْمُتَكَلِّمِ بِلَا عِلْمٍ، وَإِخْبَارًا عَنْهُ بِإِرَادَةِ مَا لَمْ يَقُمْ بِهِ دَلِيلٌ عَلَى إِرَادَتِهِ، وَكَذَلِكَ كَذَبَ عَلَيْهِ.
11 – الوجه حادي عشر أن هذا مما لم يقله أحد من السلف من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم وقريب منه وأشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقال:
قُلْت: وَتَاوِيلُ الْمَجِيءِ وَالْإِتْيَانِ وَالنُّزُولِ وَنَحْوِ ذَلِكَ – بِمَعْنَى الْقَصْدِ وَالْإِرَادَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ – هُوَ قَوْلُ طَائِفَةٍ. وَتَأَوَّلُوا ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى {ثُمَّ اسْتَوَى إلَى السَّمَاءِ} وَجَعَلَ ابْنُ الزَّاغُونِي وَغَيْرُهُ ذَلِكَ: هُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد. وَالصَّوَابُ: أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ التَّاوِيلَاتِ مُبْتَدَعَةٌ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ شَيْئًا مِنْهَا وَلَا أَحَدٌ مِنْ التَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ؛ وَهِيَ خِلَافُ الْمَعْرُوفِ الْمُتَوَاتِرُ عَنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ: أَحْمَد بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِ مِنْ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ. وَلَكِنَّ بَعْضَ الْخَائِضِينَ بِالتَّاوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ يَتَشَبَّثُ بِأَلْفَاظِ تُنْقَلُ عَنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ وَتَكُونُ إمَّا غَلَطًا أَوْ مُحَرَّفَةً اهـ (مجموع الفتاوى:409/ 5)
* الرد على شبهة تأويل الإمام أحمد
قالوا أنه جاء عن الإمام أحمد رحمه الله أنه قال [جاء ربك] أي أمره أو قدرته.
والرد على هذه الشبهة من عدة وجوه وهي كالتالي:
1 – أن هذه الرواية مما انفرد بها حنبل ومعلوم أن حنبل رحمه الله مع كونه ثقة إلا أنه يغرب وينفرد بأشياء لذلك عد هذا من أخطاءه التي انفرد بها.
قال الإمام أبو يعلى: قَالَ أَبُو إسحاق بن شاقلا: هَذَا غلط من حنبل لا شك فيه، وأراد أَبُو إسحاق بذلك أن مذهبه حمل الآية عَلَى ظاهرها فِي مجيء الذات هَذَا ظاهر كلامه والله أعلم (إبطال التأويلات)
ويؤيد هذا الوجه ما قاله ابن تيمية: وَلَمْ يَنْقُلْ هَذَا غَيْرُهُ مِمَّنْ نَقَلَ مُنَاظَرَتَهُ فِي ” الْمِحْنَةِ ” كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَد وَصَالِحِ بْنِ أَحْمَد والمروذي وَغَيْرِهِ اهـ (مجموع الفتاوى:5/ 399)
2 – أن هذه الرواية مخالفة للمشهور المتواتر عن الإمام أحمد من وجوب الإقرار بجميع الصفات.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: لا ريب أن المنقول المتواتر عن أحمد يناقض هذه الرواية اهـ؟
(3) أن حنبلا نفسه قد نقل عن الإمام احمد إثباته للصفات الفعلية وإنكاره على من زاد فيها كحديث النزول.
(4) أن الإمام احمد يروي عن قتادة أنه قال: يأتيهم الله في ظلل من الغمام وتأتيهم الملائكة عند الموت انتهى فيروي عن قتادة إثبات الإتيان بدون تأويل.
(5) أنه جاء عن الإمام احمد ما يدل على إثبات صفة المجيء
فقد استدل بقوله تعالى {وجاء ربك} على أن الله يرى
لذلك قال أبو يعلى:
وظاهر هذا أن أحمد أثبت مجيء ذاته انتهى.
