بيان الوسيلة في آيات القرآن الكريمة
سورة التوبة:
قال تعالى
(وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59).سورة التوبة
قال ابن كثير:
يَقُولُ تَعَالَى: {وَمِنْهمْ} أَيْ وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ {مَنْ يَلْمِزُكَ} أَيْ: يَعِيبُ عَلَيْكَ {فِي} قَسْم {الصَّدَقَاتِ} إِذَا فَرَّقْتَهَا، وَيَتَّهِمُكَ فِي ذَلِكَ … ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُنَبِّها لَهُمْ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ لَهُمْ، فَقَالَ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ أَدَبًا عَظِيمًا وَسِرًّا شَرِيفًا، حَيْثُ جَعَلَ الرِّضَا بِمَا آتَاهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالتَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} وَكَذَلِكَ الرَّغْبَةُ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ فِي التَّوْفِيقِ لِطَاعَةِ الرَّسُولِ وَامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وَتَرْكِ زَوَاجِرِهِ، وَتَصْدِيقِ أَخْبَارِهِ، وَالِاقْتِفَاءِ بآثاره.
قال ابن تيمية:
والرَّجاءُ مَقْرُونٌ بِالتَّوَكُّلِ فَإنَّ المُتَوَكِّلَ يَطْلُبُ ما رَجاهُ مِن حُصُولِ المَنفَعَةِ ودَفْعِ المَضَرَّةِ والتَّوَكُّلُ لا يَجُوزُ إلّا عَلى اللَّهِ كَما قالَ تَعالى: {وعَلى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} وقالَ: {وعَلى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلُونَ} وقالَ تَعالى: {إنْ
يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وإنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِن بَعْدِهِ وعَلى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} وقالَ تَعالى: {ولَوْ أنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ ورَسُولُهُ وقالُوا حَسْبُنا اللَّهُ سَيُؤْتِينا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ورَسُولُهُ إنّا إلى اللَّهِ راغِبُونَ} وقالَ تَعالى: {الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إيمانًا وقالُوا حَسْبُنا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ}. فَهَؤُلاءِ قالُوا: حَسْبُنا اللَّهُ أيْ كافِينا اللَّهُ فِي دَفْعِ البَلاءِ وأُولَئِكَ أُمِرُوا أنْ يَقُولُوا: حَسْبُنا فِي جَلْبِ النَّعْماءِ فَهُوَ سُبْحانَهُ كافٍ عَبْدَهُ فِي إزالَةِ الشَّرِّ وفِي إنالَةِ الخَيْرِ ألَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ ومَن تَوَكَّلَ عَلى غَيْرِ اللَّهِ ورَجاهُ خُذِلَ مِن جِهَتِهِ وحُرِمَ
مجموع الفتاوى 8/ 164
وراجع تفسير ابن تيمية المجموع
قال ابن القيم:
تَأمَّلْ كَيْفَ جَعَلَ الإيتاءَ لِلَّهِ ولِرَسُولِهِ كَما قالَ تَعالى: {وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ}
وَجَعَلَ الحَسْبَ لَهُ وحْدَهُ، فَلَمْ يَقُلْ: وقالُوا: حَسْبُنا اللَّهُ ورَسُولُهُ، بَلْ جَعَلَهُ خالِصَ حَقِّهِ، كَما قالَ تَعالى: {إنّا إلى اللَّهِ راغِبُونَ}
وَلَمْ يَقُلْ: وإلى رَسُولِهِ، بَلْ جَعَلَ الرَّغْبَةَ إلَيْهِ وحْدَهُ، كَما قالَ تَعالى: {فَإذا فَرَغْتَ فانْصَبْ – وإلى رَبِّكَ فارْغَبْ}.
فالرَّغْبَةُ والتَّوَكُّلُ والإنابَةُ والحَسْبُ لِلَّهِ وحْدَهُ، كَما أنَّ العِبادَةَ والتَّقْوى والسُّجُودَ لِلَّهِ وحْدَهُ، والنَّذْرُ والحَلِفُ لا يَكُونُ إلّا لِلَّهِ سُبْحانَهُ.
