بحث في الشكر والحمد والثناء
جمعه عبدالله الديني
بإشراف سيف بن دورة الكعبي
وشارك عبدالحميد و …
الحمد على نعمائه، والشكر على آلائه، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله … أما بعد:
من أعز أنواع المعرفة معرفة الرب سبحانه وتعالى بالجمال، وهي معرفة خواص الخلق، وكلهم عرفه بصفة من صفاته، وأتمهم معرفة من عرفه بكماله وجلاله وجماله سبحانه ليس كمثله شيء في سائر صفاته.
ويكفي في جماله “أنه لو كشف الحجاب عن وجهه لأحرقت سبحاته ما انتهى إليه بصره من خلقه” أخرجه مسلم.
ويكفي في جماله أن كل جمال ظاهر وباطن في الدنيا والآخرة فمن آثار صنعته، فما الظن بمن صدر عنه هذا الجمال.
ويكفي في جماله أن له العزة جميعاً، والقوة جميعاً، والجود كله، والاحسان كله، والعالم كله، والفضل كله، ولنور وجهه أشرقت الظلمات كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:” أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة”.
وقال عبد الله بن مسعود: ليس عند ربكم ليل ولا نهار، نور السموات والأرض من نور وجهه، فهو سبحانه نور السموات والأرض، ويوم القيامة إذا جاء لفصل القضاء تشرق الأرض بنوره.
ومن أسمائه الحسنى “الجميل”. وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم:” إن الله جميل يحب الجمال”. أبو داود 4091.
وجماله سبحانه على أربعة مراتب: جمال الذات، وجمال الصفات، وجمال الأفعال، وجمال الأسماء. فأسماؤه كلها حسنى، وصفاته كلها صفات كمال وأفعاله كلها حكمة ومصلحة وعدل ورحمة.
وأما جمال الذات وما هو عليه فأمر لا يدركه سواه ولا يعلمه غيره، وليس عند المخلوقين منه إلا تعريفات تعرّف بها الى من أكرمه من عباده فإن ذلك الجمال مصون عن الأغيار محجوب بستر الرداء والإزار كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” الكبرياء ردائي والعظمة إزاري” أبو داود 409. ولما كانت الكبرياء أعظم وأوسع كانت أحق بإسم الرداء، فإنه سبحانه الكبير المتعال فهو سبحانه العلي العظيم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: حجب الذات بالصفات، وحجب الصفات بالأفعال، فما ظنك بجمال حجب بأوصاف الكمال، وستر بنعوت العظمة والجلال.
ومن هذا المعنى يفهم البعض معاني جمال ذاته، فإن العبد يترقّى من معرفة الأفعال إلى معرفة الصفات، ومن معرفة الصفات إلى معرفة الذات فإذا شاهد شيئا من جمال الأفعال استدل به على جمال الصفات ثم استدل بجمال الصفات على جمال الذات. ومن هاهنا يتبين أنه سبحانه له الحمد كله، وأن أحداً من خلقه لا يحصي ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وأنه يستحق أن يعبد لذاته، ويشكر لذاته، وأنه سبحانه يحب نفسه، ويثني على نفسه، ويحمد نفسه، وأن محبته لنفسه، وحمده لنفسه، وثناءه على نفسه، وتوحيده لنفسه، هو في الحقيقة الحمد والثناء والحب والتوحيد، فهو سبحانه كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني به عليه خلقه، وهو سبحانه كما يحب ذاته يحب صفاته وأفعاله، فكل أفعاله حسن محبوب وإن كان في مفعولاته ما يبغضه ويكرهه، فليس في أفعاله ما هو مكروه مسخوط، وليس في الوجود ما يحب لذاته، ويحمد لذاته إلا هو سبحانه وتعالى، وكل ما يحب سواه، فإن كانت محبته تابعة لمحبته سبحانه بحيث يُحَبُ لأجله فمحبته صحيحة، وإلا فهي محبة باطلة، وهذا هو حقيقة الإلهية، فإن الله الحق هو الذي يحب لذاته ويحمد لذاته. فكيف إذا انضاف الى ذلك إحسانه وإنعامه وحلمه وتجاوزه وعفوه وبرّه ورحمته؟
فعلى العبد أن يعلم أنه لا اله الا الله. فيحبه ويحمده لذاته وكماله، وأن يعلم أنه لا محسن على الحقيقة بأصناف النعم الظاهرة والباطنة إلا هو، فيحبه لإحسانه وإنعامه، ويحمده على ذلك، فيحبه من الوجهين جميعا. وكما أنه ليس كمثله شيء فليس كمحبته محبة.
والمحبة مع الخضوع هي العبودية التي خلق الخلق لأجلها، فإنها غاية الحب بغاية الذل، ولا يصلح ذلك إلا له سبحانه. والإشراك به في هذا هو الشرك الذي لا يغفره الله ولا يقبل لصاحبه عملا.
وحمده يتضمن أصلين: الإخبار بمحامده وصفات كماله، والمحبة له عليها، فمن أخبر بمحاسن غيره من غير محبة له لم يكن حامداً. ومن أحبّه من غير إخبار بمحاسنه لم يكن حامداً حتى يجمع الأمرين، وهو سبحانه يحمد نفسه بما يجريه على ألسنة الحامدين له من ملائكته وأنبيائه ورسله وعباده المؤمنين، فهو الحامد لنفسه بهذا وهذا، فإن حمدهم له بمشيئته وإذنه وتكوينه، فإنه هو الذي جعل الحامد حامداً والمسلم مسلما والمصلي مصليا والتائب تائباً، فمنه ابتدأت النعم وإليه انتهت، فابتدأت بحمده وانتهت إلى حمده، وهو الذي ألهم عبده التوبة وفرح بها أعظم فرح، وهي من فضله وجوده. وهو سبحانه غني عن كل ما سواه بكل وجه، وما سواه فقير إليه بكل وجه، والعبد مفتقر إليه لذاته في الأسباب والغايات، فإن ما لا يكون به لا يكون، وما لا يكون له لا ينفع.
” الفوائد ” (260 – 263) لابن القيم الجوزية
قال العلامة ابن باز رحمه الله:
فالنعم أنواع منوعة: نعمة الصحة في البدن والسمع والبصر والعقل وجميع الأعضاء، وأعظم من ذلك وأكبر: نعمة الدين والثبات عليها والعناية بها والتفقه فيها، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِينًا} سورة المائدة (3)، فأعظم النعم نعمة الدين، وقد أرسل الله الرسل وأنزل الكتب حتى أبان لعباده دينه العظيم ووضحه لهم ثم وفقك أيها المسلم وهداك حتى كنت من أهله.
