القول الصواب في سماع أصوات المعذبين في قبورهم من الأموات
بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد؛؛؛
فإن سماع الثقلين لأصوات المعذبين في قبورهم أمر غيبي لا يثبت إلا بدليل صحيح تقوم به الحجة، كما ثبت ذلك السماع للنبي صلى الله عليه وسلم، وثبت ضده لمن سواه.
فمن سماع النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصوات المعذبين في قبورهم؛ ما جاء في الصحيحين:
عن ابن عباس –رضي الله عنهما- قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بحائط من حيطان المدينة أو مكة، فسمع صوت إنسانَينِ يُعذَّبان في قبورِهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “يُعذَّبان وما يُعذَّبان في كبير”. ثم قال: “بلى، كان أحدهما لا يستتر من بوله، وكان الآخر يمشي بالنميمة”. ثم دعا بجريدة فكسرها كِسرَتين، فوضع على كل قبر كِسرَة، فقيل له: يا رسول الله لم فعلت هذا؟ قال: “لعله أن يُخفَّف عنهما ما لم تيبسا” (1).
ففي هذا الحديث دلالة ظاهرة على أن سماع صوت المعَذَّبَين في قبورهما؛ إنما سمعه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يسمعه من معه من الصحابة –رضي الله تعالى عنهم أجمعين-.
وتأتي هنا مسألة لا بد من بيانها وهي:
هل كسره -عليه الصلاة والسلام- للجريدة كِسرَتين، ووضعه على كل قبرٍ من القبرَين كِسرة؛ خاص فيه، أم هو من الأمور المشروعة التي يجوز لكل أحد أن يفعلها اقتداءً وتأسيا به -عليه الصلاة والسلام-؟.
والجواب: أنه لا يجوز لأحدٍ أن يفعل ذلك، وإنما هو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقد أطلعه الله -عز وجل- على ما في هذين القبرَين من العذاب، وعلى سبب عذابهما، بل وأسمعه صوت هذين المعَذَّبَين في قبورهما، فأراد بفعله هذا –عليه الصلاة والسلام- أن يخفف عنهما بشفاعته، ودليل ذلك ما جاء في صحيح مسلم من حديث جابر الطويل، أنه قال:
“إِني مَررت بقَبرَين يُعذَّبان، فأحببتُ بشفاعتي أن يُرَفَّهَ عنهما، ما دام الغُصنان رَطْبَين” (2).
قال العلامة محمد ناصر الدين الألباني –رحمه الله-:
“قد جاء في حديث جابر الطويل في صحيح مسلم (8/ 235) بيان التخفيف المذكور في الحديث وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: (إني مررت بقبرين يعذبان، فأحببت بشفاعتي أن يُرفَّه عنهما ما دام الغصنان رطبين).
فهذا نص على أن التخفيف سببه شفاعته (3) -صلى الله عليه وسلم- ودعاؤه لهما، وأن رطابة الغصنين إنما هي علامة لمدة الترفيه عنهما وليست سببا، وبذلك يظهر بدعية ما يصنعه كثير من الناس في بلادنا الشامية وغيرها من وضع الآس والزهور على القبور عند زيارتها، الأمر الذي لم يكن عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا أصحابه من بعده على ما في ذلك من الإسراف وإضاعة المال. والله المستعان” (4).
فتأمل في قوله –رحمه الله-: “وبذلك يظهر بدعية ما يصنعه كثير من الناس”.
فعد ذلك بدعة في الدين، ومخالفة لما شرعه رب العالمين.
وقال –رحمه الله-: ” ويؤيد كون وضع الجريد على القبر خاص به، وأن التخفيف لم يكن من أجل نداوة شقها أمور:
أ- حديث جابر رضي الله عنه الطويل في (صحيح مسلم) (8/ 231 – 236) وفية قال صلى الله عليه وسلم: (إني مررت بقبرين يعذبان، فأحببت بشفاعتي أن يرد عنهما ما دام الغصنان رطبين).
فهذا صريح في أن رفع العذاب إنما هو بسبب شفاعته صلى الله عليه وسلم ودعائه لا بسبب النداوة … ولأن كون النداوة سببا لتخفيف العذاب عن الميت مما لا يعرف شرعا ولا عقلا، ولو كان الأمر كذلك لكان أخف الناس عذابا إنما هو الكفار الذين يدفنون في مقابر أشبه ما تكون بالجِنان لكثرة ما يزرع فيها من النباتات والأشجار التي تظل مخضرة صيفا شتاء!