قال أبو عبد الله: قول الله تعالى: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة} [البقرة: 210]، {وجاء ربك والملك صفا صفا} [الفجر: 22]، فمن قال: إن الله لا يرى، فقد كفر (الإبانة لابن بطة)
قال أبو يعلى رحمه الله: وظاهر هَذَا أن أَحْمَد أثبت مجيء ذاته، لأنه احتج بذلك عَلَى جواز رؤيته، وإنما يحتج بذلك عَلَى جواز رؤيته إذا كان الإتيان والمجيء مضافا إلى الذات
(إبطال التأويلات لأبي يعلى)
(6) أنه على فرض ثبوت هذا عن الإمام أحمد فإن لها وجها عند العلماء وهو أنه كان في معرض المناظرة وذكر هذا إلزاما للجهمية في مسألة القرآن لا قولا له بتأويل الصفة
قال الإمام ابن رجب الحنبلي في الفتح: إنما قال ذلك إلزاماً لمن ناظره في القرآن، فإنهم استدلوا على خلقه بمجيء القرآن، فقال: إنما يجيء ثوابه، كقوله: (وجاء ربك)، أي: كما تقولون أنتم في مجيء الله، أنه مجيء أمره، وهذا أصح المسالك في هذا المروي اهـ.
وقال ابن رجب أيضا في الفتح بعد ذكر أقوال الحنابلة في المجيء: ومنهم من يقر ذلك، ويمره كما جاء، ولا يفسره، ويقول: هو مجيء وإتيان يليق بجلال الله وعظمته سبحانه وهذا هو الصحيح عن أحمد، ومن قبله من السلف، وهو قول إسحاق وغيره من الأئمة. اهـ. راجع الاستقامة: (1) / (75) ومختصر الصواعق: (2) / (260)
وهذا الأثر هو عمدة كثير من المتأخرين يقول شيخ الإسلام: مَنْ يَذْهَبُ مِنْهُمْ إلَى التَّاوِيلِ – كَابْنِ عَقِيلٍ وَابْنِ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرِهِمَا – يَجْعَلُونَ هَذِهِ عُمْدَتَهُمْ. حَتَّى يَذْكُرَهَا أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ فِي تَفْسِيرِهِ؛ وَلَا يَذْكُرَ مِنْ كَلَامِ أَحْمَد وَالسَّلَفِ مَا يُنَاقِضُهَا. وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْمَنْقُولَ الْمُتَوَاتِرَ عَنْ أَحْمَد يُنَاقِضُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَيُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا يَقُولُ: إنَّ الرَّبَّ يَجِيءُ وَيَاتِي وَيَنْزِلُ أَمْرُهُ بَلْ هُوَ يُنْكِرُ عَلَى مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ. اهـ (مجموع الفتاوى:400/ 5)
*فائدة في مسألة الإتيان والنزول.
قد جاء عن العلماء أنهم يستدلون بآيات الإتيان على النزول روى عن أحمد بن سعيد الرياطي، قال: حضرت مجلس الأمير عبد الله بن طاهر، ذات يوم، وحضر إسحاق بن راهويه، فسئل عن حديث النزول، أصحيح هو؟ قال: نعم. فقال له بعض قواد عبد الله: يا أبا يعقوب، أتزعم أن الله ينزل كل ليلة؟ قال: نعم. قال: كيف ينزل؟ فقال له إسحاق: أثبته فوق، حتى أصف لك النزول، فقال الرجل: أثبته فوق؟!
فقال إسحاق: قال الله – عز وجل -: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفَّا صَفَّا}، فقال الأمير عبد الله: يا أبا يعقوب، هذا يوم القيامة، فقال إسحاق: أعز الله الأمير، ومن يجيء يوم القيامة من يمنعه اليوم؟ (عقيدة أصحاب الحديث))، ((مجموعة الرسائل المنيرية)) (1/ 112) ملخصاً.).
قال أبو سعيد الدارمي – رحمه الله -: فمن ما يعتبر به من كتاب الله – عز وجل – في النزول، ويحتج به على من أنكره: قوله – تعالى -: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَاتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلآئِكَةُ}، وقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفَّا صَفَّا}، وهذا يوم القيامة، فالذي يقدر على النزول يوم القيامة من السماوات كلها، للفصل بين عباده، قادر أن ينزل كل ليلة من سماء إلى سماء.
فإن ردوا قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم – في النزول، فماذا يصنعون بقول الله – عز وجل -؟)) (((رد عثمان بن سعيد على الجهمية)) (ص63).).
قال الإمام محمد بن أسلم الطوسي: قال الله: {هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة} وقال: {وجاء ربك والملك صفا صفا} فمن كذب بالنزول فقد كذب كتاب الله تعالى، وكذب رسول الله. (كتاب الأربعين في صفات رب العالمين للذهبي)