فهذه النعمة العظيمة التي يجب أن نشكر الله عليها غاية الشكر. وإنما يَعْرِفُ قدرَها وعظمتها من نظر في حال العالم وما نزل بهم من أنواع الكفر والشرك والضلال، وما ظهر بين العالم من أنواع الفساد والإنحراف وإيثار العاجلة والزهد في الآجلة، وما انتشر أيضا من أضرار الشيوعية والعلمانية وأفكار الدعاة لهما، ومعلوم ما تشتمل عليه هذه الأفكار من الكفر بالله وبجميع الأديان والرسالات والكتب المنزلة من السماء. وهكذا ما ابتلي به الكثير من الناس من عبادة أصحاب القبور والأوثان والأصنام وصرف خالص حق الله إلى غيره. وكذلك ما ابتلي به الكثير من البدع والخرافات وأنواع الضلال والمعاصي. وإنما تعرف النعم وعظم شأنها وما لأهلها من الخير عندما يعرف ضدها في هذه الشرور الكثيرة وما لأهلها من العواقب الوخيمة، فنعمة الإسلام عاقبتها الجنة والكرامة والوصول إلى دار النعيم بجوار الرب الكريم في دار لا يفنى نعيمها ولا يبلى شباب أهلها، ولا تزول صحتهم ولا أمنهم، بل هم في صحة دائمة وأمن دائم، وشباب لا يبلى وخير لا ينفد، وجوار للرب الكريم كما قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ * لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} سورة الدخان (51) – (56)، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وأما أهل الكفر والضلال فمصيرهم إلى دار الهون … إلى عذاب شديد وإلى جحيم وزقوم في دار دائمة لا ينتهي عذابها ولا يموت أهلها، كما قال الله سبحانه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} سورة فاطر (36)، فمن فكَّر في هذا الأمر وعرف نعمة الله عليه فإن الواجب عليه أن يشكر هذه النعمة بالثبات عليها، وسؤال الله سبحانه أن يوفقه للاستمرار عليها حتى الموت والحفاظ عليها بطاعة الله وترك معصيته، والتعوذ بالله من أسباب الضلال والفتن ومن أسباب زوال النعم. وعليه أيضا شكر النعم الأخرى غير نعمة الإسلام مما يحصل للعبد من الصحة والعافية وغير ذلك من نعم الله عز وجل الكثيرة: كالأمن في الوطن والأهل والمال. وقد يكون سَوْقُها إليك أيها العبد من أسباب إسلامك وإيمانك بالله، وقد يكون ذلك ابتلاء وامتحانا مع كفرك وضلالك. قد تمتحن بوجودك في محل آمن وصحة وعافية ومال كثير، وأنت مع ذلك منحرف عن الله وعن طاعته فهذا يكون من الإبتلاء والإمتحان وإقامة الحجة عليك ليزيد في عذابك يوم القيامة إذا مت على هذه الحالة السيئة. فالشكر حقيقته أن تقابل نعم الله بالإيمان به وبرسله ومحبته عز وجل، والإعتراف بإنعامه وشكره على ذلك بالقول الصالح والثناء الحسن والمحبة للمنعم وخوفه ورجائه والشوق إليه والدعوة إلى سبيله والقيام بحقه.
ومن الإيمان بالله ورسله الإيمان بأفضلهم وإمامهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والتمسك بشريعته.
فمن شُكْرِ الله أن تؤمن بالله إلها ومعبوداً حقاً وأنه الخلاق والرزاق العليم، وأنه المستحق لأن يعبد وحده، وتؤمن بأنه رب العالمين، وأنه لا إله غيره ولا معبود بحق سواه، وتؤمن بأسمائه وصفاته عز وجل، وأنه كامل في ذاته وأسمائه وصفاته لا شريك له ولا شبيه له ولا يقاس بخلق جل وعلا كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} سورة الشورى (11)، وقال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} سورة الإخلاص.
ومن الإيمان بالله سبحانه أن تؤمن بأنه هو المستحق للعبادة كما تقدم، كما قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} سورة الإسراء (23)، وقال تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} سورة الفاتحة (5) إلخ، وقال سبحانه: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} سورة غافر (14)، وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} سورة البقرة (21) إلخ، وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} سورة الذاريات (56) إلخ، وقال سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} سورة البينة (5) إلخ، فالله هو المستحق لأن يعبد وحده بدعائنا ورجائنا وخوفنا وصلاتنا ونذورنا وذبحنا وغير ذلك من أنواع العبادة. وبهذا تعلم أن ما يفعله الجهلة حول القبور من الدعاء والخوف والرجاء والذبح والنذر لأهلها – أن هذا هو الشرك الأكبر، وأنه يناقضه قول لا إله إلا الله …
كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا} سورة البقرة (21) – (22) إلخ، وقال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} سورة الأعراف (54) – (56)، ومن صرف العبادة لغير الله كمن صرفها للجن أو الملائكة أو للبدوي أو للحسين أو غيرهم من الخلق فقد أشرك بالله غيره، وعبد مع الله سواه، ونقض بذلك قوله: (لا إله إلا الله)، وكفر بنعم الله التي أنعم بها عليه بالصحة والعافية، وبالرسل وبرسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا أعظم كفر للنعم {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} سورة الحج (62) إلخ. وهذه العقيدة الصحيحة هي التي جاءت بها الرسل عليهم الصلاة والسلام وجاء بها أكملهم وإمامهم وأفضلهم ونصيبنا منهم محمد صلى الله عليه وسلم، جاء يدعو إلى توحيد الله والإخلاص له. وأرسل رسله إلى القبائل تدعوهم إلى توحيد الله عز وجل وإلى البلدان كذلك، كما بعث علياً ومعاذاً وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهم إلى اليمن.