يضاف إلى ما سبق أن بعض العلماء كالسيوطي قد ذكروا أن سبب تأثير النداوة في التخفيف كونها تسبح الله تعالى، قالوا: فإذا ذهبت من العود ويبس انقطع تسبيحه! فإن هذا التعليل مخالف لعموم قوله تبارك وتعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (5).
ب- في حديث ابن عباس نفسه ما يشير إلى أن السر ليس في النداوة، أو بالأحرى ليست هي السبب في تخفيف العذاب، وذلك قوله: (ثم دعا بعسيب فشقه اثنين) يعني طولا، فإن من المعلوم أن شقه سبب لذهاب النداوة من الشق ويبسه بسرعة، فتكون مدة التخفيف أقل مما لو لم يشق، فلو كانت هي العلة لأبقاه صلى الله عليه وسلم بدون شق، ولوضع على كل قبر عسيبا أو نصفه على الأقل، فإذا لم يفعل دل على أن النداوة ليست هي السبب، وتعيَّن أنها علامة على مدة التخفيف الذي أذن الله به استجابة لشفاعة نبيه صلى الله عليه وسلم كما هو مصرح به في حديث جابر، وبذلك يتفق الحديثان في تعيين السبب، وإن احتمل اختلافهما في الواقعة وتعددها.
فتأمل هذا، فإنما هو شيء انقدح في نفسي، ولم أجد من نص عليه أو أشار إليه من العلماء، فإن كان صوابا فمن الله تعالى، وإن كان خطأ فهو مني، وأستغفره من كل ما لا يرضيه.
ج- لو كانت النداوة مقصودة بالذات، لفهم ذلك السلف الصالح ولعملوا بمقتضاه، ولوضعوا الجريد والآس ونحو ذلك على القبور عند زيارتها، ولو فعلوا لاشتهر ذلك عنهم، ثم نقله الثقات إلينا، لأنه من الأمور التي تلفت النظر، وتستدعي الدواعي نقله، فإذ لم ينقل دل على أنه لم يقع، وأن التقرب به إلى الله بدعة، فثبت المراد.
وإذا تبين هذا، سَهُل حينئذ فهمُ بطلان ذلك القياس الهزيل الذي نقله السيوطي في (شرح الصدور) عمن لم يُسَمِّه:
(فإذا خفف عنهما بتسبيح الجريدة فكيف بقراءة المؤمن القرآن؟ قال: وهذا الحديث أصل في غرس الأشجار عند القبور)
قلت: فيقال له: (أَثْبِت العرش ثم انقُش)، (وهل يستقيم الظل والعود أعوج)؟ ولو كان هذا القياس صحيحا لبادر إليه السلف لأنهم أحرص على الخير منا.
فدل ما تقدم على أن وضع الجريد على القبر خاصٌّ به صلى الله عليه وسلم، وأن السر في تخفيف العذاب عن القبرين لم يكن في نداوة العسيب بل في شفاعته صلى الله عليه وسلم ودعائه لهما، وهذا مما لا يمكن وقوعه مرة أخرى بعد انتقاله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ولا لغيره من بعده صلى الله عليه وسلم، لأن الاطلاع على عذاب القبر من خصوصياته عليه الصلاة والسلام، وهو من الغيب الذي لا يطلع عليه إلا الرسول كما جاء في نص القرآن: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} (6) ” (7).
وقال العلامة ابن عثيمين –رحمه الله-:
“ونقول استطرادا: إن بعض العلماء -عفا الله عنهم- قالوا: يسن أن يضع الإنسان جريدة رطبة، أو شجرة، أو نحوها على القبر ليخفف عنه، لكن هذا الاستنباط بعيد جدا ولا يجوز أن نصنع ذلك لأمور:
أولا: أننا لم يكشف لنا أن هذا الرجل يعذب بخلاف النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ثانيا: أننا إذا فعلنا ذلك فقد أسأنا إلى الميت، لأننا ظننا به ظن سوء أنه يعذب وما يدرينا فلعله ينعم، لعل هذا الميت ممن مَنَّ الله عليه بالمغفرة قبل موته لوجود سبب من أسباب المغفرة الكثيرة فمات وقد عفا رب العباد عنه، وحينئذ لا يستحق عذابا.