(فائِدَة)
ما أخذ العَبْد ما حرم عَلَيْهِ إلّا من جِهَتَيْنِ:
إحْداهما سوء ظَنّه بربه وأنه لَو أطاعه وآثره لم يُعْطه خيرا مِنهُ حَلالا
والثّانيِة أن يكون عالما بذلك وأن من ترك لله شَيْئا أعاضه خيرا مِنهُ ولَكِن تغلب شَهْوَته صبره وهواه عقله فالأول من ضعف علمه، والثّانِي من ضعف عقله وبصيرته.
قالَ يحي بن معاذ من جمع الله عَلَيْهِ قلبه في الدُّعاء لم يردَّهُ.
قلت إذا اجْتمع عَلَيْهِ قلبه وصدقت ضَرُورَته وفاقته وقَوي رجاؤه فَلا يكاد يُردُّ دعاؤه.
قال أبوحيان:
وأتى أوَّلًا بِمَقامِ الرِّضا وهو فِعْلٌ قَلْبِيٌّ يَصْدُرُ عَمَّنْ عَلِمَ أنَّهُ تَعالى مُنَزَّهٌ عَنِ العَتَبِ والخَطَأِ عَلِيمٌ بِالعَواقِبِ، فَكُلُّ قَضائِهِ صَوابٌ وحَقٌّ، لا اعْتِراضَ عَلَيْهِ. ثُمَّ ثَنّى بِإظْهارِ آثارِ الوَصْفِ القَلْبِيِّ وهو الإقْرارُ بِاللِّسانِ، فَحَسْبُنا ما رَضِيَ بِهِ. ثُمَّ أتى ثالِثًا بِأنَّهُ تَعالى ما دامُوا في الحَياةِ الدُّنْيا مادٌّ لَهم بِنِعَمِهِ وإحْسانِهِ، فَهو إخْبارٌ حَسَنٌ إذْ ما مِن مُؤْمِنٍ إلّا ونِعَمُ اللَّهِ مُتَرادِفَةٌ عَلَيْهِ حالًا ومَآلًا، إمّا في الدُّنْيا، وإمّا في الآخِرَةِ. ثُمَّ أتى رابِعًا بِالجُمْلَةِ المُقْتَضِيَةِ الِالتِجاءَ إلى اللَّهِ لا إلى غَيْرِهِ، والرَّغْبَةَ إلَيْهِ، فَلا يُطْلَبُ بِالإيمانِ أخْذُ الأمْوالِ والرِّئاسَةِ في الدُّنْيا، ولَمّا كانَتِ الجُمْلَتانِ مُتَغايِرَتَيْنِ وهُما ما تَضَمَّنَ الرِّضا بِالقَلْبِ، وما تَضَمَّنَ الإقْرارَ بِاللِّسانِ، تَعاطَفَتا. ولَمّا كانَتِ الجُمْلَتانِ الأخِيرَتانِ مِن آثارِ قَوْلِهِمْ: حَسْبُنا اللَّهُ لَمْ تَتَعاطَفا، إذْ هُما كالشَّرْحِ لِقَوْلِهِمْ: حَسْبُنا اللَّهُ، فَلا تَغايُرَ بَيْنَهُما.
قال القنوجي:
(إنا إلى الله راغبون) فهاتان الجملتان كالشرح لقولهم (حسبنا الله) فلذلك لم يتعاطفا لأنهما كالشيء الواحد، فشدة الاتصال منعت العطف. قاله الكرخي.
قال السعدى:
{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} أي: أعطاهم من قليل وكثير. {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} أي: كافينا اللّه، فنرضى بما قسمه لنا، وليؤملوا فضله وإحسانه إليهم بأن يقولوا: {سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} أي: متضرعون في جلب منافعنا، ودفع مضارنا، لسلموا من النفاق ولهدوا إلى الإيمان والأحوال العالية
——————
قال تعالى
فإن تولوا فقل حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129).سورة التوبة
قال الطبري:
القول في تأويل قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ((129))}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فإن تولى، يا محمد، هؤلاء الذين جئتهم بالحق من عند ربك من قومك، فأدبروا عنك ولم يقبلوا ما أتيتهم به من النصيحة في الله، وما دعوتهم إليه من النور والهدى = {فقل حسبي الله}، يكفيني ربي {لا إله إلا هو}، لا معبود سواه = {عليه توكلت}، وبه وثقت، وعلى عونه اتكلت، وإليه وإلى نصره استندت، فإنه ناصري ومعيني على من خالفني وتولى عني منكم ومن غيركم من الناس {وهو رب العرش العظيم}، الذي يملك كلَّ ما دونه، والملوك كلهم مماليكه وعبيده.