وأقام في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو إلى توحيد الله عز وجل، وأقام في المدينة عشر سنين يدعو إلى توحيد الله واتباع شريعته، وإنما بدأ بالدعوة إلى التوحيد؛ لأنه هو الأساس، فهو أساس الإيمان والدين وأساس الشكر لله المُنْعِم، وبه بدأ الرسل كلهم كما قال الله سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} سورة النحل (36) الآية. فمن فاته توحيد الله والإخلاص له عز وجل فإن جميع أعمالهم كلها باطلة لا تنفعه بشيء، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} سورة الأنعام (88)، وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} سورة الزمر (65)، والشكر لله سبحانه على نعمة التوحيد وغيرها من النعم من أعظم الواجبات وأفضل القربات، وهو يكون بقلبك محبة لله وتعظيما له ومحبة فيه وموالاة فيه … شوقا إلى لقائه وجناته، فهو سبحانه العالي فوق خلقه والمستوي على عرشه استواءً يليق بجلاله وعظمته، وليس المعنى استولى كما تقول المبتدعة من الجهمية وغيرهم، بل هو بمعنى: ارتفع فوق عرشه كما قال السلف رحمهم الله بأنه فوق سمواته على عرشه بائن من خلقه سبحانه وتعالى يعلم كل شيء وليس يخفى عليه شيء سبحانه وتعالى. ومما اشتهر في ذلك قول مالك رحمه الله لما سئل عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} سورة طه (5) كيف استوى؟ فأجاب رحمه الله بقوله: (الإستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة) وبقوله قال أهل السنة والجماعة رحمهم الله.
والمراد بقوله: (والسؤال عنه بدعة) – يعني الكيف؛ لأنه لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، أما الاستواء فمعلوم، وهو العلو والارتفاع، وروي هذا المعنى عن أم سلمة رضي الله عنها وعن ربيعة ابن أبي عبد الرحمن شيخ مالك رحمة الله عليهما. ومن الشكر بالقلب لله أيضا محبة المؤمنين والمرسلين وتصديقهم فيما جاءوا به ولا سيما نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهم بلغوا الرسالة وأدوا الأمانة، كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ
أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} سورة النحل (36)، ومن الشكر بالقلب أيضا أن تعتقد جازما أن العبادة حق لله وحده ولا يستحقها أحد سواه. ومن الشكر لله بالقلب الخوف من الله ورجاؤه ومحبته حبا يحملك على أداء حقه وترك معصيته، وأن تدعو إلى سبيله وتستقيم على ذلك. ومن ذلك الإخلاص له والإكثار من التسبيح والتحميد والتكبير. ومن الشكر أيضاً الثناء باللسان وتكرار النطق بنعم الله والتحدث بها والثناء على الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن الشكر يكون باللسان والقلب والعمل. وهكذا شكر ما شرع الله من الأقوال يكون باللسان. وهناك نوع ثالث وهو الشكر بالعمل … بعمل الجوارح والقلب؛ ومن عمل الجوارح أداء الفرائض والمحافظة عليها كالصلاة والصيام والزكاة وحج بيت الله الحرام والجهاد في سبيل الله بالنفس والمال كما قال تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} الآية سورة التوبة (41). ومن الشكر بالقلب الإخلاص لله ومحبته والخوف منه ورجاؤه كما تقدم والشكر لله سبب للمزيد من النعم كما قال سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} سورة إبراهيم (7)، ومعنى تأذن: يعني أعلم عباده بذلك وأخبرهم أنهم إن شكروا زادهم وإن كفروا فعذابه شديد، ومن عذابه أن يسلبهم النعمة، ويعاجلهم بالعقوبة فيجعل بعد الصحة المرض، وبعد الخصب الجدب، وبعد الأمن الخوف، وبعد الإسلام الكفر بالله عز وجل، وبعد الطاعة المعصية. فمن شُكْرِ الله عز وجل أن تستقيم على أمره وتحافظ على شكره حتى يزيدك من نعمه، فإذا أبيت إلا كفران نعمه ومعصية أمره فإنك تتعرض بذلك لعذابه وغضبه، وعذابه أنواع؛ بعضه في الدنيا وبعضه في الآخرة.
ومن عذابه في الدنيا: سلب النعم كما قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} سورة الصف (5)، وتسليط الأعداء وعذاب الآخرة أشد وأعظم كما قال سبحانه: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} سورة البقرة (152)، وقال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} سورة سبأ (13)، فأخبر سبحانه أن الشاكرين قليلون وأكثر الناس لا يشكرون.
فأكثر الناس يتمتع بنعم الله ويتقلب فيها ولكنهم لا يشكرونها بل هم ساهون لاهون غافلون كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَاكُلُونَ كَمَا تَاكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} سورة محمد (12)، فلا يتم الشكر إلا باللسان واليد والقلب جميعا.
وبهذا المعنى يقول الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة *** يدي ولساني والضمير المحجبا
والمؤمن من شأنه أن يكون صبوراً شكوراً كما قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}.سورة إبراهيم، فالمؤمن صبور على المصائب شكور على النعم، صبور مع أخذه بالأسباب وتعاطيه الأسباب، فإن الصبر لا يمنع الأسباب، فلا يجزع من المرض ولكن لا مانع من الدواء.
فلا يجزع من قلة غلة المزرعة أو ما يصيبها ولكن يعالج المزرعة بما يزيل من أمراضها، فالصبر لازم وواجب، ولكن لا يمنع العلاج والأخذ بالأسباب. فالمؤمن يصبر على ما أصابه ويعلم أنه بقدر الله، وله فيه الحكمة البالغة ويعلم أن الذنوب شرها عظيم وعواقبها وخيمة فيبادر بالتوبة من الذنوب والمعاصي.
فعليك أيها المسلم أن تتوب إلى الله عز وجل حتى يصلح لك ما كان فاسداً ويرد عليك ما كان غائباً. وقد صح في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)) فقد يفعل الإنسان ذنبا يحرم به من نعم كثيرة. قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} سورة الشورى (30)
وقال جل وعلا: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} الآية سورة النساء (79)، وقال سبحانه: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} سورة الروم (41)، فالمصائب فيها دعوة للرجوع إلى الله وتنبيه للناس لعلهم يرجعون إليه. فالعلاج الحقيقي للذنوب يكون بالتوبة إلى الله وترك المعاصي والصدق في ذلك، ومن جملة ذلك العلاج: ما شرع الله من العلاج الحسي فإنه من طاعة الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((عباد الله تداووا ولا تتداووا بحرام)) فالمؤمن صبور عند البلايا في نفسه وأهله وولده، شكور عند النعم بالقيام بحقه والتوبة إليه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له)) رواه مسلم في الصحيح من حديث صهيب ابن سنان رضي الله عنه. ومن الشكر لله عز وجل لزوم السنة والحذر من البدع. فإن كثيرا من الناس قد يبتلى بالبدعة تقليداً وتأسياً بغيره، وأسبابها الجهل. والبدعة نوع من كفران النعم وعدم الشكر لله سبحانه وتعالى. انتهى كلام ابن باز
وهذا بحث أكثره اختصرناه من كتاب ” نضرة النعيم من مكارم أخلاق الرسول الكريم ” مع التصرف وبعض الزيادات القليلة.