ثالثا: أن هذا الاستنباط مخالف لما كان عليه السلف الصالح الذين هم أعلم الناس بشريعة الله فما فعل هذا أحد من الصحابة -رضي الله عنهم- فما بالنا نحن نفعله.
رابعا: أن الله تعالى قد فتح لنا ما هو خير منه، فكان النبي -عليه الصلاة والسلام- إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: (استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل) ” (8).
ومن سماعه -صلى الله عليه وسلم- لأصوات المعذبين في قبورهم؛ ما جاء في الصحيحين أيضا:
عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم وقد وجبت الشمس، فسمع صوتا فقال: “يهود تعذب في قبورها” (9).
ومنه أيضا ما جاء في صحيح مسلم:
عن زيد بن ثَابت قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم في حائِطٍ لِبَنِي النَّجَّار، على بَغْلَةٍ له، ونحن معه، إِذ حَادَت به فكادَت تُلقِيهِ، وإذا أَقْبُرٌ ستَّةٌ أو خمسَةٌ أو أربَعَةٌ –قال: كَذا كان يقول الجُرَيْرِيُّ- فقال: “من يعرف أصحاب هذه الأقْبُر؟ ” فقال رجل: أنا. قال: “فمتى مات هؤلاء؟ ” قال: ماتوا في الإشراك، فقال: “إن هذه الأمة تُبْتَلى في قبورها، فلولا أن لا تَدَافنوا، لَدَعَوْتُ الله أن يُسمِعَكم من عذاب القبر الذي أسمع منه”. ثم أقبل علينا بوجهه فقال: “تعَوَّذوا بِالله من عذاب النار” قالوا: نَعوذ بِالله من عذاب النار، فقال: “تعَوَّذوا بِالله من عذاب القبر”. قالوا: نعوذ بِالله من عذاب القبر، قال: “تعَوذَّوا بِالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن”. قالوا: نعوذ بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، قال: “تعَوَّذوا بِالله من فتنة الدجال”. قالوا نعوذ بالله من فتنة الدجال. (10)
ففي قوله -صلى الله عليه وسلم-: “لَدَعَوْتُ الله أن يُسمِعَكم من عذاب القبر الذي أسمع منه” دليل ظاهر على أن الله -جل وعلا- خص نبيه –صلى الله عليه وسلم- بسماع هذه الأصوات دون سائر أمته.
وبهذا نعلم يقينا: أن هذا السماع لأصوات المعذبين في قبورهم؛ إنما كان خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم، لم يسمعه أحد من الثقلين معه.
بل أقول: لقد تضافرت الأدلة على عدم سماع الثقلين من الجن والإنس لهذه الأصوات، وأن غيرهم يسمع ذلك.
فعن عائشة –رضي الله عنها- قالت: دَخَلَت عليَّ عجوزان من عُجُزْ يهود المدينة، فقالتا لي: إن أهل القبور يعذبون في قبورهم، فكذبتُهما، ولم أنعمْ أن أصدِّقهما، فخرَجتا، ودخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، إن عجوزَين، وذكرتُ له. فقال: “صدقَتا، إنهم يُعذَّبون عذابا تسمعه البهائم كلها”. فما رأيته بعد في صلاة إلا يَتعوَّذ من عذاب القبر. (11)
وعنها أيضا قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “عذاب القبر حق” قالت: قلت: فلم يسمعه أحد؟ قال: “لا يسمعه الجن أو الإنس، ويسمعه غيرهم، أو قال: يسمعه الهوام” (12).
وعن أم مبشر قالت: دخل عليَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا في حائط من حوائط بني النَّجَّار، فيه قبور منهم قد ماتوا في الجاهلية، فسمعهم وهم يُعذَّبون، فخرج وهو يقول: ” استعيذوا بالله من عذاب القبر، قالت: قلتُ: يا رسول الله! وإنهم ليُعذَّبون في قبورهم؟ قال: نعم عذابا تسمعه البهائم” (13).
وعن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “العَبدُ إذا وُضِع في قبره وتُولِّيَ، وذهب أصحابه –حتى إنه ليَسمَعُ قرعَ نعالهم- أتاه ملكان فأقعداهُ، فيقولان له: ما كنتَ تقول في هذا الرجل محمد صلى الله عليه وسلم؟ فيقول: أشهد أنه عبدُ اللهِ ورسوله. فيقال: انظر إلى مقعدك من النار، أبدلك الله به مقعدا من الجنة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فيراهما جميعا، وأما الكافر أو المنافق فيقول: لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس، فيقال: لا دريت ولا تليت. ثم يُضرب بمطرقة من حديد ضربةً بين أُذُنَيهِ، فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين” (14).