وإنما عنى بوصفه جل ثناؤه نفسه بأنه رب العرش العظيم، الخبرَ عن جميع ما دونه أنهم عبيده، وفي ملكه وسلطانه، لأن “العرش العظيم”، إنما يكون للملوك، فوصف نفسه بأنه “ذو العرش” دون سائر خلقه، وأنه الملك العظيم دون غيره، وأن من دونه في سلطانه وملكه، جارٍ عليه حكمه وقضاؤه.
التفسير الميسر: فإن أعرض المشركون والمنافقون عن الإيمان بك -أيها الرسول- فقل لهم: حسبي الله، يكفيني جميع ما أهمَّني، لا معبود بحق إلا هو، عليه اعتمدت، وإليه فَوَّضْتُ جميع أموري؛ فإنه ناصري ومعيني، وهو رب العرش العظيم، الذي هو أعظم المخلوقات.
قال السعدى:
{فَإِنْ} آمنوا، فذلك حظهم وتوفيقهم، وإن {تَوَلَّوا} عن الإيمان والعمل، فامض على سبيلك، ولا تزل في دعوتك، وقل {حَسْبِيَ اللَّهُ} أي: الله كافيَّ في جميع ما أهمني، {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أي: لا معبود بحق سواه.
{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي: اعتمدت ووثقت به، في جلب ما ينفع، ودفع ما يضر، {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} الذي هو أعظم المخلوقات. وإذا كان رب العرش العظيم، الذي وسع المخلوقات، كان ربا لما دونه من باب أولى وأحرى.
————
سورة يونس:
قال تعالى:
{وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَة لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86)
قال القرطبي:
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقالَ مُوسى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ} أَيْ صَدَّقْتُمْ.
(بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا) أَيِ اعْتَمِدُوا.
(إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) كَرَّرَ الشَّرْطَ تَاكِيدًا، وَبَيَّنَ أَنَّ كَمَالَ الْإِيمَانِ بِتَفْوِيضِ الْأَمْرِ إِلَى اللَّهِ.
(فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا) أَيْ أَسْلَمْنَا أُمُورَنَا إِلَيْهِ، وَرَضِينَا بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَانْتَهَيْنَا إِلَى أَمْرِهِ.
(رَبَّنا لَا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) أَيْ لَا تَنْصُرْهُمْ عَلَيْنَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ فِتْنَةً لَنَا عَنِ الدِّينِ، أَوْ لَا تَمْتَحِنَّا بِأَنْ تُعَذِّبَنَا عَلَى أَيْدِيهِمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى لَا تُهْلِكْنَا بِأَيْدِي أَعْدَائِنَا، وَلَا تُعَذِّبْنَا بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِكَ، فَيَقُولُ أَعْدَاؤُنَا لَوْ كَانُوا عَلَى حَقٍّ لَمْ نُسَلَّطْ عَلَيْهِمْ، فَيُفْتَنُوا. وقال أبو مجلز وأبو الضحى: يَعْنِي لَا تُظْهِرْهُمْ عَلَيْنَا فَيَرَوْا أَنَّهُمْ خَيْرٌ منا فيزدادوا طغيانا.
قال الماوردي:
قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: {فَقالُوا عَلى اللَّهِ تَوَكَّلْنا} يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: في الإسْلامِ إلَيْهِ.
الثّانِي: في الثِّقَةِ بِهِ.
قال مكي:
أي: به وثقنا”، وهذا يدل على أن التوكل على الله عز وجل في جميع الأمور واجب، وأنه من كمال الإيمان. وقد قال الله عز وجل: {لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى: (36)]، وقال: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: (3)]، أي: فهو كافيه.