والغاية من هذا الكتيب معرفة كيف يكون الحمد والشكر والثناء على الله عز وجل في ضوء الكتاب والسنة وما هي فوائد الشكر والحمد على العبد في الدنيا وما هي الثمرات التي يجينيها.
و قام بجمع هذا البحث وترتيبه: عبدالله الديني وشاركه مجموعة من طلبة العلم وهم:
-عبدالحميد البلوشي ……….
بإشراف الشيخ الدكتور سيف بن دوره الكعبي* الثناء لغة:
هـو ا?سم من قولهم: أثنى على ف?ن، والمصدر إثناء، يقال أثنى على ف?ن خيرا، قال الراغب: والثناء ما يذكر في محامد الناس فيثنى حا? فحا? ذكره، وقال ابن منظور: الثناء: تعمدك لتثني على إنسان بحسن أو قبيح، وقد طار ثناء ف?ن أي ذهـب في الناس، والفعل أثنى، يقال: أثنى ف?ن على الله ثم على المخلوقين يثني إثناء أو ثناء، يستعمل في القبيح من الذكر وضده (أي والحسن منه)، قال ابن ا?عرابي: يقال: أثنى إذا قال خيرا أو شرا.
راجع: الصحاح (6/ 2296).لسان العرب (1/ 517). ومفردات الراغب (ص82).والمصباح المنير (85 – 86).
* واصط?حا:
قال الجرجاني: الثناء للشيء: فعل ما يشعر بتعظيمه. ” التعريفات للجرجاني ” (72)
وقال الكفوي: هـو الك?م الجميل. وقيل: هـو الذكر بالخير، وقيل: هـو ا?تيان بما يشعر بالتعظيم مطلقا، سواء كان باللسان أو بالجنان أو با?ركان، وسواء كان في مقابلة شيء أو ?. ” الكليات للكفوي ” (2/ 124)
* الفرق بين الثناء والحمد والشكر:
الحمد هـو الثناء باللسان على الجميل ا?ختياري، نعمة كان أو غيرهـا يقال: حمدت الرجل على إنعامه وحمدته على شجاعته، وأما الشكر، فعلى النعمة خاصة، ويكون بالقلب واللسان والجوارح، قال الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ث?ثة … يدي ولساني والضمير المحجبا.
وعلى هـذا فبين الحمد والشكر عموم وخصوص من وجه، يجتمعان في الثناء باللسان على النعمة، وينفرد الحمد في الثناء باللسان على النعمة، وعلى ما ليس بنعمة من الجميل ا?ختياري، وينفرد الشكر بالثناء بالقلب والجوارح على خصوص النعمة فالحمد أعم متعلقاً وأخص آلة، والشكر بالعكس. ” مقدمة الواسطية ” للهراس (50 – 51).
قال ابن القيم- رحمه الله- إن الحمد إخبار عن محاسن المحمود مع حبه وتعظيمه، ف?بد فيه من اقتران ا?رادة بالخير، بخ?ف المدح فإنه إخبار مجرد.
“بدائع الفوائد ” (2/ 93).
(والمدح أعم من الحمد؛ ?ن المدح يكون على الجميل الاختياري وغير الاختياري كأن تقول مدحت اللؤلؤ لصفاته، فهنا الممدوح ليس مختاراً لصفاته والحمد أخص؛ لأنه يكون بذكر الجميل الاختياري فقط) ” المدح والحمد والشكر ” جمع وترتيب أم شهاب هالة يحيى صادق.
* الثناء على الله- عز وجل- في القرآن الكريم:
لقد تضمن القرآن الكريم آيات عديدة تتضمن ثناء على المولى عز وجل، وإذا كان من الثناء ما يشعر بتعظيم من يثنى عليه فإن حمد الله عز وجل وتسبيحه وتكبيره تدخل كلها في باب الثناء.
ا?يات الواردة في «الثناء» معنى:
أو?: الثناء على الله- عز وجل-:
1 – (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون (138)) سورة البقرة 138
2 – (ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب (165)) البقرة 165
3 – قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير (26) تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب (27)) آل عمران 26 – 27
4 – (تبارك الذي بيده الملك وهـو على كل شيء قدير (1) الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عم? وهـو العزيز الغفور (2) الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هـل ترى من فطور (3)) الملك 1 – 3
والآيات كثيرة في هذا الباب.
ثانيا: ثناء الم?ئكة على الله- عز وجل-:
قال تعالى: (وترى الم?ئكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين (75)) الزمر75.
ثالثا: ثناء ا?نبياء على الله- عز وجل-:
(وإذ يرفع إبراهـيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم (127) ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم (128) ربنا وابعث فيهم رسو? منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم (129))
البقرة 127 – 129
الأحاديث الواردة في الثناء:
1 – الثناء على الله:
عن أبي هـريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلى ص?ة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج (ث?ثا) غير تمام. فقيل ?بي هـريرة: إنا نكون وراء ا?مام. فقال: اقرأ بها في نفسك. فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول «قال الله تعالى: قسمت الص?ة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين. قال الله تعالى: حمدني عبدي. وإذا قال:الرحمن الرحيم. قال الله تعالى: أثنى علي عبدي وإذا قال: مالك يوم الدين. قال: مجدني عبدي (وقال مرة) فوض إلي عبدي. فإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين. قال: هـذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال: اهـدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم و? الضالين.