وعن أبي سعيد الخدري قال: شهدت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جنازة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “يا أيها الناس! إن هذه الأمة تُبتلى في قبورها، فإذا الإنسان دُفنَ فتفرَّق عنه أصحابُه؛ جاءه ملكٌ في يدهِ مِطراق فأقعدَه، قال: ما تقولُ في هذا الرجلِ؟ فإن كان مؤمنا؛ قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، فيقولُ: صدقْتَ، ثم يُفتحُ له بابٌ إلى النار فيقول: هذا كان منزلَكَ لو كفرْتَ بربك؛ فأمَّا إذ آمنتَ؛ فهذا منزلُكَ؛ فيُفتحُ له باب إلى الجنة، فيريدُ أن ينهض إليه، فيقول له: اسْكنْ! ويُفسحُ له في قبره.
وإن كان كافرا أو منافقا؛ يقول له: ما تقولُ في هذا الرَّجلِ؟ فيقول: لا أدْري، سمعتُ الناس يقولون شَيئا، فيقول: لا دريْتَ ولا تليْتَ ولا اهتديْتَ! ثم يُفتحُ له بابٌ إلى الجنة، فيقول: هذا منزلُك لو آمنْتَ بربِّك، فأمَّا إذْ كفرْتَ به، فإن الله عز وجل أبدَلك به هذا، ويُفتحُ له باب إلى النارِ، ثم يقمعهُ قَمْعة بالمطراقِ، يسمعُها خَلْقُ اللهِ كلّهم غيرَ الثّقلينِ.
فقال بعضُ القومِ: يا رسولَ الله! ما أحد ٌيقوم عليه مَلَكٌ في يدهِ مطراقٌ إلا هَبِلَ عند ذلك؟! فقالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} ” (15).
فالمتأمل في هذه النصوص يجد أن سماع أصوات المعذبين في قبورهم حاصل ومتحقق، تسمعه البهائم والهوام وغيرهم، إلا أن الله –تبارك وتعالى- قد حجب هذه الأصوات عن الثقلين –الجن والإنس-.
وبهذا جاءت الأدلة، وعلى مثله تضافرت النصوص، فمن زعم غير ذلك فعليه الدليل؛ وإلا رددنا عليه قوله.
وذلك أن عذاب القبر ونعيمه من الأمور الغيبية الداخلة في الإيمان باليوم الآخر؛ التي لا مجال فيها للرأي والاجتهاد، وإنما مدارها على الدليل الصحيح الذي تقوم به الحجة، كما ذكر ذلك العلماء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: “ومن الإيمان باليوم الآخر: الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، فيؤمن بفتنة القبر، وبعذابه، ونعيمه … إلخ” (16).
وقد علل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما لأجله حجب الله –تبارك وتعالى- سماع أصوات المعذبين في قبورهم عن الثقلين؛ كما في قوله:
“فلولا أن لا تَدَافنوا، لَدَعَوْتُ الله أن يُسمِعَكم من عذاب القبر الذي أسمع منه”.
قال الحافظ أبو العباس القرطبي –رحمه الله-: “وامتناع التدافن لو سمع عذاب القبر يحتمل أن يكون سببه: غلبة الخوف عند سماعه، فيغلب الخوف على الحي، فلا يقدر على قرب القبر للدفن، أو يهلك الحي عند سماعه؛ إذ لا يطاق سماع شيءٍ من عذاب الله في هذه الدار، بل: بنفس سماعه يهلك السامع؛ لضعف هذه القوى في هذه الدار، ألا ترى أنه إذا سمع الناس صعقة الرعد القاصف، أو الزلازل الهائلة هلك كثير من الناس؟ وأين (17) صعقة الرعد من صيحة الذي تضربه الملائكة بمطارق الحديد؛ التي يسمعها كل من يليه إلا الثقلين؟ وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (لو سمعها إنسان لصعق) ” (18).