قال البقاعي: {فَعَلَيْهِ} أيْ: وحْدَهُ لِما عَلِمْتُمْ مِن عَظَمَتِهِ الَّتِي لا يُدايِنُها شَيْءٌ سِواهُ {تَوَكَّلُوا} ولْيَظْهَرْ عَلَيْكم أثَرُ التَّوَكُّلِ مِنَ الطُّمَانِينَةِ والثَّباتِ والسَّكِينَةِ {إنْ كُنْتُمْ} أيْ: كَوْنًا ثابِتًا {مُسْلِمِينَ} جامِعِينَ إلى تَصْدِيقِ القَلْبِ إذْعانَ الجَوارِحِ؛ وجَوابُ هَذا الشَّرْطِ ما دَلَّ عَلَيْهِ الماضِي مِن قَوْلِهِ: {فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا} {فَقالُوا} أيْ: عَلى الفَوْرِ كَما يَقْتَضِيهِ الفاءُ {عَلى اللَّهِ} أيِ الَّذِي لَهُ العَظَمَةُ كُلُّها وحْدَهُ {تَوَكَّلْنا} أيْ: فَوَّضْنا أُمُورَنا كُلَّها إلَيْهِ
قال الآلوسي:
(6) – {فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ((85)) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}
تقديم التوكل على الدعاء -وإن كان بياناً لامتثال أمر موسى عليه السلام لهم- به تلويح بأن الداعي حقه أن يبني دعاءه على التوكل على الله تعالى؛ فإنه أرجى للإجابة، ولا يتوهمن أن التوكل مناف للدعاء؛ لأنه أحد الأسباب للمقصود. [الألوسي: (11) / (226)]
قال الرازي:
واعْلَمْ أنَّ هَذا التَّرْتِيبَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ كانَ اهْتِمامُ هَؤُلاءِ بِأمْرِ دِينِهِمْ فَوْقَ اهْتِمامِهِمْ بِأمْرِ دُنْياهم، وذَلِكَ لِأنّا إنْ حَمَلْنا قَوْلَهم: {رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظّالِمِينَ} عَلى أنَّهم إنْ سُلِّطُوا عَلى المُسْلِمِينَ صارَ ذَلِكَ شُبْهَةً لَهم في أنَّ هَذا الدِّينَ باطِلٌ فَتَضَرَّعُوا إلى اللَّهِ تَعالى في أنْ يَصُونَ أُولَئِكَ الكُفّارَ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ، وقَدَّمُوا هَذا الدُّعاءَ عَلى طَلَبِ النَّجاةِ لِأنْفُسِهِمْ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ عِنايَتَهم بِمَصالِحِ دِينِ أعْدائِهِمْ فَوْقَ عِنايَتِهِمْ بِمَصالِحِ أنْفُسِهِمْ، وإنْ حَمَلْناهُ عَلى أنْ لا يُمَكِّنَ اللَّهُ تَعالى أُولَئِكَ الكُفّارَ مِن أنْ يَحْمِلُوهم عَلى تَرْكِ هَذا الدِّينِ كانَ ذَلِكَ أيْضًا دَلِيلًا عَلى أنَّ اهْتِمامَهم بِمَصالِحِ أدْيانِهِمْ فَوْقَ اهْتِمامِهِمْ بِمَصالِحِ أبْدانِهِمْ، وعَلى جَمِيعِ التَّقْدِيراتِ فَهَذِهِ لَطِيفَةٌ شَرِيفَةٌ
قال القاسمي:
قالَ الحاكِمُ: دَلَّتْ عَلى حُسْنِ السُّؤالِ بِالنَّجاةِ مِنَ الظُّلْمَةِ.
قال الشوكاني:
ولَمّا قَدَّمُوا التَّضَرُّعَ إلى اللَّهِ سُبْحانَهُ في أنْ يَصُونَ دِينَهم عَنِ الفَسادِ أتْبَعُوهُ بِسُؤالِ عِصْمَةِ أنْفُسِهِمْ فَقالُوا: {ونَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القَوْمِ الكافِرِينَ} وفي هَذا دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ كانَ لَهُمُ اهْتِمامٌ بِأمْرِ الدِّينِ فَوْقَ اهْتِمامِهِمْ بِسَلامَةِ أنْفُسِهِمْ.
قال السعدي:
{فَقَالُوا} ممتثلين لذلك {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي: لا تسلطهم علينا، فيفتنونا، أو يغلبونا، فيفتتنون بذلك، ويقولون: لو كانوا على حق لما غلبوا.
التفسير الميسر:
فقال قوم موسى له: على الله وحده لا شريك له اعتمدنا، وإليه فوَّضنا أمرنا، ربنا لا تنصرهم علينا فيكون ذلك فتنة لنا عن الدين، أو يُفتن الكفارُ بنصرهم، فيقولوا: لو كانوا على حق لما غُلبوا.