قال: هـذا لعبدي ولعبدي ما سأل») أخرجه مسلم
2 – الثناء على الخلق:
عن أنس- رضي الله عنه- قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أتاه المهاجرون فقالوا: يا رسول الله، ما رأينا قوما أبذل من كثير، و? أحسن مواساة من قليل من قوم نزلنا بين أظهرهـم لقد كفونا المؤنة وأشركونا في المهنأ حتى خفنا أن يذهـبوا با?جر كله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «?، ما دعوتم الله لهم وأثنيتم عليهم ” رواه الترمذي 2487
ا?حاديث الواردة في (الثناء) معنى:
1 – (عن أبي هـريرة- رضي الله عنه- قال:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا أخذنا مضجعنا أن نقول:
«اللهم رب السماوات ورب ا?رض ورب العرش العظيم. ربنا ورب كل شيء. فالق الحب والنوى، ومنزل التوراة وا?نجيل والفرقان. أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته. اللهم أنت ا?ول فليس قبلك شيء. وأنت ا?خر فليس بعدك شيء. وأنت الظاهـر فليس فوقك شيء. وأنت الباطن فليس دونك
شيء. اقض عنا الدين وأغننا من الفقر»)
رواه مسلم 2713
2 – عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: كنا إذا كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الص?ة، قلنا:الس?م على الله من عباده، الس?م على ف?ن وف?ن.فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «? تقولوا الس?م على الله، فإن الله هـو الس?م، ولكن قولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات، الس?م عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، الس?م علينا وعلى عباد الله الصالحين. فإنكم إذا قلتم ذلك أصاب كل عبد في السماء أو بين السماء وا?رض، أشهد أن ? إله إ? الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو») رواه البخاري (831) ومسلم (402)
المثل التطبيقي من حياة النبي صلى الله عليه وسلم في (الثناء)
1 – عن عائشة- رضي الله عنها- قالت:
فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش، فالتمسته، فوقعت يدي على بطن قدميه وهـو في المسجد، وهـما منصوبتان، وهـو يقول: «اللهم أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك ? أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» رواه مسلم (486)
2 – عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قام إلى الص?ة من جوف الليل: «اللهم لك الحمد، أنت نور السماوات وا?رض، ولك الحمد أنت قيام السماوات وا?رض، ولك الحمد أنت رب السماوات وا?رض ومن فيهن، أنت الحق، ووعدك الحق، وقولك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت وبك آمنت، وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وأخرت، وأسررت وأعلنت، أنت إلهي ? إله إ? أنت» رواه البخاري (7499) ومسلم (769) واللفظ له.
3 – عن أبي أمامة الباهـلي- رضي الله عنه- قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم، إذا رفع مائدته قال: «الحمد لله كثيرا طيبا مباركا فيه غير مكفي و? مودع، و? مستغنى عنه ربنا ”
رواه البخاري (5458)
من ا?ثار وأقوال العلماء الواردة في (الثناء)
1 – قال سلمان الفارسي- رضي الله عنه-:
«إن رج? بسط له من الدنيا فانتزع ما في يديه فجعل يحمد الله ويثني عليه حتى لم يكن إ? فراش، فجعل يحمد الله ويثني عليه، وبسط ?خر من الدنيا فقال لصاحب الفراش: أرأيتك أنت ع?م تحمد الله؟ قال:
أحمده على ما لو أعطيت به ما أعطي الخلق لم أعطهم إياه. قال: وما ذلك؟ قال: أرأيتك بصرك، أرأيتك لسانك، أرأيتك يديك، أرأيتك رجليك». ” عدة الصابرين ” (132).
2 – قال الشافعي- رحمه الله تعالى-:
«أحب أن يقدم المرء حمد الله تعالى والثناء عليه سبحانه وتعالى والص?ة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ” مقدمة مسائل النووي المسماة بالمسائل المنثورة ” (8).
3 – قال ابن القيم- رحمه الله تعالى-:
«يخرج العارف من الدنيا ولم يقض وطره من شيئين:
بكاؤه على نفسه وثناؤه على ربه. ” الفوائد ” (33)
4 – قال الزجاج: «سميت الفاتحة بالمثانى ?شتمالها على الثناء على الله تعالى وهـو حمد الله وتوحيده وملكه.”
* من فوائد (الثناء):
1 – يجلب المحبة ويوسع الرزق.
2 – مظهر من مظاهـر ا?لتزام بالسنة.
3 – عظم الثواب من ثمراته ورضا رب ا?رباب من أعظم ثوابه.
4 – دليل الرضا وسمت العرفان بالجميل.
5 – الثناء على الله يجتلب إحاطة الم?ئكة.
6 – الثناء على النبي صلى الله عليه وسلم يفتح باب قبول الدعاء.
7 – ا?فتتاح بالثناء يفتح باب التوفيق.
* الحمد لغة:
مصدر قولهم: حمد يحمد، وهـو مأخوذ من مادة (ح م د) التي تدل كما يقول ابن فارس على خ?ف الذم، يقال: حمدت ف?نا أحمده (مدحته)، ورجل محمود ومحمد، إذا كثرت خصاله المحمودة غير المذمومة.
قال ا?عشى يمدح النعمان:
إليك أبيت اللعن كان ك?لها … إلى الماجد الفرع الجواد المحمد
وتقول العرب: حماداك أن تفعل كذا أي غايتك وفعلك المحمود منك غير المذموم. وذكر الراغب: أن الحمد أخص من المدح؛ ?ن المدح يقال فيما يكون من ا?نسان باختياره أو من غير اختياره، والحمد ? يكون إ? لما فيه اختيار كبذل المال ونحوه.
راجع: “مقاييس اللغة” لابن فارس (2/ 100).
الصحاح (2/ 466).
الحمد اصط?حا:
قال الجرجاني: الحمد: هـو الثناء على الجميل من جهة التعظيم من نعمة وغيرهـا
وقال ابن القيم: الحمد: إخبار عن محاسن المحمود مع حبه وإج?له وتعظيمه.
وقال الراغب: الحمد لله تعالى: هـو الثناء عليه بالفضيلة.
” كتاب التعريفات” (93)، “بدائع الفوائد” (2/ 93)،
“المفردات” (131).
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في ” بدائع الفوائد ” (2/ 93): وقال ابن القيم- رحمه الله تعالى-: إن كل واحد من المدح والحمد يتضمن العلم بما يحمد به غيره ويمدحه ف? يكون مادحا و? حامدا من لم يعرف صفات المحمود والممدوح فإن تجرد عن العلم كان ك?ما بغير علم، فإن طابق فصدق وإ? فكذب. وقد جاء في السنة ما هـو أخص من الحمد وهـو الثناء الذي هـو تكرار المحامد كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم ?هـل قباء:
«ما هـذا الطهور الذي أثنى الله عليكم به» فإذا كان قد أثنى عليهم والثناء حمد متكرر فما يمنع حمده لمن شاء من عباده؟.
ثم الصحيح في تسمية النبي صلى الله عليه وسلم محمداً أنه الذي يحمده الله وم?ئكته وعباده المؤمنون وأما من قال الذي يحمده أهـل السماوات وأهـل ا?رض ف? ينافي حمد الله تعالى بل حمد أهـل السماوات وا?رض له بعد حمد الله له، فلما حمده الله حمده أهـل السماوات وا?رض.