وهذه اللفظة الأخيرة جاءت في الصحيح عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إذا وُضِعَت الجنازة واحتَمَلها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحةً قالت: قَدِّموني. وإن كانت غيرَ صالحةٍ قالت: يا وَيلَها، أين يذهبون بها؟ يسمعُ صوتَها كلُّ شيءٍ إلا الإنسان، ولو سَمِعَهُ صَعِقَ” (19).
ففي قوله: ” يسمعُ صوتَها كلُّ شيءٍ إلا الإنسان، ولو سَمِعَهُ صَعِقَ”، دليل على أنه لا طاقة للإنسان على تحمل مثل هذا السماع.
هذا مع العلم بأن الجنازة لم توضع في القبر بعد، كما هو لفظ الحديث: “إذا وُضِعَت الجنازة واحتَمَلها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحةً قالت: قَدِّموني. وإن كانت غيرَ صالحةٍ قالت: يا وَيلَها، أين يذهبون بها؟ … “.
فكيف بالإنسان لو سمع أصوات المعذبين في قبورهم، وقد دل الدليل على أنه لو سمعها قبل دفنها وتعرضها للعذاب لَصَعِق.
فمن حكمة الله –عز وجل- أن حجب سماع أصوات المعذبين في قبورهم عن الثقلين:
قال العلامة عبدالرحمن السعدي –رحمه الله-:
“ومن حكمة الله أن نعيم البرزخ وعذابه لا يحس به الإنس والجن بمشاعرهم، لأن الله تعالى جعله من الغيب، ولو أظهره لفاتت الحكمة المطلوبة” (20).
وقال العلامة ابن عثيمين –رحمه الله-:
” قوله: (إلا الإنسان)؛ يعني: أنه لا يسمع هذا الصياح، وذلك لحكم عظيمة؛ منها:
أولا: ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لولا أن لا تدافنوا؛ لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر).
ثانيا: أن في إخفاء ذلك سترا للميت.
ثالثا: أن فيه عدم إزعاج لأهله، لأن أهله إذا سمعوا ميتهم يعذب ويصيح؛ لم يستقر لهم قرار.
رابعا: عدم تخجيل أهله؛ لأن الناس يقولون: هذا ولدكم! هذا أبوكم! هذا أخوكم! وما أشبه ذلك.
خامسا: أننا قد نهلك؛ لأنها صيحة ليست هينة، بل صيحة قد توجب أن تسقط القلوب من معاليقها، فيموت الإنسان أو يغشى عليه.
سادسا: لو سمع الناس صراخ هؤلاء المعذبين؛ لكان الإيمان بعذاب القبر من باب الإيمان بالشهادة، لا من باب الإيمان بالغيب، وحينئذ تفوت مصلحة الامتحان؛ لأن الناس سوف يؤمنون بما شاهدوه قطعا؛ لكن إذا كان غائبا عنهم، ولم يعلموا به إلا عن طريق الخبر؛ صار من باب الإيمان بالغيب” (21).
وقال العلامة صالح الفوزان –حفظه الله-:
” (ولو سمعها الإنسان لصعق)؛ أي: خرَّ ميتا أو غُشيَ عليه، ومن حكمة الله أيضا أن ما يجري على الميت في قبره لا يحسُّ به الأحياء؛ لأن الله تعالى جعله من الغيب، ولو أظهره لفاتت الحكمة المطلوبة؛ وهي الإيمان بالغيب” (22).
وسئل العلامة ابن عثيمين –رحمه الله-: هل عذاب القبر من أمور الغيب أو من أمور الشهادة؟
فأجاب قائلا: عذاب القبر من أمور الغيب، وكم من إنسان في هذه المقابر يعذب ونحن لا نشعر به، وكم جار له منعم مفتوح له باب إلى الجنة ونحن لا نشعر به، فما تحت القبور لا يعلمه إلا علاّم الغيوب، فشأن عذاب القبر من أمور الغيب، ولولا الوحي الذي جاء به النبي -عليه الصلاة والسلام- ما علمنا عنه شيئا، ولهذا لما دخلت امرأة يهودية إلى عائشة وأخبرتها أن الميت يعذب في قبره فزعت حتى جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخبرته وأقر ذلك عليه الصلاة والسلام، ولكن قد يطلع الله تعالى عليه من شاء من عباده، مثل ما أطلع نبيه -صلى الله عليه وسلم- على الرجلين اللذين يعذبان، أحدهما يمشي بالنميمة، والآخر لا يستنزه من البول.