——.
سورة يوسف:
قال تعالى
(قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)
[سورة يوسف 33 – 34]
قال القرطبي:
أَيْ إِنْ لَمْ تَلْطُفْ بِي فِي اجْتِنَابِ الْمَعْصِيَةِ وَقَعْتُ فِيهَا.
(وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) أَيْ مِمَّنْ يَرْتَكِبُ الْإِثْمَ وَيَسْتَحِقُّ الذَّمَّ، أَوْ مِمَّنْ يَعْمَلُ عَمَلَ الْجُهَّالِ، وَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ أَحَدًا لَا يَمْتَنِعُ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إِلَّا بِعَوْنِ اللَّهِ، وَدَلَّ أَيْضًا عَلَى قُبْحِ الْجَهْلِ وَالذَّمِّ لِصَاحِبِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ} لِمَا قَالَ. “وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ” تَعَرَّضَ لِلدُّعَاءِ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ اصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ، فَاسْتَجَابَ لَهُ دُعَاءَهُ، وَلَطَفَ بِهِ وَعَصَمَهُ عَنِ الْوُقُوعِ في الزنى. “كَيْدَهُنَّ” قِيلَ: لِأَنَّهُنَّ جَمْعٌ قَدْ رَاوَدْنَهُ عَنْ نَفْسِهِ. وَقِيلَ: يَعْنِي كَيْدَ النِّسَاءِ. وَقِيلَ: يَعْنِي كَيْدَ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ، عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الآية قبل، والعموم أولى.
قال ابن تيمية:
في قول يوسف: … عبرتان: إحداهما: اختيار السجن والبلاء على الذنوب والمعاصي. و الثانية: طلب سؤال الله ودعائه أن يثبت القلب على دينه ويصرفه إلى طاعته، وإلا فإذا لم يثبت القلب صبا إلى الآمرين بالذنوب وصار من الجاهلين. ففي هذا توكل على الله واستعانة به أن يثبت القلب على الإيمان والطاعة، وفيه صبر على المحنة والبلاء والأذى الحاصل إذا ثبت على الإيمان والطاعة. [ابن تيمية: (4) / (39)]
قال ابن القيم:
* (فصل: فيمن آثر عاجل العقوبة والآلام على لذة الوصال الحرام)
هذا باب إنما يدخل منه رجلان أحدهما من تمكن من قلبه الإيمان بالآخرة وما أعد الله فيها من الثواب والعقاب لمن عصاه فآثر أدنى الفوتين واختار أسهل العقوبتين والثاني رجل غلب عقله على هواه فعلم ما في الفاحشة من المفاسد وما في العدول عنها من المصالح فآثر الأعلى على الأدنى وقد جمع الله سبحانه وتعالى ليوسف الصديق صلوات الله وسلامه عليه بين الأمرين فاختار عقوبة الدنيا بالسجن على ارتكاب الحرام فقالت المرأة ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين فاختار السجن على الفاحشة ثم تبرأ إلى الله من حوله وقوته وأخبر أن ذلك ليس إلا بمعونة الله له وتوفيقه وتأييده لا من نفسه فقال {وَإلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أصْبُ إلَيْهِنَّ وأكُنْ مِنَ الجاهِلِينَ} فلا يركن العبد إلى نفسه وصبره وحاله وعفته ومتى ركن إلى ذلك تخلت عنه عصمة الله وأحاط به الخذلان وقد قال الله تعالى لأكرم الخلق عليه وأحبهم إليه {وَلَوْلا أنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا}
ولهذا كان من دعائه يا مقلب
القلوب ثبت قلبي على دينك وكانت أكثر يمينه لا ومقلب القلوب كيف وهو الذي أنزل عليه {واعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وقَلْبِهِ} وقد جرت سنة الله تعالى في خلقه أن من آثر الألم العاجل على الوصال الحرام أعقبه ذلك في الدنيا المسرة التامة وإن هلك فالفوز العظيم والله تعالى لا يضيع ما تحمل عبده لأجله وفي بعض الآثار الإلهية يقول الله سبحانه وتعالى بعيني ما يتحمل المتحملون من أجلي وكل من خرج عن شيء منه لله حفظه الله عليه أو أعاضه الله ما هو أجل منه ولهذا لما خرج الشهداء عن نفوسهم لله جعلهم الله أحياء عنده يرزقون وعوضهم عن أبدانهم التي بذلوها له أبدان طير خضر جعل أرواحهم فيها تسرح في الجنة حيث شاءت وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش ولما تركوا مساكنهم له عوضهم مساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم
قال القاسمي:
{قالَ رَبِّ السِّجْنُ أحَبُّ إلَيَّ مِمّا يَدْعُونَنِي إلَيْهِ} أيْ مِن مُواتاتِها؛ لِأنَّهُ مَشَقَّةٌ قَلِيلَةٌ، تَعْقُبُها راحاتٌ أبَدِيَّةٌ. ثُمَّ فَزِعَ إلى اللَّهِ تَعالى في طَلَبِ العِصْمَةِ بِقَوْلِهِ: {وإلا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} يَعْنِي: ما أرَدْنَ مِنِّي {أصْبُ إلَيْهِنَّ} أيْ أمِلْ إلى إجابَتِهِنَّ بِمُقْتَضى البَشَرِيَّةِ {وأكُنْ مِنَ الجاهِلِينَ} أيْ بِسَبَبِ ارْتِكابِ ما يَدْعُونَنِي إلَيْهِ مِنَ القَبِيحِ.