وبالجملة، فإذا كان الحمد ثناء خاصا على المحمود لم يمتنع أن يحمد الله من يشاء من خلقه كما يثني عليه فالصواب في الفرق بين الحمد والمدح أن يقال: ا?خبار عن محاسن الغير إما أن يكون إخبارا مجردا من حب وإرادة أو مقرونا بحبه وإرادته: فإن كان ا?ول فهو المدح، وإن كان الثاني فهو الحمد، فالحمد إخبار عن محاسن المحمود مع حبه وإج?له وتعظيمه، ولهذا كان خبراً يتضمن ا?نشاء بخ?ف المدح؛ فإنه خبر مجرد، فالقائل إذا قال: الحمد لله أو قال ربنا لك الحمد؛ تضمن ك?مه الخبر عن كل ما يحمد عليه تعالى باسم جامع محيط متضمن لكل فرد من أفراد الحمد المحققة والمقدرة. وذلك يستلزم إثبات كل كمال يحمد عليه الرب تعالى ولهذا ? تصلح هـذه اللفظة على هـذا الوجه و? تنبغي إ? لمن هـذا شأنه وهـو الحميد المجيد.
* معنى اسم الله ((الحميد)):
وقال ابن ا?ثير: في أسماء الله تعالى الحميد، أي المحمود على كل حال فعيل بمعنى مفعول.
“النهاية” (1/ 436).
وقال ابن القيم- رحمه الله تعالى-: في ذكر أسماء ا?لوهـية والربوبية والرحمة والملك بعد الحمد – أي في سورة الفاتحة – ما يدل على إيقاعه على مضمونها ومقتضاهـا أي أنه محمود في إ?هـيته، محمود في ربوبيته، محمود في رحمانيته، محمود في ملكه، وأنه إله محمود، ورب محمود ورحمن محمود، وملك محمود، فله بذلك جميع أقسام الكمال والج?ل.
“التفسير القيم” (35).
ا?يات الواردة في ((الحمد)) منسوبا لله عز وجل:
1 – (الحمد لله رب العالمين) الفاتحة: 2.
2 – (وإذ قال ربك للم?ئكة إني جاعل في ا?رض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما ? تعلمون (30)) البقرة: 30.
3 – (قل الحمد لله وس?م على عباده الذين اصطفى آلله خير أما يشركون) النمل: 64
والآيات في الباب كثيرة.
* أما الآيات التي وردت أن الحمد صفة لله عز وجل:
1 – (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من ا?رض و? تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إ? أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد) البقرة: 267.
2 – (ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هـو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد (6)) سبأ: 4 – 6.
3 – (إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهـم وإنه لكتاب عزيز (41) ? يأتيه الباطل من بين يديه و? من خلفه تنزيل من حكيم حميد (42)) لقمان: 26.
* الأحاديث الواردة في (الحمد):
1 – عن سمرة بن جندب- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحب الك?م إلى الله أربع:
سبحان الله، والحمد لله، و? إله إ? الله، والله أكبر. ? يضرك بأيهن بدأت … )) رواه مسلم (2137)، والبخاري تعليقا.
2 – عن أبي موسى ا?شعري- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ولد العبد، قال الله لم?ئكته: قبضتم ولد عبدي. فيقولون: نعم. فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده. فيقولون: نعم. فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع. فيقول الله: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد))
رواه الترمذي (1021) الصحيحة 1408
3 – عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل ا?كلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها)) رواه مسلم (2734).
4 – عن رفاعة بن رافع- رضي الله عنه- قال: كنا يوما نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رفع رأسه من الركعة قال: «سمع الله لمن حمده». قال رجل: ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه. فلما انصرف قال: «من المتكلم؟». قال: أنا. قال: «رأيت بضعة وث?ثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أولا))
رواه البخاري (799).
*من ا?ثار وأقوال العلماء والمفسرين الواردة في (الحمد):
1 – قال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- لرجل سلم عليه: «كيف أصبحت؟ ((قال الرجل:
أحمد الله. قال عمر: ذاك الذي أردت))
“مختصر منهاج القاصدين” (277)
2 – قال حسان بن ثابت- رضي الله عنه-:
أغر عليه من النبوة خاتم … من الله مشهود يلوح ويشهد.
وضم ا?له اسم النبي إلى اسمه … إذ قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من اسمه ليجله … فذو العرش محمود وهـذا محمد.
3 – رأى بكر بن عبد الله المزني- رحمه الله تعالى- حما?ً عليه حمله وهـو يقول: «الحمد لله أستغفر الله»، قال: فانتظرته حتى وضع ما على ظهره وقلت له: «أما تحسن غير هـذا؟» قال: «بلى أحسن خيراً كثيراً، أقرأ كتاب الله غير أن العبد بين نعمة وذنب، فأحمد الله على نعمه السابغة وأستغفره لذنوبي»، فقال: ((الحمال أفقه من بكر)).
” عدة الصابرين ” (124).
4 – قال الفضيل بن عياض- رحمه الله تعالى-: «من عرف نعمة الله بقلبه، وحمده بلسانه لم يستتم ذلك حتى يرى الزيادة. لقوله تعالى (لئن شكرتم ?زيدنكم (إبراهـيم/ 7)
“عدة الصابرين” (146).
* من فوائد (الحمد):
(1) إنه من أعلى مقامات ا?يمان.
(2) محبة الله- عز وجل- ونصرته.
(3) جلب النعم المفقودة والمحافظة على الموجودة.
(4) مجاورة العبد ربه- عز وجل- في أعلى مقامات الجنة.
(5) غفران الذنوب وستر العيوب.
(6) مجاورة الحمادين سعادة لمن جاورهـم وجالسهم.
(7) انشغال ا?نسان بذكر ربه عن الغيبة والنميمة، وعن كل ما يسخط الله- عز وجل-.
(8) قوة البدن وعافيته.
(9) أفضل من عتق الرقاب، والصدقة بحر المال.
(10) يجعل العبد دائما مطمئنا لقضاء الله ويوصله لمقام الرضا.
(11) ينفي عن العبد صفة المعترض على قضائه المهمل لشكر نعمائه. الشكر:
الشكر لغة:
مصدر شكر يشكر، وهـو مأخوذ من مادة (ش ك ر) التي تدل على «الثناء على ا?نسان بمعروف يُوليكه»
ويقال: إن حقيقة الشكر الرضا باليسير، ومن ذلك فرس شكور إذا كفاه لسمنه العلف القليل.
قال ا?عشى:
و? بد من غزوة في المصي … ف رَهـب تُكِل الوقاح الشكورا.