والحكمة من جعله من أمور الغيب هي:
أولا: أن الله -سبحانه وتعالى- أرحم الراحمين، فلو كنا نطلع على عذاب القبور لتنكد عيشنا، لأن الإنسان إذا أطلع على أن أباه، أو أخاه، أو ابنه، أو زوجه، أو قريبه يعذب في القبر ولا يستطيع فكاكه، فإنه يقلق ولا يستريح، وهذه من نعمة الله –سبحانه-.
ثانيا: أنه فضيحة للميت، فلو كان هذا الميت قد ستر الله عليه، ولم نعلم عن ذنوبه بينه وبين ربه -عز وجل- ثم مات وأطلعنا الله على عذابه، صار في ذلك فضيحة عظيمة له، ففي ستره رحمة من الله بالميت.
ثالثا: أنه قد يصعب على الإنسان دفن الميت كما جاء عن النبي -عليه الصلاة والسلام-: (لولا ألا تدافنوا لسألت الله أن يسمعكم من عذاب القبر). ففيه أن الدفن ربما يصعب ويشق ولا ينقاد الناس لذلك، وإن كان من يستحق عذاب القبر عذب ولو على سطح الأرض، لكن قد يتوهم الناس أن العذاب لا يكون إلا في حال الدفن فلا يدفن بعضهم بعضا.
الحواشي:
(1) متفق عليه، صحيح البخاري- كتاب الوضوء- باب: من الكبائر أن لا يستتر من بوله- حديث رقم: 216، صحيح مسلم- كتاب الطهارة- باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه- حديث رقم: 292.
(2) صحيح مسلم- كتاب الزهد والرقائق- باب حديث جابر الطويل وقصة أبي اليسر- حديث رقم: 3012.
(3) في الأصل: شفاعة، والصحيح ما أثبت.
(4) إرواء الغليل 1/ 313.
(5) الإسراء: 44.
(6) الجن: 26 – 27.
(7) أحكام الجنائز وبدعها- ص: 254.
(8) مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين 2/ 32.
(9) متفق عليه- صحيح البخاري- كتاب الجنائز- باب: التعوذ من عذاب القبر- حديث رقم: 1375، صحيح مسلم- كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها- باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر، والتعوذ منه – حديث رقم: 2869.
(10) صحيح مسلم- كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها- باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر، والتعوذ منه – حديث رقم: 2867.
(11) متفق عليه- صحيح البخاري- كتاب الدعوات- باب: التعوذ من عذاب القبر- حديث رقم: 6366، صحيح مسلم- كتاب المساجد ومواضع الصلاة- باب استحباب التعوذ من عذاب القبر- حديث رقم: 586.
(12) حسنه الألباني- السلسلة الصحيحة 3/ 365.
(13) صححه الألباني- السلسلة الصحيحة- حديث رقم: 1444.
(14) صحيح البخاري- كتاب الجنائز- باب: الميت يسمع خفق النعال- حديث رقم: 1338.
(15) صححه الألباني- السلسلة الصحيحة- حديث رقم: 3394.
(16) التنبيهات اللطيفة على ما احتوت عليه العقيدة الواسطية من المباحث المنيفة- ص: 78.
(17) في الأصل: أو أين، والصواب ما أثبت.
(18) المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 7/ 146.
(19) صحيح البخاري- كتاب الجنائز- باب: حمل الرجال الجنازة دون النساء- حديث رقم: 1314.
(20) التنبيهات اللطيفة على ما احتوت عليه العقيدة الواسطية من المباحث المنيفة- ص: 79.
(21) شرح العقيدة الواسطية 2/ 118.
(22) شرح العقيدة الواسطية- ص: 182.
(23) غافر: 84.
(24) مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين 2/ 32.
(25) أحكام الجنائز وبدعها- ص: 256.
(26) الجن: 26 – 27.
(27) تفسير الطبري 12/ 275.
(28) تفسير البغوي 5/ 163.
(29) روح المعاني 29/ 96.
(30) تيسير الكريم الرحمن 5/ 315.
(31) السلسلة الصحيحة 1/ 296.
(32) درء تعارض العقل والنقل 1/ 274.
(33) الجواب الصحيح 5/ 386.
(34) البقرة: 136.
(35) البقرة: 177.
(36) مجموع الفتاوى 24/ 376.
(37) درء تعارض العقل والنقل 1/ 277.
(38) الآيات البينات في عدم سماع الأموات- ص: 32.