قالَ أبُو السُّعُودِ: هَذا فَزَعٌ مِنهُ، عَلَيْهِ السَّلامُ، إلى ألْطافِ اللَّهِ تَعالى. جَرْيًا عَلى سُنَنِ الأنْبِياءِ والصّالِحِينَ، في قَصْرِ نَيْلِ الخَيْراتِ، والنَّجاةِ مِنَ الشُّرُورِ، عَلى جَنابِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، وسَلْبِ القُوى والقُدَرِ عَنْ أنْفُسِهِمْ، ومُبالَغَةً في اسْتِدْعاءِ لُطْفِهِ في صَرْفِ كَيْدِهِنَّ بِإظْهارِ أنْ لا طاقَةَ لَهُ بِالمُدافَعَةِ، كَقَوْلِ المُسْتَغِيثِ: أدْرِكْنِي وإلّا هَلَكْتُ، لا أنَّهُ يَطْلُبُ الإجْبارَ والإلْجاءَ إلى العِصْمَةِ والعِفَّةِ، وفي نَفْسِهِ داعِيَةٌ تَدْعُوهُ إلى هَواهُنَّ. انْتَهى.
قالَ القاشانِيُّ: وذَلِكَ الدُّعاءُ هو صُورَةُ افْتِقارِ القَلْبِ الواجِبِ عَلَيْهِ أبَدًا.
قال الشوكاني:
وجُمْلَةُ {إنَّهُ هو السَّمِيعُ العَلِيمُ} تَعْلِيلٌ لِما قَبْلَها مِن صَرْفِ كَيْدِ النِّسْوَةِ عَنْهُ: أيْ إنَّهُ هو السَّمِيعُ لِدَعَواتِ الدّاعِينَ لَهُ: العَلِيمُ بِأحْوالِ المُلْتَجِئِينَ إلَيْهِ.
قال السعدي:
وهذا يدل على أن النسوة، جعلن يشرن على يوسف في مطاوعة سيدته، وجعلن يكدنه في ذلك.
فاستحب السجن والعذاب الدنيوي على لذة حاضرة توجب العذاب الشديد، {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} أي: أمل إليهن، فإني ضعيف عاجز، إن لم تدفع عني السوء، {وَأَكُنْ} إن صبوت إليهن {مِنَ الْجَاهِلِينَ} فإن هذا جهل، لأنه آثر لذة قليلة منغصة، على لذات متتابعات وشهوات متنوعات في جنات النعيم، ومن آثر هذا على هذا، فمن أجهل منه؟ ” فإن العلم والعقل يدعو إلى تقديم أعظم المصلحتين وأعظم اللذتين، ويؤثر ما كان محمود العاقبة.
{فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ} حين دعاه {فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} فلم تزل تراوده وتستعين عليه بما تقدر عليه من الوسائل، حتى أيسها، وصرف الله عنه كيدها، {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} لدعاء الداعي {الْعَلِيمُ} بنيته الصالحة، وبنيته الضعيفة المقتضية لإمداده بمعونته ولطفه.
——-