وقال الراغب: الشكر تصور النعمة وإظهارهـا، وقيل: هـو مقلوب عن الكشر أي الكشف: ويضاده الكفر الذي هـو نسيان النعمة وسترهـا. وقيل أصله من عين شكرى أي ممتلئة. فالشكر على هـذا هـو ا?مت?ء من ذكر المنعم عليه.
“مقاييس اللغة” لابن فارس (3/ 207)، والمفردات للراغب.
* ومعنى (الشكر) اصطلاحا:
قال الكفوي: الشكر كل ما هـو جزاء للنعمة عرفا، وقال أيضا: أصل الشكر: تصور النعمة وإظهارهـا، والشكر من العبد: عرفان ا?حسان، ومن الله المجازاة والثناء الجميل. “الكليات” (623).
??قال ابن القيم رحمه الله: الشكر ظهور أثر نعمة الله على لسان عبدة: ثناءً واعترافا، وعلى قلبه شهوداً ومحبة، وعلى جوارحه انقياداً وطاعةً.
مدراج السالكين ((2) / (244)).
?? الفرق بين الشاكر والشكور:
??قال المناوي: أن الشاكر من يشكر على الرخاء والشكور من يشكر على البلاء.
وقيل: الشاكر من يشكر على العطاء والشكور من يشكر على المنع.
وإذا وُصف الباري بالشكور فالمراد إنعامة على عباده.
“التوقيف على مهمات التعاريف ” ((207)).
* قال الشيخ عبد الرزاق العباد:
وقد ورد اسم الله (الشكور) في أربعة مواضع من القرآن.
قال الله تعالى: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} فاطر: (30)، وقال تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} فاطر: (34)،وقال تعالى: {وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} الشورى: (23)،وقال تعالى: {إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} التغابن: (17).
وورد الشاكر في موضعين:
قال تعالى: {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} البقرة: (158)،وقال تعالى: {مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِراً عَلِيماً} النساء: (147)
وجميع هذه المواضع الستة التي ورد فيها هذان الاسمان مواضع امتنان من الله عز و جل بإثابة المطيعين، وتوفية الأجور، والزيادة من الفضل، والمضاعفة للثواب، وهذا مما يبين لنا معنى هذين الاسمين، وأن الشكور الشاكر: هو الذي لا يضيع عنده عمل عامل، بل يضاعف الأجر بلا حسبان، الذي يقبل اليسير من العمل، ويثيب عليه الثواب الكثير والعطاء الجزيل، والنوال الواسع، الذي يضاعف للمخلصين أعمالهم بغير حساب، ويشكر الشاكرين، ويذكر الذاكرين، ومن تقرّب إليه شبرًا تقرّب إليه ذراعًا، ومن تقرّب إليه ذراعًا تقرّب إليه باعًا، ومن جاءه بالحسنة زاد له فيها حسنى، وآتاه من لدنه أجرًا عظيما.
وفي الآيات المتقدمة جمع بين الشكور والغفور، فهو سبحانه غفور للذنوب كلها مهما عظمت فلا يتعاظمه ذنبٌ أن يغفره، الشكور لكل عمل وإن قلَّ وإن كان مثقال ذرة، ولهذا لا يجوز للمسلم أن يقنط من غفران الله للذنوب مهما عظمت، كما لا يجوز له أن يحقر من أعمال البر شيئًا مهما قلّت؛ فإن الرب سبحانه غفور شكور.
” مختصر فقه الأسماء الحسنى” للبدر
?? منزلة الشكر من الايمان وثناء الله على الشاكرين:
??قال ابن القيم رحمه الله: قرن الله سبحانه وتعالى الشكر بالإيمان، وأخبر أنه لا غرض له في عذاب خلقه إن شكروا وآمنوا به فقال تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ} أي: إن وفيتم ما خلقكم له، وهو الشكر والإيمان فما أصنع بعذابكم.
عدة الصابرين ((118)).
?? القواعد التي يقوم عليها الشكر:
?? قال الفيروز آبادي رحمه الله: الشكر أعلى منازل السالكين، وفوق منزلة الرضا، فإنه يتضمن الرضا وزيادة، والرضا مندرج في الشكر، إذ يستحيل وجود الشكر بدونه، وهو نصف الايمان ومبناه على خمس قواعد:
(1) – خضوع الشاكر للمشكور.
(2) – وحبه له.
(3) – واعترافه بنعمته.
(4) – والثناء عليه بها.
(5) – وألا يستعملها فيما يكره.
فمتى فقد واحدة اختلت قاعدة من قواعد الشكر.
?? أنواع الشكر:
(1) – شكر القلب: وهو تصور النعمة.
(2) – شكر اللسان: وهو الثناء على المنعم.
(3) – شكر سائر الجوارح: وهو مكافأة النعمة بقدر استحقاقه.
المفردات للراغب ((265) – (266)).
?? العلاقة بين الشكر والصبر:
?? قال ابن حجر رحمه الله: الشكر يتضمن الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، وقال بعض الأئمة: الصبر يستلزم الشكر و لا يتم إلا به، و بالعكس فمتى ذهب أحدهما ذهب الآخر. فمن كان في نعمة ففرضه الشكر والصبر. أما الشكر فواضح وأما الصبر فعن المعصية، ومن كان في بلية ففرضه الصبر والشكر، أما الصبر فواضح و أما الشكر فالقيام بحق الله في تلك البلية، فإن لله على العبد عبودية في البلاء كما له عبودية في النعماء.
الفتح ((11) / (311)).
?? الشكر والابتلاء (بالخيرات):
??قال ابن كثير رحمه الله: وقوله: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) أي: نختبركم بالمصائب تارة، وبالنعم أخرى، لننظر من يشكر ومن يكفر، ومن يصبر ومن يقنط. (تفسير ابن كثير (3) / (178)).
??قال بعض السلف: البلاء يصبر عليه المؤمن والكافر ولا يصبر على العافية إلا الصديقون.
(عدة الصابرين (6664)).
?? آيات في الشكر:
1 – (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون) البقرة: 152.
2 – (يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون) البقرة: 143 – 144.
والآيات في هذا الباب كثيرة.
*? أحاديث في الشكر:
1 – عن أبي هريرة، أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم قال: بينما رجل يمشي بطريق إذ اشتد عليه العطش، فوجد بئرا (فنزل فيها)، فشرب فخرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ مني، فنزل البئر فملأ خفه ثم أمسكه بفيه حتى رقي، فسقى الكلب ((فشكر الله له فغفر له)). فقالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم لأجرا؟ قال: في كل كبد رطبة أجر.
(البخاري (4372) مسلم (1764)).
2 – عن صهيب الرومي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ ((إن أصابته سرّاء شكر))؛ فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر؛ فكان خيراً له.
مسلم ((2999)).
*? الاحاديث الواردة في الشكر معنى:
1 – عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله ليَرضى عن العبد أن يأكل الأَكلة، فيَحمده عليها، أو يشرب الشَّربة، فيحمده عليها.
مسلم ((2734)).
2 – عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا أحد أغيَر من الله عز وجل، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله، من أجل ذلك مدح نفسه، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين.
مسلم ((2760)).
? * المثل التطبيقي من حياة النبي في الشكر:
أعظم الناس شكرًا لله تعالى محمد بن عبد الله – صلى الله عليه وآله وسلم -، فهو إمام الشاكرين، وسيد العابدين، لقد امتزج الشكر بأنفاسه، وسار في عروقه، ورسخ في وجدانه، لبس حلّة الشكر، وارتدى برداء الثناء، ونطق لسانه بترانيم الشكر وعبقت جوارحه بأريج الثناء، وترجم شكره لله بأعمال زاكية، وأفعالٍ رائعة، وأقوال ذائعة، قام حتى تفطرت قدماه فقيل له في ذلك: لماذا تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فلم يزد على الإجابة الشافية، والعبارة الكافية: ((أفلا أكون عبدًا شكورًا))
??عن المغيرة بن شعبه رضي الله عنه قال: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليقوم ليصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه فيقال له فيقول: ” أفلا أكون عبدا شكورا “.
البخاري ((1130)).
و عن عائشة رضى الله عنها: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في المسجد وهما منصوبتان وهو يقول:
” اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك “.
مسلم ((486)).
?? آثار في الشكر:
??كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول في دعائه: (اللهم أسألك تمام النعمة في الأشياء كلها والشكر لك عليها حتى ترضى وبعد الرضا والخيرة في جميع ما تكون فيه الخيرة بجميع ميسر الأمور كلها لا معسورها يا كريم).
عدة الصابرين ((133)).
??قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما ابتليت ببلاء إلا كان لله تعالى علي فيه أربع نعم: إذ لم يكن في ديني، وإذا لم يكن أعظم منه، وإذ لم أحرم الرضا به، وإذ أرجو الثواب عليه.
مختصر منهاج القاصدين ((292) – (293)).
* الأمور المعينة على الشكر:
1. التفكر فيمن انحرف في الدين ووقع في الشرك والبدع والخرافات وفي قاذورات المعاصي، والله قد حفظك منها، فالواجب علينا شكر الله على جميل فضله وإنعامه علينا أن جعلنا من أهل التوحيد وعلى النهج الصحيح من بين خلقه كله فهذه أعظم نعمه منها الله علينا.
2. التفكر في المرضى والمبتلين، وقد فقدوا الصحة والعافية تشكر الله على الصحة والعافية.
3. التفكر في الذين يُقتّلون ويُشرّدون، وقد فقدوا نعمة الأمن والاستقرار وغيرها، فتشكر الله على اللطف والسلامة، إذ لم نكن نحن هم.
4. ولو ذهبنا إلى المقابر فنعلم أن أحب الأشياء إلى الموتى هو أن يرجعوا إلى الدنيا ليتدارك من عصى عصيانه، وليزيد في الطاعة من أطاع ولكن هيهات لهم، فالواجب علينا أن نشكر الله الذي بسط علينا الحياة والصحة والفراغ لنعمل صالحًا ونتوب إليه.
- التفكر في دسائس أمور نفسه وخفاياها الكثير من القبائح والذنوب المستورة، ولو كشف الغطاء ورفع الستير ستره عنا، واطلع عليها فرد من الخلق لافتضحنا وما ربحنا، فكيف لو اطلع الناس كلهم عليها في {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}، فالواجب علينا شكر الله بالستر الجميل على مساوئنا حيث أظهر الجميل وستر القبيح.
* بماذا يكون الشكر:
ولتعلم أن من أعظم ما يشكر العبد به ربه عز وجل هو عمل الجوارح من أداء الفرائض والمحافظة عليها كالصلاة والصيام والزكاة وحج بيت الله الحرام والجهاد في سبيل الله بالنفس والمال كما روى البخاري في صحيحه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ إسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ.
ويكون الشكر أيضا الثناء باللسان وتكرار النطق بنعم الله والتحدث بها (وأما بنعمة ربك فحدث) والثناء على الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهكذا شكر ما شرع الله من الأقوال يكون باللسان.
، ومن أعظمها وأسهلها وأخفها: ذكر الله تعالى.
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى. رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني.
ويكون الشكر بالقلب و الخوف من الله ورجاؤه ومحبته حبا يحملك على أداء حقه وترك معصيته وأن تدعو إلى سبيله وتستقيم على ذلك.
ومن الشكر الإخلاص له والإكثار من التسبيح والتحميد والتكبير ومحبته والخوف منه ورجاؤه كما تقدم والشكر لله سبب للمزيد من النعم كما قال سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}، ومعنى تأذن: يعني أعلم عباده بذلك وأخبرهم أنهم إن شكروا زادهم وإن كفروا فعذابه شديد، ومن عذابه أن يسلبهم النعمة، ويعاجلهم بالعقوبة فيجعل بعد الصحة المرض وبعد الخصب الجدب وبعد الأمن الخوف وبعد الإسلام الكفر بالله عز وجل وبعد الطاعة المعصية.
?? من فوائد الشكر:
(1) – من كمال الإيمان وحسن الإسلام إذ إنّه نصف والنّصف الآخر الصبر.
(2) – اعتراف بالمنعم والنعمة.
(3) – سبب من أسباب حفظ النعمة بل المزيد (ولئن شكرتم لأزيدنكم).
(4) – لا يكون باللّسان فقط بل اللّسان يعبّر عمّا في الجنان وكذلك يكون بعمل الجوارح والأركان.
(5) – يكسب رضا الرّبّ ومحبّته.
(6) – آثار الشكر الجزاء الذي قال الله تعالى عنه: ((وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ)) (آل عمران:144).
(7) – فيه دليل على سموّ النّفس ووفور العقل.
(8) – الشّكور قرير العين، يحبّ الخير للآخرين ولا يحسد من كان في نعمة.
(9) – منع العذاب عن الخلق، يقول الله عز وجل (ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم).
****
نسأل الله العلي القدير أن يجعلنا جميعا من الشاكرين لنعمه الظاهرة والباطنة آمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصل الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.